١٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نّتّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ ...}.

يقول تعالـى ذكره: قالت الـملائكة الذين كان هؤلاء الـمشركون يعبدونهم من دون اللّه وعيسى: تنزيها لك يا ربنا وتبرئه مـما أضاف إلـيك هؤلاء الـمشركون، ما كان ينبغي لنا أن نتـخذ من دونك من أولـياء نوالـيهم، أنت ولـينا من دونهم، ولكن متعتهم بـالـمال يا ربنا فـي الدنـيا والصحة حتـى نَسُوا الذكر وكانوا قوما هَلْكي قد غلب علـيهم الشقاء والـخِذْلان.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٩٩٤٦ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وَلَكِنّ مَتّعْتَهُمْ وآبـاءَهُمْ حتـى نَسُوا الذّكْرَ وكانُوا قَوْما بُورا يقول: قوم قد ذهبت أعمالهم وهم فـي الدنـيا، ولـم تكن لهم أعمال صالـحة.

١٩٩٤٧ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وكانُوا قَوْما بُورا يقول: هلكى.

١٩٩٤٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: وكانُوا قَوْما بُورا يقول: هَلْكَى.

١٩٩٤٩ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الـحسن: وكانُوا قَوْما بُورا قال: هم الذين لا خير فـيهم.

١٩٩٥٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وكانُوا قَوْما بُورا قال: يقول: لـيس من الـخير فـي شيء. البور: الذي لـيس فـيه من الـخير شيء.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أنْ نَتّـخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أوْلِـياءٍ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار: نَتّـخِذَ بفتـح النون سوى الـحسن ويزيد بن القَعقاع، فإنهما قرآه: (أنْ نُتّـخَذَ) بضمّ النون. فذهب الذين فتـحوها إلـى الـمعنى الذي بـيّنّاه فـي تأويـله، من أن الـملائكة وعيسى ومن عُبد من دون اللّه من الـمؤمنـين هم الذين تبرّءوا أن يكون كان لهم ولـيّ غير اللّه تعالـى ذكره. وأما الذين قرءوا ذلك بضمّ النون، فإنهم وجهوا معنى الكلام إلـى أن الـمعبودين فـي الدنـيا إنـما تبرّءوا إلـى اللّه أن يكون كان لهم أن يُعْبدوا من دون اللّه جلّ ثناؤه، كما أخبر اللّه عن عيسى أنه قال إذا قـيـل أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّـخِذُونِـي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّه قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لـي أنْ أقُولَ ما لَـيْسَ لـي بِحَقَ ما قُلْتُ لَهُمْ إلاّ ما أمَرْتَنِـي بِهِ أنِ اعْبُدُوا اللّه رَبّـي وَرَبّكُمْ.

قال أبو جعفر: وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندي بـالصواب قراءة من قرأه بفتـح النون، لعلل ثلاث: إحداهنّ إجماع من القرّاء علـيها. والثانـية: أن اللّه جل ثناؤه ذكر نظير هذه القصة فـي سورة سَبَأ، فقال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعا ثم يقولُ للـملائكة أهؤلاءِ إياكُم كانُوا يَعْبُدون قالوا سُبْحَانك أنتَ وَلِـيّنا من دُونِهِمْ، فأخبر عن الـملائكة أنهم إذا سُئلوا عن عبـادة من عبدهم تبرّءُوا إلـى اللّه من ولايتهم، فقالوا لربهم: أنت ولـيّنا من دونهم، فذلك يوضّح عن صحة قراءة من قرأ ذلك: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أنْ نَتّـخِذ مِنْ دُونِكَ مِنْ أوْلِـياء بـمعنى: ما كان ينبغي لنا أن نتـخذهم من دونك أولـياء. والثالثة: أن العرب لا تدخـل (مِنْ) هذه التـي تدخـل فـي الـجحد إلاّ فـي الأسماء، ولا تدخـلها فـي الأخبـار، لا يقولون: ما رأيت أخاك من رجل، وإنـما يقولون: ما رأيت من أحد، وما عندي من رجل وقد دخـلت هاهنا فـي الأولـياء وهي فـي موضع الـخبر، ولو لـم تكن فـيها (مِنْ) ، كان وجها حسنا. وأما البُور: فمصدر واحد، وجمع للبـائر، يقال: أصبحت منازلهم بُورا: أي خالـية لا شيء فـيها، ومنه قولهم: بـارت السّوق وبـار الطعام: إذا خلا من الطّلاب والـمشتري فلـم يكن له طالب، فصار كالشيء الهالك ومنه قول ابن الزّبَعْرَى:

يا رَسُولَ الـمَلِـيك إنّ لسانِـيرَاتِقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ

وقد

قـيـل: إن بور: مصدر، كالعدل والزور والقطع، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث. وإنـما أريد بـالبور فـي هذا الـموضع أن أعمال هؤلاء الكفـار كانت بـاطلة لأنها لـم تكن للّه، كما ذكرنا عن ابن عباس .

﴿ ١٨