٢٣القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللّه عَلَيْهِ ...}. يقول تعالـى ذكره مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ بـاللّه ورسوله رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّه عَلَـيْه يقول: أوفوا بـما عاهدوه علـيه من الصبر علـى البأساء والضرّاء، وحين البأس فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ يقول: فمنهم من فرغ من العمل الذي كان نذره اللّه وأوجبه له علـى نفسه، فـاستشهد بعض يوم بدر، وبعض يوم أُحد، وبعض فـي غير ذلك من الـمواطن وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قضاءه والفراغ منه، كما قضى من مضى منهم علـى الوفـاء للّه بعهده، والنصر من اللّه ، والظفر علـى عدوّه. والنّـحب: النذر فـي كلام العرب. وللنـحب أيضا فـي كلامهم وجوه غير ذلك، منها الـموت، كما قال الشاعر: (قَضَى نَـحْبَهُ فِـي مُلْتَقَـى القَوْمِ هَوْبَرُ ) يعني : منـيته ونفسه ومنها الـخطر العظيـم، كما قال جرير: بِطَخْفَةَ جالَدْنا الـمُلُوكَ وَخَيْـلُنَاعَشِيّةَ بِسْطامٍ جَرَيْنَ عَلـى نَـحْبِ أي علـى خطر عظيـم ومنها النـحيب، يقال: نـحب فـي سيره يومه أجمع: إذا مدّ فلـم ينزل يومه ولـيـلته ومنها التنـحيب، وهو الـخطار، كما قال الشاعر: وإذْ نَـحّبَتْ كَلْبٌ علـى النّاس أيّهُمْأحَقّ بِتاجِ الـمَاجِدِ الـمُتَكَوّم؟ وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٢١٦٥٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي يزيد بن رومان مِنَ الـمُؤْمِنـينَ رجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّه عَلَـيْهِ: أي وفوا اللّه بـما عاهدوه علـيه فمنهم من قَضَى نَـحْبَهُ أي فرغ من عمله، ورجع إلـى ربه، كمن استشهد يوم بدر ويوم أُحد ومنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ما وعد اللّه من نصره والشهادة علـى ما مضى علـيه أصحابه. ٢١٦٥٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ قال: عهده فقتل أو عاش وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ يوما فـيه جهاد، فـيقضي نـحبه عهده، فـيقتل أو يصدق فـي لقائه. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن ابن جريج، عن مـجاهد فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ قال: عهده وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قال: يوما فـيه قتال، فـيصدق فـي اللقاء. قال: ثنا أبـي، عن سفـيان، عن مـجاهد فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ قال: مات علـى العهد. ٢١٦٦٠ـ قال: ثنا أبو أُسامة، عن عبد اللّه بن فلان قد سماه ذهب عنى اسمه عن أبـيه فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ قال: نذره. ٢١٦٦١ـ حدثنا ابن إدريس، عن طلـحة بن يحيى، عن عمه عيسى بن طلـحة: أن أعرابـيا أتـى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فسأله: من الذين قضوا نـحبهم؟ فأعرض عنه، ثم سأله، فأعرض عنه، ودخـل طلـحة من بـاب الـمسجد وعلـيه ثوبـان أخضران، فقال: (هَذَا مِنَ الّذِينَ قَضَوْا نَـحْبَهُمْ) . ٢١٦٦٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا هوّذة، قال: حدثنا عوف، عن الـحسن، قوله فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ قال: موته علـى الصدق والوفـاء. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الـموت علـى مثل ذلك، ومنهم من بدّل تبديلاً. حدثنـي مـحمد بن عمارة، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن سعيد بن مسروق، عن مـجاهد فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قال: النـحب: العهد. ٢١٦٦٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدوا اللّه عَلَـيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ علـى الصدق والوفـاء وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ من نفسه الصدق والوفـاء. ٢١٦٦٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ قال: مات علـى ما هو علـيه من التصديق والإيـمان وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ذلك. ٢١٦٦٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي بكير، قال شريك بن عبد اللّه ، أخبرناه عن سالـم، عن سعيد بن جُبَـير، عن ابن عباس فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ قال: الـموت علـى ما عاهد اللّه علـيه وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الـموت علـى ما عاهد اللّه علـيه. و قـيـل: إن هذه الاَية نزلت فـي قوم لـم يشهدوا بدرا، فعاهدوا اللّه أن يفوا قتالاً للـمشركين مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فمنهم من أوفـى فقضى نـحبه، ومنهم من بدّل، ومنهم من أوفـى ولـم يقض نـحبه، وكان منتظرا، علـى ما وصفهم اللّه به من صفـاتهم فـي هذه الاَية. ذكر من قال ذلك: ٢١٦٦٦ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن ثابت، عن أنس، أن أنس بن النضر تغيب عن قتال بدر، فقال: تغيبت عن أوّل مشهد شهده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، لئن رأيت قتالاً لـيرينّ اللّه ما أصنع فلـما كان يوم أُحُد، وهُزم الناس، لقـي سعد بن معاذ فقال: واللّه إنـي لأجدُ ريح الـجنة، فتقدّم فقاتل حتـى قُتل، فنزلت فـيه هذه الاَية: مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ رِجالُ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّه عَلَـيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد اللّه بن بكير، قال: حدثنا حميد، قال: زعم أنس بن مالك قال: غاب أنس بن النضر، عن قتال يوم بدر، فقال: غبت عن قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الـمشركين، لئن أشهدنـي اللّه قتالاً، لـيرينّ اللّه ما أصنع فلـما كان يوم أُحُد، انكشف الـمسلـمون، فقال: اللّه م إنـي أبرأ إلـيك مـما جاء به هؤلاء الـمشركون، وأعتذر إلـيك مـما صنع هؤلاء، يعني الـمسلـمين، فمشى بسيفه، فلقـيه سعد بن معاذ، فقال: أي سعد إنـي لأجد ريح الـجنة دون أُحُد. فقال سعد: يا رسول اللّه فما استطعت أن أصنع ما صنع. قال أنس بن مالك: فوجدناه بـين القتلـى، به بضع ثمانون جراحة، بـين ضربة بسيف، وطعنة برمـح، ورمية بسهم، فما عرفناه حتـى عرفته أخته ببنانه. قال أنس: فكنا نتـحدّث أن هذه الاَية مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّه عَلَـيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ نزلت فـيه، وفـي أصحابه. حدثنا سوار بن عبد اللّه ، قال: حدثنا الـمعتـمر، قال: سمعت حميدا يحدّث، عن أنس بن مالك، أن أنس بن النضر، غاب عن قتال بدر، ثم ذكر نـحوه. ٢١٦٦٧ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا طلـحة بن يحيى، عن موسى وعيسى بن طلـحة عن طلـحة أن أعرابـيا أتـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال: وكانوا لا يجرءون علـى مسألته، فقالوا للأعرابـي: سله مَنْ قَضَى نَـحْبَهُ من هو؟ فسأله، فأعرض عنه، ثم سأله، فأعرض عنه، ثم دخـلت من بـاب الـمسجد وعلـيّ ثـياب خُضر فلـما رآنـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (أيْنَ السّائِلـيُ عَمّنْ قَضَى نَـحْبَهُ؟) قال الأعرابـيّ: أنا يا رسول اللّه ، قال: (هَذَا مِـمّنْ قَضَى نَـحْبَهُ) . ٢١٦٦٨ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا عبد الـحميد الـحِمّانـي، عن إسحاق بن يحيى الطّلْـحِي، عن موسى بن طلـحة، قال: قام معاوية بن أبـي سفـيان، فقال: إنـي سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (طَلْـحَةُ مـمّنْ قَضَى نَـحْبَهُ) . حدثنـي مـحمد بن عمرو بن تـمام الكلبـي، قال: حدثنا سلـيـمان بن أيوب، قال: ثنـي أبـي، عن إسحاق، عن يحيى بن طلـحة، عن عمه موسى بن طلـحة، عن أبـيه طلـحة، قال: لـما قدمنا من أُحُد وصرنا بـالـمدينة، صعد النبي صلى اللّه عليه وسلم الـمنبر، فخطب الناس وعزّاهم، وأخبرهم بـما لهم فـيه من الأجر، ثم قرأ: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّه عَلَـيْهِ... الاَية، قال: فقام إلـيه رجل فقال: يا رسول اللّه ، من هؤلاء؟ فـالتفت وعلـيّ ثوبـات أخضران، فقال: (أيّها السّائِلُ هَذَا مِنْهُمْ) . و قوله: وَما بَدّلُوا تَبْدِيلاً: وما غيروا العهد الذي عاقدوا ربهم تغيـيرا، كما غيره الـمعوّقون القائلون لإخوانهم: هلّ إلـينا، والقائلون: إن بـيوتنا عورة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٢١٦٦٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَما بَدّلُوا تَبْديلاً يقول: ما شكّوا وما تردّدوا فـي دينهم، ولا استبدلوا به غيره. ٢١٦٧٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله وَما بَدّلُوا تَبْديلاً: لـم يغيروا دينهم كما غير الـمنافقون. |
﴿ ٢٣ ﴾