تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن

للإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري

إمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)

_________________________________

سورة ص

 مكية وآياتها ثمان وثمانون

بسم اللّه الرحمَن الرحيـم

١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {صَ وَالْقُرْآنِ ذِي الذّكْرِ}.

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي معنى قول اللّه عزّ وجلّ: ص، فقال بعضهم: هو من الـمصاداة، من صاديت فلانا، وهو أمر من ذلك، كأن معناه عندهم: صادٍ بعملك القرآن: أي عارضه به، ومن قال هذا تأويـله، فإنه يقرؤه بكسر الدال، لأنه أمر، وكذلك رُوي عن الـحسن ذكر الرواية بذلك:

٢٢٧٩٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: قال الـحسن ص قال: حادث القرآن.

٢٢٧٩٩ـ وحُدثت عن علـيّ بن عاصم، عن عمرو بن عبـيد، عن الـحسن، فـي قوله: ص قال: عارض القرآن بعملك.

حدثت عن عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة ، عن الـحسن، فـي قوله: ص والقرآن قال: عارض القرآن، قال عبد الوهاب: يقول اعرضه علـى عملك، فـانظر أين عملك من القرآن.

حدثنـي أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، عن هارون، عن إسماعيـل، عن الـحسن أنه كان يقرأ: ص والقرآن بخفض الدال، وكان يجعلها من الـمصاداة، يقول: عارض القرآن.

وقال آخرون: هي حرف هجاء. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٠٠ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: أما ص فمن الـحروف.

وقال آخرون: هو قسم أقسم اللّه به. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٠١ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: ص قال: قسم أقسمه اللّه ، وهو من أسماء اللّه .

وقال آخرون: هو اسم من أسماء القرآن أقسم اللّه به. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٠٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ص قال: هو اسم من أسماء القرآن أقسم اللّه به.

وقال آخرون: معنى ذلك: صدق اللّه . ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٠٣ـ حُدثت عن الـمسيب بن شريك، عن أبـي روق، عن الضحاك فـي قوله: ص قال: صدق اللّه .

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا عبد اللّه بن أبـي إسحاق وعيسى بن عمر، بسكون الدال، فأما عبد اللّه بن أبـي إسحاق فإنه كان يكسرها لاجتـماع الساكنـين، ويجعل ذلك بـمنزلة الاَداة، كقول العرب: تركته حاثِ بـاثِ، وخازِ بـازِ يخفضان من أجل أن الذي يـلـي آخر الـحروف ألف فـيخفضون مع الألف، وينصبون مع غيرها، فـيقولون حيث بـيث، ولأجعلنك فـي حيص بـيص: إذا ضيق علـيه. وأما عيسى بن عمر فكان يوفّق بـين جميع ما كان قبل آخر الـحروف منه ألف، وما كان قبل آخره ياء أو واو فـيفتـح جميع ذلك وينصبه، فـيقول: ص وق ون ويس، فـيجعل ذلك مثل الاَداة كقولهم: لـيتَ، وأينَ وما أشبه ذلك.

والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا السكون فـي كل ذلك، لأن ذلك القراءة التـي جاءت بها قرّاء الأمصار مستفـيضة فـيهم، وأنها حروف هجاء لأسماء الـمسميات، فـيعربن إعراب الأسماء والأدوات والأصوات، فـيسلك بهنّ مسالكهن، فتأويـلها إذ كانت كذلك تأويـل نظائرها التـي قد تقدم بـيانناها قبل فـيـما مضى.

وكان بعض أهل العربـية يقول: ص فـي معناها كقولك: وجب واللّه ، نزل واللّه ، وحقّ واللّه ، وهي جواب ل قوله: والقُرآنِ كما تقول: حقا واللّه ، نزل واللّه .

و قوله: والقُرآنِ ذِي الذّكْرِوهذا قسم أقسمه اللّه تبـارك وتعالـى بهذا القرآن فقال: والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: ذِي الذّكْرِ فقال بعضهم: معناه: ذي الشرف. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٠٤ـ حدثنا نصر بن علـيّ، قال: حدثنا أبو أحمد، عن قـيس، عن أبـي حصين، عن سعيد ص والقُرآنِ ذِي الذّكْر قال: ذي الشرف.

٢٢٨٠٥ـ حدثنا نصر بن علـيّ وابن بشار، قالا: حدثنا أبو أحمد، عن مسعر، عن أبـي حصين ذِي الذكْرِ: ذي الشرف.

٢٢٨٠٦ـ قال: ثنا أبو أحمد، عن سفـيان، عن إسماعيـل، عن أبـي صالـح أو غيره ذِي الذّكْرِ: ذي الشرف.

٢٢٨٠٧ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ قال: ذي الشرف.

٢٢٨٠٨ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا معاوية بن هشام، عن سفـيان، عن يحيى بن عُمارة، عن سعيد بن جبـير عن ابن عباس ص والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ ذي الشرف.

وقال بعضهم: بل معناه: ذي التذكير، ذكّركمُ اللّه به. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٠٩ـ حدثنا عن الـمسيب بن شريك، عن أبـي روق، عن الضحاك ذِي الذّكْرِ قال: فـيه ذكركم، قال: ونظيرتها: لَقَدْ أنْزَلْنا إلَـيْكُمْ كِتابـا فِـيهِ ذِكرُكُمْ.

٢٢٨١٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ذي الذّكْرِ: أي ما ذكر فـيه.

وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معناه: ذي التذكير لكم، لأن اللّه أتبع ذلك

٢

 قوله: بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي عِزّةٍ وَشِقاقٍ فكان معلوما بذلك أنه إنـما أخبر عن القرآن أنه أنزله ذكرا لعبـاده ذكّرهم به، وأن الكفـار من الإيـمان به فـي عزّة وشقاق.

واختلف فـي الذي وقع علـيه اسم القسم، فقال بعضهم وقع القسم علـى قوله: بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي عِزّةٍ وَشِقاقٍ. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨١١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي عِزّةٍ قال: ها هنا وقع القسم.

وكان بعض أهل العربـية يقول: (بل) دلـيـل علـى تكذيبهم، فـاكتفـى ببل من جواب القسم، وكأنه

قـيـل: ص، ما الأمر كما قلتـم، بل أنتـم فـي عزّة وشقاق. وكان بعض نـحويـي الكوفة يقول: زعموا أن موضع القسم فـي قوله: إنْ كُلٌ إلاّ كَذّبَ الرّسُلَ. وقال بعض نـحويـي الكوفة: قد زعم قوم أن جواب والقُرآنِ قوله: إنّ ذلكَ لَـحَقّ تَـخاصُمُ أهْلِ النّارِ قال: وذلك كلام قد تأخر عن قوله: والقُرآنِ تأخرا شديدا، وجرت بـينهما قصص مختلفة، فلا نـجد ذلك مستقـيـما فـي العربـية، واللّه أعلـم.

قال: ويقال: إن قوله: والقُرآنِ يـمين اعترض كلام دون موقع جوابها، فصار جوابها للـمعترض وللـيـمين، فكأنه أراد: والقرآن ذي الذكر، لَكَمْ أهلكنا، فلـما اعترض قوله بَل الّذِينَ كَفَرُوا فِـي عزّةٍ صارت كم جوابـا للعزّة والـيـمين. قال: ومثله قوله: والشّمْسِ وضُحاها اعترض دون الـجواب قوله: وَنَفْسٍ وَما سَوّاها فأَلْهَمَها فصارت قد أفلـح تابعة ل قوله: فألهمها، وكفـى من جواب القسم، فكأنه قال: والشمس وضحاها لقد أفلـح.

والصواب من القول فـي ذلك عندي، القول الذي قاله قتادة ، وأن قوله: بَلْ لـما دلّت علـى التكذيب وحلّت مـحلّ الـجواب استغنـي بها من الـجواب، إذ عُرف الـمعنى، فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك: ص والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ ما الأمر، كما يقول هؤلاء الكافرون: بل هم فـي عزّة وشقاق.

و قوله: بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي عِزّةٍ وَشِقاقٍ

يقول تعالـى ذكره: بل الذين كفروا بـاللّه من مشركي قريش فـي حمية ومشاقة، وفراق لـمـحمد وعداوة، وما بهم أن لا يكونوا أهل علـم، بأنه لـيس بساحر ولا كذّاب. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨١٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: فِـي عِزّةٍ وَشِقاقٍ قال: مُعازّين.

٢٢٨١٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فِـي عِزّةٍ وَشِقاقٍ: أي فـي حَمِيّة وفراق.

٢٢٨١٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي عِزّةٍ وَشِقاقٍ قال: يعادون أمر اللّه ورسله وكتابه، ويشاقون، ذلك عزّة وشِقاق، فقلت له: الشقاق: الـخلاف، فقال: نعم.

٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ }.

يقول تعالـى ذكره: كثـيرا أهلكنا من قبل هؤلاء الـمشركين من قريش الذين كذّبوا رسولنا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم فـيـما جاءهم به من عندنا من الـحقّ مِنْ قَرْنٍ يعني : من الأمـم الذين كانوا قبلهم، فسلكوا سبـيـلهم فـي تكذيب رسلهم فـيـما أتوهم به من عند اللّه فَنادَوْا يقول: فعجوا إلـى ربهم وضجوا واستغاثوا بـالتوبة إلـيه، حين نزل بهم بأس اللّه وعاينوا به عذابه فرارا من عقابه، وهربـا من ألـيـم عذابه وَلاتَ حِينَ مَناصٍ يقول: ولـيس ذلك حين فرار ولا هرب من العذاب بـالتوبة، وقد حقّت كلـمة العذاب علـيهم، وتابوا حين لا تنفعهم التوبة، واستقالوا فـي غير وقت الإقالة.

و قوله: مَناصٍ مفعل من النّوص، والنوص فـي كلام العرب: التأخر، والـمناص: الـمفرّ ومنه قول امرىء القـيس:

أمِنْ ذِكْرِ سَلْـمَى إذْ نأَتْكَ تَنُوصُفَتقْصِرُ عَنْها خَطْوَةً وَتَبوصُ

يقول: أو تقدّم يقال من ذلك: ناصنـي فلان: إذا ذهب عنك، وبـاصنـي: إذا سبقك، وناض فـي البلاد: إذا ذهب فـيها، بـالضاد. وذكر الفراء أن العقـيـلـي أنشده:

إذا عاشَ إسْحاقٌ وَشَيْخُهُ لَـمْ أُبَلْفَقِـيدا ولَـمْ يَصْعُبْ عَلـيّ مَناضُ

وَلَوْ أشْرَفَتْ مِنْ كُفّةِ السّتْرِ عاطِلاًلَقُلْتُ غَزَالٌ ما عَلَـيْهِ خُضَاضُ

والـخضاض: الـحلـيّ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨١٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق عن التـميـمي، عن ابن عباس فـي قوله: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال: لـيس بحين نزو، ولا حين فرار.

حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن التـميـمي، قال: قلت لابن عباس : أرأيت قول اللّه وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال: لـيس بحين نزو ولا فرار ضبط القوم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبـي إسحاق الهمدانـي، عن التـميـمي، قال: سألت ابن عباس ، قول اللّه وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال: لـيس حين نزو ولا فرار.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال: لـيس حين نزو ولا فرار.

٢٢٨١٦ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ يقول: لـيس حين مَغاث.

٢٢٨١٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن. قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قول اللّه : وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال: لـيس هذا بحين فرار.

٢٢٨١٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فَنادُوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال: نادى القوم علـى غير حين نداء، وأرادوا التوبة حين عاينوا عذاب اللّه فلـم يقبل منهم ذلك.

٢٢٨١٩ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال: حين نزل بهم العذاب لـم يستطيعوا الرجوع إلـى التوبة، ولا فرارا من العذاب.

٢٢٨٢٠ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ يقول: ولـيس حين فرار.

٢٢٨٢١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ ولات حين مَنْـجًى ينـجون منه، ونصب حين فـي قوله: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ تشبـيها للات بلـيس، وأضمر فـيها اسم الفـاعل.

وحكى بعض نـحوّيـي أهل البصرة الرفع مع لات فـي حين زعم أن بعضهم رفع (وَلاتَ حِينُ مناصٍ) فجعله فـي قوله لـيس، كأنه قال: لـيس وأضمر الـحين قال: وفـي الشعر:

طَلَبُوا صُلْـحَنا وَلاتَ أوَانٍفَأَجَبنا أنْ لَـيْسَ حِينَ بَقاءِ

فجرّ (أوانٍ) وأضمر الـحين إلـى أوان، لأن لات لا تكون إلا مع الـحين قال: ولا تكون لات إلا مع حين. وقال بعض نـحويـي الكوفة: من العرب من يضيف لات فـيخفض بها، وذكر أنه أنشد:

((لاتَ ساعَةِ مَنْدَمٍ) )

بخفض الساعة قال: والكلام أن ينصب بها، لأنها فـي معنى لـيس، وذُكر أنه أنشد:

تَذَكّرَ حُبّ لَـيْـلَـى لاتَ حِيناوأضْحَى الشّيْبُ قَدْ قَطَعَ القَرِينا

قال: وأنشدنـي بعضهم:

طَلَبُوا صُلْـحَنا وَلاتَ أوَانٍفأَجَبْنا أنْ لَـيْسَ حِينَ بَقاءِ

بخفض (أوانِ) قال: وتكون لات مع الأوقات كلها.

واختلفوا فـي وجه الوقـف علـى قراءة: لاتَ حِينَ فقال بعض أهل العربـية: الوقـف علـيه ولاتّ بـالتاء، ثم يبتدأ حين مناص، قالوا: وإنـما هي (لا) التـي بـمعنى: (ما) ، وإن فـي الـجحد وُصلت بـالتاء، كما وُصِلت ثم بها، ف

قـيـل: ثمت، وكما وصلت ربّ ف

قـيـل: ربت.

وقال آخرون منهم: بل هي هاء زيدت فـي لا، فـالوقـف علـيها لاه، لأنها هاء زيدت للوقـف، كما زيدت فـي قولهم:

العاطِفُونَةَ حِينَ ما مِنْ عاطِفٍوالـمُطْعِمُونَةَ حِينَ أيْنَ الـمَطْعِمُ

فإذا وُصلت صارت تاء. وقال بعضهم: الوقـف علـى (لا) ، والابتداء بعدها تـحين، وزعم أن حكم التاء أن تكون فـي ابتداء حين، وأوان، والاَن ويستشهد لقـيـله ذلك بقول الشاعر:

تَوَلّـيْ قَبْلَ يَوْمِ سَبْـيٍ جُماناوَصِلِـينا كما زَعَمْتِ تَلانا

وأنه لـيس ههنا (لا) فـيوصل بها هاء أو تاء ويقول: إن قوله: لاتَ حِينَ إنـما هي: لـيس حين، ولـم توجد لات فـي شيء من الكلام.

والصواب من القول فـي ذلك عندنا: أن (لا) حرف جحد كما، وإن وُصلت بها تصير فـي الوصل تاء، كما فعلت العرب ذلك بـالأدوات، ولـم تستعمل ذلك كذلك مع (لا) الـمُدّة إلا للأوقات دون غيرها، ولا وجه للعلة التـي اعتلّ بها القائل: إنه لـم يجد لات فـي شيء من كلام العرب، فـيجوز توجيه قوله: وَلاتَ حِينَ إلـى ذلك، لأنها تستعمل الكملة فـي موضع، ثم تستعملها فـي موضع آخر بخلاف ذلك، ولـيس ذلك بأبعد فـي القـياس من الصحة من قولهم: رأيت بـالهمز، ثم قالوا: فأنا أراه بترك الهمز لـما جرى به استعمالهم، وما أشبه ذلك من الـحروف التـي تأتـي فـي موضع علـى صورة، ثم تأتـي بخلاف ذلك فـي موضع آخر للـجاري من استعمال العرب ذلك بـينها. وأما ما استشهد به من قول الشاعر: (كما زعمت تلانا) ، فإن ذلك منه غلط فـي تأويـل الكلـمة وإنـما أراد الشاعر ب قوله: (وصِلِـينا كما زَعمْتِ تَلانا) : وصِلـينا كما زعمت أنتِ الاَن، فأسقط الهمزة من أنت، فلقـيت التاء من زعمت النون من أنت وهي ساكنة، فسقطت من اللفظ، وبقـيت التاء من أنت، ثم حذفت الهمزة من الاَن، فصارت الكلـمة فـي اللفظ كهيئة تلان، والتاء الثانـية علـى الـحقـيقة منفصلة من الاَن، لأنها تاء أنت. وأما زعمه أنه رأى فـي الـمصحف الذي يقال له (الإمام) التاء متصلة بحين، فإن الذي جاءت به مصاحف الـمسلـمين فـي أمصارها هو الـحجة علـى أهل الإسلام، والتاء فـي جميعها منفصلة عن حين، فلذلك اخترنا أن يكون الوقـف علـى الهاء فـي قوله: وَلاتَ حِينَ.

٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَعَجِبُوَاْ أَن جَآءَهُم مّنذِرٌ مّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَـَذَا سَاحِرٌ كَذّابٌ}.

يقول تعالـى ذكره: وعجب هؤلاء الـمشركون من قريش أن جاءهم منذر ينذرهم بأس اللّه علـى كفرهم به من أنفسهم، ولـم يأتهم مَلك من السماء بذلك وَقالَ الكافِرُونَ هَذا ساحِرٌ كَذّابٌ يقول: وقال الـمنكرون وحدانـية اللّه : هذا، يعنون مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم ، ساحر كذّاب. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٢٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَعَجِبْوا أنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ يعني مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم فقالَ الكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذّابٌ.

٢٢٨٢٣ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: ساحِرٌ كَذّابٌ يعني مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم .

٥

و قوله: أجَعَلَ الاَلِهَةَ إِلها وَاحِدا يقول: وقال هؤلاء الكافرون الذين قالوا: مـحمد ساحر كذّاب: أجعل مـحمد الـمعبودات كلها واحدا، يسمع دعاءنا جميعنا، ويعلـم عبـادة كل عابد عبدَه منا إنّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ: أي إن هذا لشيء عجيب، كما:

٢٢٨٢٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أجَعَلَ الاَلِهَةَ إلَها وَاحِدا إنّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ قال: عجب الـمشركون أن دُعوا إلـى اللّه وحده، وقالوا: يسمع لـحاجاتنا جميعا إله واحد ما سمعنا بهذا فـي الـملة الاَخرة.

وكان سبب قـيـل هؤلاء الـمشركين ما أخبر اللّه عنهم أنهم قالوه، من ذلك، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لهم: (أسْأَلُكُمْ أنْ تُـجِيبُونِـي إلـى وَاحِدَةٍ تَدِينُ لَكُمْ بِها العَرَبُ، وَتُعْطِيكُمْ بِها الـخَرَاجَ العَجَمُ) فقالوا: وما هي؟ فقال: (تقولون لا إلَهَ إلاّ اللّه ) ، فعند ذلك قالوا: أجَعَلَ الاَلَهَةَ إلَها وَاحِدا تعجبـا منهم من ذلك. ذكر الرواية بذلك:

٢٢٨٢٥ـ حدثنا أبو كُرَيب وابن وكيع، قالا: حدثنا أبو أُسامة، قال: حدثنا الأعمش، قال: حدثنا عبـاد، عن سعيد بن جُبَـير، عن ابن عباس ، قال: لـما مرض أبو طالب دخـل علـيه رهط من قريش فـيهم أبو جهل بن هشام فقالوا: إن ابن أخيك يشتـم آلهتنا، ويفعل ويفعل، ويقول ويقول، فلو بعثت إلـيه فنهيته فبعث إلـيه، فجاء النبي صلى اللّه عليه وسلم فدخـل البـيت، وبـينهم وبـين أبـي طالب قدر مـجلس رجل، قال: فخشي أبو جهل إن جلس إلـى جنب أبـي طالب أن يكون أرق له علـيه، فوثب فجلس فـي ذلك الـمـجلس، ولـم يجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مـجلسا قرب عمه، فجلس عند البـاب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي، ما بـال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتـم آلهتهم، وتقول وتقول قال: فأكثروا علـيه القول، وتكلـم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: (يا عَمّ إنّـي أُرِيدُهُمْ عَلـى كَلِـمَةٍ وَاحِدَةٍ يَقُولُونَهَا، تَدِينُ لَهُمْ بِها العَرَبُ، وَتُؤَدّي إلَـيْهِمْ بِها العَجَمُ الـجِزْيَةَ) ، ففزعوا لكلـمته ولقوله، فقال القوم: كلـمة واحدة؟ نعم وأبـيك عَشْرا فقالوا: وما هي؟ فقال أبو طالب: وأيّ كلـمة هي يا ابن أخي؟ قال: (لا إلَهَ إلاّ اللّه ) قال: فقاموا فِزعين ينفضون ثـيابهم، وهم يقولون: أجَعَلَ الاَلِهَةَ إلَها وَاحِدا إنّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ قال: ونزلت من هذا الـموضع إلـى قوله: لـمّا يَذُوقُوا عَذَابِ اللفظ لأبـي كريب.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا معاوية بن هشام، عن سفـيان، عن يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جُبَـير عن ابن عباس ، قال: مرض أبو طالب، فأتاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعوده، وهم حوله جلوس، وعند رأسه مكان فـارغ، فقام أبو جهل فجلس فـيه، فقال أبو طالب: يا ابن أخي ما لقومك يشكونك؟ قال: (يا عَمّ أُرِيدُهُمْ عَلـى كَلِـمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِها العَرَبُ، وتُؤَدّي إلَـيْهِمْ بِها العَجَمُ الـجِزْيَةَ) قال: ما هي؟ قال: (لا إلَهَ إلاّ اللّه ) فقاموا وهم يقولون: ما سَمِعْنا بِهذَا فـي الـمِلّةِ الاَخرةِ إنْ هَذَا إلاّ اخْتِلاقٌ ونزل القرآن: ص والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ ذي الشرف بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي عِزّةٍ وَشِقاقٍ حتـى قوله: أجَعَلَ الاَلِهَةَ إلَها وَاحِدا.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفـيان، عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جُبَـير، عن ابن عباس ، قال: مرض أبو طالب، ثم ذكر نـحوه، إلا أنه لـم يقل ذي الشرف، وقال: إلـى قوله: إنّ هَذَا لَشْيءٌ عُجابٌ.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جُبَـير، قال: مرض أبو طالب، قال: فجاء النبي صلى اللّه عليه وسلم يعوده، فكان عند رأسه مقعدُ رجل، فقام أبو جهل، فجلس فـيه، فشكَوا النبي صلى اللّه عليه وسلم إلـى أبـي طالب، وقالوا: إنه يقع فـي آلهتنا، فقال: يا ابن أخي ما تريد إلـى هذا؟ قال: (يا عمّ إنّـي أُريدُهُمْ علـى كَلِـمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِها العَرَبُ، وتُؤَدّي إلَـيْهِمُ العَجَمُ الـجِزْيَةَ) قال: وما هي؟ قال: (لا إلَهَ إلاّ اللّه ) ، فقالوا: أجَعَلَ الاَلِهَةَ إلَها وَاحِدا إنّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ.

٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَانطَلَقَ الْمَلاُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىَ آلِهَتِكُمْ إِنّ هَـَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}.

يقول تعالـى ذكره: وانطلق الأشراف من هؤلاء الكافرين من قريش، القائلـين: أجَعَلَ الاَلِهَةَ إلها وَاحِدا بأنِ امضُوا فـاصبروا علـى دينكم وعبـادة آلهتكم. فأن من قوله: أن امْشُوا فـي موضع نصب يتعلق انطلقوا بها، كأنه

قـيـل: انطلقوا مشيا، ومضيا علـى دينكم. وذُكر أن ذلك فـي قراءة عبد اللّه : (وَانْطَلَقَ الـمَلأُ مِنْهُمْ يَـمْشُونَ أنِ اصْبِرُوا عَلـى آلِهَتِكُمْ) . وذُكر أن قائل ذلك كان عُقْبة ابن أبـي مُعِيط. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٢٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن إبراهيـم بن مهاجر، عن مـجاهد : وَانْطَلَق الـمَلأُ مِنْهُمْ قال: عقبة بن أبـي معيط.

و قوله: إنّ هَذَا لَشْيءٌ يُرَادُ: أي إن هذا القول الذي يقول مـحمد، ويدعونا إلـيه، من قول لا إله إلا اللّه ، شيء يريده منا مـحمد يطلب به الاستعلاء علـينا، وأن نكون له فـيه أتبـاعا ولسنا مـجيبـيه إلـى ذلك.

٧

و قوله: ما سَمِعْنا بِهَذَا فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ اختلف أهل التأويـل فـي تأويـله، فقال بعضهم: معناه: ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إلـيه مـحمد من البراءة من جميع الاَلهة إلا من اللّه تعالـى ذكره، وبهذا الكتاب الذي جاء به فـي الـملّة النصرانـية، قالوا: وهي الـملة الاَخرة.ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٢٧ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: ما سَمِعْنا بِهَذَا فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ يقول: النصرانـية.

٢٢٨٢٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: ما سَمِعْنا بِهَذَا فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ يعني النصرانـية فقالوا: لو كان هذا القرآن حقا أخبرتنا به النصارى.

٢٢٨٢٩ـ حدثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنا يحيى بن معين، قال: حدثنا ابن عُيـينة، عن ابن أبـي لبـيد، عن القُرَظِي فـي قوله: ما سَمِعْنا بِهَذَا فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ قال: ملة عيسى.

٢٢٨٣٠ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قلا: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط عن السديّما سَمِعْنا بِهَذَا فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ النصرانـية.

وقال آخرون: بل عَنَوا بذلك: ما سمعنا بهذا فـي ديننا دين قريش. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٣١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبـي بَزّة، عن مـجاهد ، فـي قوله: ما سَمِعْنا بِهَذَا فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ قال: ملة قريش.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قا: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ قال: ملة قريش.

٢٢٨٣٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ما سَمِعْنا بِهَذَا فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ: أي فـي ديننا هذا، ولا فـي زماننا قطّ.

٢٢٨٣٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: ما سَمِعْنا بِهَذَا فِـي الـمِلّةِ الاَخِرَةِ قال: الـملة الاَخرة: الدين الاَخر. قال: والـملة الدين.

وقـيـل: إن الـملأ الذين انطلقوا نفر من مشيخة قريش، منهم أبو جهل، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٣٤ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ أن أناسا من قُرَيش اجتـمعوا، فـيهم أبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، والأسود بن الـمطلب، والأسود بن عبد يغوث فـي نفر من مشيخة قريش، فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلـى أبـي طالب، فلنكلـمه فـيه، فلـينصفنا منه، فـيأمره فلـيكفّ عن شتـم آلهتنا، ونَدَعَه وإلهه الذي يَعبُد، فإنا نـخاف أن يـموت هذا الشيخ، فـيكون منا شيء، فتعيرنا العرب فـيقولون: تركوه حتـى إذا مات عمه تناولوه، قال: فبعثوا رجلاً منهم يُدعى الـمطّلب، فـاستأذن لهم علـى أبـي طالب، فقال: هؤلاء مشيخة قومك وسَرَواتهم يستأذنون علـيك، قال: أدخـلهم فلـما دخـلوا علـيه قالوا: يا أبـا طالب أنت كبـيرنا وسيدنا، فأنصفنا من ابن أخيك، فمُره فلـيكفّ عن شتـم آلهتنا، ونَدَعَه وإلهه قال: فبعث إلـيه أبو طالب فلـما دخـل علـيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسَرَواتهم، وقد سألوك النّصف أن تكفّ عن شتـم آلهتهم، ويَدَعُوك وإلهك قال: فقال: (أيْ عَمّ أوَلا أدْعُوهُمْ إلـى ما هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْها؟) قال: وإلام تدعوهم؟ قال: (أدعوهم إلـى أنْ يَتَكَلّـمُوا بِكَلِـمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِها العَرَبُ ويَـمْلِكُونَ بِها العَجَمَ) قال: فقال أبو جهل من بـين القوم: ما هي وأبـيك لنعطينكها وعشر أمثالها، قال: (تَقُولونَ لا إلَهَ إلاّ اللّه ) . قال: فنفروا وقالوا: سلنا غير هذه، قال: (لَوْ جِئْتُـمُونِـي بـالشّمْسِ حتـى تَضَعُوها فِـي يَدِي ما سأَلْتُكُمْ غَيَرها) قال: فغضبوا وقاموا من عنده غضابـا وقالوا: واللّه لنشتـمنك والذي يأمرك بهذا وَانْطَلَقَ الـمَلأُ مِنْهُمْ أنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا علـى آلِهَتِكُمْ إنّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ... إلـى قوله: إلاّ اخْتِلاقٌ وأقبل علـى عمه، فقال له عمه: يا ابن أخي ما شططت علـيهم، فأقبل علـى عمه فدعاه، فقال: (قلْ كَلِـمَةً أشْهَدُ لَكَ بِها يَوْمَ القـيامَةِ، تَقُولُ: لا إلَهَ إلاّ اللّه ) ، فقال: لولا أن تعيبكم بها العرب يقولون جزع من الـموت لأعطيتكها، ولكن علـى ملّة الأشياخ قال: فنزلت هذه الاَية إنّكَ لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ وَلَكِنّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.

٢٢٨٣٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وَانْطَلَقَ الـمَلأُ مِنْهُمْ أنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا علـى آلهَتِكُمْ إنّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ قال: نزلت حين انطلق أشراف قريش إلـى أبـي طالب فكلـموه فـي النبي صلى اللّه عليه وسلم .

و قوله: إنْ هَذَا إلاّ اخْتِلاقٌ

يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل هؤلاء الـمشركين فـي القرآن: ما هذا القرآن إلا اختلاق: أي كذب اختلقه مـحمد وتـخرّصه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٣٦ـ حدثنا علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: إنْ هَذَا إلاّ اخْتِلاقٌ يقول: تـخريص.

٢٢٨٣٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: إنْ هَذَا إلاّ اخْتِلاقٌ قال: كذب.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبـي بَزّة، عن مـجاهد إنْ هَذَا إلاّ اخْتِلاقٌ: يقول: كذب.

٢٢٨٣٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة إنْ هَذَا إلاّ اخْتِلاقٌ إلا شيء تـخْـلُقه.

٢٢٨٣٩ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ إنْ هَذَا إلاّ اخْتِلاقٌ اختلقه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم .

٢٢٨٤٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: إنْ هَذَا إلاّ اخْتلاقٌ قالوا: إن هذا إلا كذب.

٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَاُنزِلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَي شَكّ مّن ذِكْرِي بَل لّمّا يَذُوقُواْ عَذَابِ}.

يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل هؤلاء الـمشركين من قريش: أأُنزل علـى مـحمد الذكر من بـيننا فخُصّ به، ولـيس بأشرف منا حسبـا.

و قوله: بَلْ هُمْ فِـي شَكّ مِنْ ذِكرِي

يقول تعالـى ذكره: ما بهؤلاء الـمشركين أن لا يكونوا أهل علـم بأن مـحمدا صادق، ولكنهم فـي شكّ من وحينا إلـيه، وفـي هذا القرآن الذي أنزلناه إلـيه أنه من عندنا بَلْ لَـمّا يَذُوقُوا عَذَابِ يقول بل لـم ينزل بهم بأسنا، فـيذوقوا وبـال تكذيبهم مـحمدا، وشكهم فـي تنزيـلنا هذا القرآن علـيه، ولو ذاقوا العذاب علـى ذلك علـموا وأيقنوا حقـيقة ما هم به مكذّبون، حين لا ينفعهم علـمهم

٩

أمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ العَزِيزِ الوَهّابِ

يقول تعالـى ذكره: أم عند هؤلاء الـمشركين الـمنكرين وحي اللّه إلـى مـحمد خزائن رحمة ربك، يعني مفـاتـيح رحمة ربك يا مـحمد، العزيز فـي سلطانه، الوهاب لـمن يشاء من خـلقه، ما يشاء من مُلك وسلطان ونبوّة، فـيـمنعوك يا مـحمد، ما منّ اللّه به علـيك من الكرامة، وفضّلك به من الرسالة.

١٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَمْ لَهُم مّلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسْبَابِ }.

يقول تعالـى ذكره: أم لهؤلاء الـمشركين الذين هم فـي عزّة وشقاق مُلْكُ السّمَواتِ والأرْضِ وَما بَـيْنَهُما فإنه لا يُعازّنـي ويُشاقّنـي من كان فـي مُلكي وسلطانـي.

و قوله: فَلْـيَرتَقُوا فِـي الأسْبـابِ يقول: وإن كان لهم مُلك السموات والأرض وما بـينهما، فلـيصعدوا فـي أبواب السماء وطرقها، فإن كان له مُلك شيء لـم يتعذّر علـيه الإشراف علـيه، وتفقّده وتعهّده.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى الأسبـاب التـي ذكرها اللّه فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: عُنِـي بها أبواب السماء. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٤١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: فَلْـيَرْتَقُوا فـي الأسْبـابِ قال: طرق السماء وأبوابها.

٢٢٨٤٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فَلْـيَرْتَقُوا فِـي الأسْبـابِ يقول: فـي أبواب السماء.

٢٢٨٤٣ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: فِـي الأَسْبـابِ قال: أسبـاب السموات.

٢٢٨٤٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: فَلْـيَرْتَقُوا فِـي الأسْبـابِ قال: طرق السموات.

٢٢٨٤٥ـ حُدثت عن الـمـحاربـي، عن جُوَيبر، عن الضحاك أمْ لَهُمْ مُلْكٌ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول: إن كان لَهُمْ مُلكُ السّمَوَاتِ والأرضِ وَما بَـيْنَهُما فَلْـيَرْتَقُوا فِـي الأسْبـابِ يقول: فلـيرتقوا إلـى السماء السابعة.

٢٢٨٤٦ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: فَلْـيرْتَقُوا فِـي الأسْبـابِ يقول: فـي السماء. وذكر عن الربـيع بن أنس فـي ذلك ما:

٢٢٨٤٧ـ حُدثت عن الـمسيب بن شريك، عن أبـي جعفر الرازيّ، عن الربـيع بن أنس، قال: الأسبـاب: أدقّ من الشعر، وأشدّ من الـحديد، وهو بكلّ مكان، غير أنه لا يرى.

وأصل السبب عند العرب: كل ما تسبّب به إلـى الوصول إلـى الـمطلوب من حبل أو وسيـلة، أو رحم، أو قرابة أو طريق، أو مـحجة وغير ذلك.

١١

و قوله: جُنْدٌ مّا هنالك مَهزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ

يقول تعالـى ذكره: هم جُنْدٌ يعني الذين فـي عزة وشقاق هنالك، يعني : ببدر مهزوم.

و قوله: هُنالكَ من صلة مهزوم

و قوله: مِنَ الأحْزَابِ يعني من أحزاب إبلـيس وأتبـاعه الذين مضوا قبلهم، فأهلكهم اللّه بذنوبهم. و(مِنْ) من قوله: مِنَ الأحْزَابِ من صلة قوله جند، ومعنى الكلام: هم جند من الأحزاب مهزوم هنالك، وما فـي قوله: جُنْدٌ ما هُنالكَ صلة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٤٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد جُنْدٌ مّا هُنالكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ قال: قُريش من الأحزاب، قال: القرون الـماضية.

٢٢٨٤٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة جُنْدٌ مّا هُنالكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ قال: وعده اللّه وهو بـمكة يومئذٍ أنه سيهزم جندا من الـمشركين، فجاء تأويـلها يوم بدر.

وكان بعض أهل العربـية يتأوّل ذلك جُنْدٌ مّا هُنالكَ مغلوب عن أن يصعد إلـى السماء.

١٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ}.

يقول تعالـى ذكره: كذّبت قبل هؤلاء الـمشركين من قريش، القائلـين: أجعل الاَلهة إلها واحدا، رسلها، قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد.

واختلف أهل العلـم فـي السبب الذي من أجله قـيـل لفرعون ذو الأوتاد، فقال بعضهم: قـيـل ذلك له لأنه كانت له ملاعب من أوتاد، يُـلْعَب له علـيها. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٥٠ـ حُدثت عن علـيّ بن الهيثم، عن عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن سعيد بن جُبَـير، عن ابن عباس وَفِرْعُوْنَ ذِي الأوْتادِ قال: كانت ملاعب يـلعب له تـحتها.

٢٢٨٥١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَفِرْعُونَ ذُو الأوْتادِ قال: كان له أوتاد وأرسان، وملاعب يـلعب له علـيها.

وقال آخرون: بل قـيـل ذلك له كذلك لتعذيبه الناس بـالأوتاد. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٥٢ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: ذُو الأوْتادِ قال: كان يعذّب الناسَ بـالأوتاد، يعذّبهم بأربعة أوتاد، ثم يرفع صخرة تُـمَدّ بـالـحبـال، ثم تُلْقـى علـيه فتشدخه.

٢٢٨٥٣ـ حُدثت عن علـيّ بن الهيثم، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، قال: كان يعذّب الناس بـالأوتاد.

وقال آخرون: معنى ذلك: ذو البنـيان، قالوا: والبنـيان: هو الأوتاد. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٥٤ـ حُدثت عن الـمـحاربـيّ، عن جُوَيبر، عن الضحاك ذُو الأوْتادِ قال: ذو البنـيان.

وأشبه الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: عُنِـي بذلك الأوتاد، إما لتعذيب الناس، وإما للعب، كان يُـلْعَب له بها، وذلك أن ذلك هو الـمعروف من معنى الأوتاد،

١٣

وثمودُ وقومُ لوطٍ وقد ذكرنا أخبـار كلّ هؤلاء فـيـما مضى قبلُ من كتابنا هذا وأصحَابُ الأيْكَةِ يعني : وأصحاب الغَيْضة. وكان أبو عمرو بن العلاء فـيـما:

٢٢٨٥٥ـ حُدثت عن معمر بن الـمثنى، عن أبـي عمرو يقول: الأيكة: الـحَرَجة من النبع والسدر، وهو الـملتفّ منه، قال الشاعر:

أَفَمِنْ بُكاءِ حَمامَةٍ فـي أَيْكَةٍيَرْفَضّ دَمْعُكَ فَوْقَ ظَهر الـمَـحمِلِ

 يعني : مِـحْمَل السيف. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٥٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وأصْحابُ الأيْكَةِ قال: كانوا أصحاب شجر، قال: وكان عامّة شجرهم الدّوْم.

٢٢٨٥٧ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: وأصحَابُ الأَيْكَةِ قال: أصحاب الغَيْضة.

و قوله: أُولَئِكَ الأحْزَابُ

يقول تعالـى ذكره: هؤلاء الـجماعات الـمـجتـمعة، والأحزاب الـمتـحزّبة علـى معاصي اللّه والكفر به، الذين منهم يا مـحمد مشركو قومك، وهم مسلوك بهم سبـيـلهم

١٤

إنْ كُلّ إلاّ كَذّبَ الرّسُلَ يقول: ما كلّ هؤلاء الأمـم إلا كذّب رسل اللّه وهي فـي قراءة عبد اللّه كما ذكر لـي: (إنْ كُلّ لَـمّا كَذّبَ الرّسُلَ فَحَقّ عِقابِ) يقول: يقول: فوجب علـيهم عقاب اللّه إياهم، كما:

٢٢٨٥٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة إنْ كُلّ إلاّ كَذّبَ الرُسُلَ فَحَقّ عِقابِ قال: هؤلاء كلهم قد كذبوا الرسل، فحقّ علـيهم العذاب.

١٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا يَنظُرُ هَـَؤُلاَءِ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً مّا لَهَا مِن فَوَاقٍ}.

يقول تعالـى ذكره: وَما يَنْظرُ هَؤُلاءِ الـمشركون بـاللّه من قُريش إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً يعني بـالصيحة الواحدة: النفخة الأولـى فـي الصور ما لَهَا مِنْ فَوَاقِ يقول: ما لتلك الصيحة من فـيقة، يعني من فتور ولا انقطاع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٥٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَما يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً يعني : أمة مـحمد ما لهَا مِنْ فَوَاقٍ.

٢٢٨٦٠ـ حدثنا أبو كُرَيْب، قال: حدثنا الـمـحاربـي، عن إسماعيـل بن رافع، عن يزيد بن زياد، عن رجل من الأنصار، عن مـحمد بن كعب القرظي، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إنّ اللّه لـمّا فَرَغَ مِنْ خَـلْقِ السّمَوَاتِ والأرْضِ خَـلَقَ الصّورَ، فَأعْطاهُ إسْرَافِـيـلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ علـى فِـيهِ شاخِصٌ بِبَصَرِهِ إلـى العَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتـى يُؤْمَرُ) . قال أبو هريرة: يا رسول اللّه وما الصور؟ قال: (قَرْنٌ) ، قال: كيف هو؟ قال: (قَرْنٌ عَظِيـمٌ يُنْفَخُ فِـيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ: نَفْخَةُ الفَزَعِ الأُولـى، والثّانِـيَةُ: نَفْخَةُ الصّعْقِ، والثّالِثَةُ: نَفْخَةُ الْقِـيامِ لِرَبّ العالَـمِينَ، يَأْمُرُ اللّه إسْرَافـيـلَ بـالنّفْخَةِ الأُولـى، فَـيَقُولُ: انْفُخُ نَفْخَةَ الفَزَعِ، فَـيَفْزَعُ أهْلُ السّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّه ، وَيَأْمُرُهُ اللّه فَـيُدِيـمُها وَيُطَوّلَها، فَلا يَفْتَرُ وَهِيَ التـي يَقُولُ اللّه وَما يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ما لَها مِنْ فَوَاقٍ) .

واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله: ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ فقال بعضهم: يعني بذلك: ما لتلك الصيحة من ارتداد ولا رجوع. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٦١ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ يقول: من تَرداد.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ يقول: ما لها من رجعة.

٢٢٨٦٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ قال: من رجوع.

٢٢٨٦٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ يعني الساعة ما لها من رجوع ولا ارتداد.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما لهؤلاء الـمشركين بعد ذلك إفـاقة ولا رجوع إلـى الدنـيا. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٦٤ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ يقول: لـيس لهم بعدها إفـاقة ولا رجوع إلـى الدنـيا.

وقال آخرون: الصيحة فـي هذا الـموضع: العذاب. ومعنى الكلام: ما ينتظر هؤلاء الـمشركون إلا عذابـا يهلكهم، لا إفـاقة لهم منه. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٦٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ قال: ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ما لها من فواق، يا لها من صيحة لا يفـيقون فـيها كما يفـيق الذي يغشى علـيه وكما يفـيق الـمريض تهلكهم، لـيس لهم فـيها إفـاقة.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة مِنْ فَوَاقٍ بفتـح الفـاء. وقرأته عامة أهل الكوفة: (مِنْ فُوَاقٍ) بضم الفـاء.

واختلف أهل العربـية فـي معناها إذا قُرئت بفتـح الفـاء وضمها، فقال بعض البصريـين منهم: معناها، إذا فتـحت الفـاء: ما لها من راحة، وإذا ضمت جعلها فُواق ناقة ما بـين الـحلبتـين. وكان بعض الكوفـيـين منهم يقول: معنى الفتـح والضمّ فـيها واحد، وإنـما هما لغتان مثل السّوَاف والسّواف، وجَمام الـمكوك وجُمامة، وقَصاص الشعر وقُصاصة.

والصواب من القول فـي ذلك أنهما لغتان، وذلك أنا لـم نـجد أحدا من الـمتقدمين علـى اختلافهم فـي قراءته يفرّقون بـين معنى الضمّ فـيه والفتـح، ولو كان مختلف الـمعنى بـاختلاف الفتـح فـيه والضم، والضم، لقد كانوا فرقوا بـين ذلك فـي الـمعنى. فإذ كان ذلك كذلك، فبأيّ القراءتـين قرأ القارىء فمصيب وأصل ذلك من قولهم: أفـاقت الناقة، فهي تفـيق إفـاقة، وذلك إذا رَدّت ما بـين الرضعتـين ولدها إلـى الرضعة الأخرى، وذلك أن ترضع البهيـمة أمها، ثم تتركها حتـى ينزل شيء من اللبن، فتلك الإفـاقة يقال إذا اجتـمع ذلك فـي الضرع فـيقة، كما قال الأعشى:

حتـى إذَا فِـيْقَةٌ فِـي ضَرْعِها اجْتَـمَعَتْجاءَتْ لِتُرْضِعَ شِقّ النّفْسِ لوْ رَضِعا

و قوله: وَقالُوا رَبّنا عَجّلْ لَنا قِطّنا قَبْلَ يوْم الـحِسابِ

يقول تعالـى ذكره: وقال هؤلاء الـمشركون بـاللّه من قريش: يا ربنا عجل لنا كتبنا قبل يوم القـيامة. والقِطّ فـي كلام العرب: الصحيفة الـمكتوبة ومنه قول الأعشى:

وَلا الـمَلِكُ النّعْمانُ يَوْمَ لَقِـيتُهُبنِعْمَتِهِ يُعْطِي القُطُوطَ ويَأْفِقُ

 يعني بـالقُطوط: جمع القِط، وهي الكتب بـالـجوائز.

واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي أراد هؤلاء الـمشركون بـمسألتهم ربهم تعجيـل القطّ لهم، فقال بعضهم: إنـما سألوا ربهم تعجيـل حظهم من العذاب الذي أعدّ لهم فـي الاَخرة فـي الدنـيا، كما قال بعضهم: إنْ كانَ هَذَا هُوَ الـحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَـيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ أو أئْتِنا بَعَذَابٍ ألِـيـمٍ. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٦٦ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: رَبّنا عَجّلْ لَنا قِطّنا يقول: العذاب.

١٦

حدثنـي مـحمد بن سعيد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وَقالُوا رَبّنا عَجّلْ لنَا قِطّنا يَوْمَ الـحِسابِ قال: سألوا اللّه أن يعجل لهم العذاب قبل يوم القـيامة.

٢٢٨٦٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبـي بزّة، عن مـجاهد ، فـي قوله: عَجّلْ لنَا قِطّنا قال: عذابنا.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: عَجّلْ لنَا قِطّنا قال: عذابنا.

٢٢٨٦٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَقالُوا رَبّنا عَجّلْ لَنا قِطّنا قَبْلَ يَوْمِ الـحِسابِ: أي نصيبنا حظنا من العذاب قبل يوم القـيامة، قال: قد قال ذلك أبو جهل: اللّه مّ إن كان ما يقول مـحمد حقا فَأَمْطِرْ عَلَـيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ... الاَية.

وقال آخرون: بل إنـما سألوا ربهم تعجيـل أنصبـائهم ومنازلهم من الـجنة حتـى يروها فـيعلـموا حقـيقة ما يعدهم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـيؤمنوا حينئذٍ به ويصدّقوه. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٦٩ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: عَجّلْ لنَا قِطّنا قالوا: أرنا منازلنا فـي الـجنة حتـى نتابعك.

وقال آخرون: مسألتهم نصيبهم من الـجنة، ولكنهم سألوا تعجيـله لهم فـي الدنـيا. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٧٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن ثابت الـحدّاد، قال: سمعت سعيد بن جُبَـير يقول فـي قوله: عَجّلْ لنَا قِطّنا قَبْلَ يَوْمِ الـحِسابِ قال: نصيبنا من الـجنة.

وقال آخرون: بل سألوا ربهم تعجيـل الرزق. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٧١ـ حدثنـي مـحمد بن عمر بن علـيّ، قال: حدثنا أشعث السجستانـي، قال: حدثنا شعبة، عن إسماعيـل بن أبـي خالد فـي قوله: عَجّلْ لنَا قِطّنا قال: رزقنا.

وقال آخرون: سألوا أن يعجل لهم كتبهم التـي قال اللّه فأمّا مَنْ أوتِـيَ كِتابَهُ بـيَـمِينِهِ. وَأمّا مَنْ أُوتِـيَ كِتَابَهُ بِشِمالِهِ فـي الدنـيا، لـينظروا بأيـمانهم يُعْطَوْنها أم بشمائلهم؟ ولـينظروا مِن أهل الـجنة هم، أم من أهل النار قبل يوم القـيامة استهزاء منهم بـالقرآن وبوعد اللّه .

وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب أن يقال: إن القوم سألوا ربهم تعجيـل صكاكهم بحظوظهم من الـخير أو الشرّ الذي وعد اللّه عبـاده أن يؤتـيهموها فـي الاَخرة قبل يوم القـيامة فـي الدنـيا استهزاء بوعيد اللّه .

وإنـما قلنا إن ذلك كذلك، لأن القطّ هو ما وصفت من الكتب بـالـجوائز والـحظوظ، وقد أخبر اللّه عن هؤلاء الـمشركين أنهم سألوه تعجيـل ذلك لهم، ثم أتبع ذلك قوله لنبـيه: اصْبِرْ علـى ما يَقُولُونَ فكان معلوما بذلك أن مسألتهم ما سألوا النبي صلى اللّه عليه وسلم لو لـم تكن علـى وجه الاستهزاء منهم لـم يكن بـالذي يتبع الأمر بـالصبر علـيه، ولكن لـما كان ذلك استهزاء، وكان فـيه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أذى، أمره اللّه بـالصبر علـيه حتـى يأتـيه قضاؤه فـيهم، ولـما لـم يكن فـي قوله: عَجّلْ لنَا قِطّنا بـيان أيّ القطوط إرادتهم، لـم يكن لـما توجيه ذلك إلـى أنه معنـيّ به القُطوط ببعض معانـي الـخير أو الشرّ، فلذلك قلنا إن مسألتهم كانت بـما ذكرت من حظوظهم من الـخير والشرّ.

١٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {اصْبِر عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيْدِ إِنّهُ أَوّابٌ}.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : اصبر يا مـحمد علـى ما يقول مشركو قومك لك مـما تكره قـيـلهم لك، فإنا مـمتـحنوك بـالـمكاره امتـحاننا سائر رسلنا قبلك، ثم جاعلو العلوّ والرفعة والظفر لك علـى من كذبك وشاقّك سنتنا فـي الرسل الذين أرسلناهم إلـى عبـادنا قبلك فمنهم عبدنا أيوب وداود بن إيشا، فـاذكره ذا الأيد و يعني ب قوله: ذَا الأَيْدِ ذا القوّة والبطش الشديد فـي ذات اللّه والصبر علـى طاعته. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٧٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس دَاوُد ذَا الأَيْدِ قال: ذا القوّة.

٢٢٨٧٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنـي أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: ذَا الأَيْد قال: ذا القوّة فـي طاعة اللّه .

٢٢٨٧٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَاذْكُرْ عَبْدَنا دَاوُدَ ذَا الأَيْد قال: أعطي قوّة فـي العبـادة، وفقها فـي الإسلام.

وقد ذُكر لنا أن داود صلى اللّه عليه وسلم كان يقوم اللـيـل ويصوم نصف الدهر.

٢٢٨٧٥ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ ذا القوّة فـي طاعة اللّه .

٢٢٨٧٦ـ حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ قال: ذا القوّة فـي عبـادة اللّه ، الأيد: القوّة، وقرأ: والسّماءَ بَنَـيْناها بأَيْدٍ قال: بقوّة.

و قوله: إنّهُ أوّابٌ يقول: إن داود رَجّاع لـما يكرهه اللّه إلـى ما يرضيه أوّاب، وهو من قولهم: آب الرجل إلـى أهله: إذا رجع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٧٧ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد إنّهُ أوّابٌ قال: رجاع عن الذنوب.

حدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد إنّهُ أوّابٌ قال: الراجع عن الذنوب.

٢٢٨٧٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: أنّهُ أوّابٌ: أي كان مطيعا للّه كثـير الصلاة.

٢٢٨٧٩ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: إنّهُ أوّابٌ قال: الـمسبّح.

٢٢٨٨٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: إنّهُ أوّابٌ قال: الأوّاب التوّاب الذي يؤوب إلـى طاعة اللّه ويرجع إلـيها، ذلك الأوّاب، قال: والأوّاب: الـمطيع.

١٨

و قوله: إنّا سَخّرْنا الـجِبـالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بـالعَشِيّ وَالإشْرَاقِ

يقول تعالـى ذكره: إنا سخرنا الـجبـال يسبّحن مع داود بـالعشيّ، وذلك من قوت العصر إلـى اللـيـل، والإشراق، وذلك بـالغداة وقت الضحى. ذُكر أن داود كان إذا سبح سبحت معه الـجبـال، كما:

٢٢٨٨١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة إنّا سخّرْنا الـجِبـالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بـالعَشِيّ والإشْراقِ يسبحن مع داود إذا سبح بـالعشيّ والإشراق.

٢٢٨٨٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: بـالعَشيّ والإشْرَاقِ قال: حين تُشرق الشمس وتضحى.

٢٢٨٨٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مـحمد بن بشر، عن مسعر بن عبد الكريـم، عن موسى بن أبـي كثـير، عن ابن عباس أنه بلغه أن أمّ هانىء ذكرت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم فتـح مكة، صلـى الضحى ثمان ركعات، فقال ابن عباس : قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة، يقول اللّه : يُسَبّحْنَ بـالعَشيّ والإشْراقِ.

٢٢٨٨٤ـ حدثنا ابن عبد الرحيـم البرقـي، قال: حدثنا عمرو بن أبـي سلـمة، قال: حدثنا صدقة، قال: ثنـي سعيد بن أبـي عَروبة، عن أبـي الـمتوكل، عن أيوب بن صفوان، عن عبد اللّه بن الـحارث بن نوفل أن ابن عباس كان لا يصلـي الضحى، قال: فأدخـلته علـى أم هانىء، فقلت: أخبري هذا بـما أخبرتنـي به، فقالت أمّ هانىء: دخـل علـيّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الفتـح فـي بـيتـي، فأمر بـماء فصبّ فـي قصعة، ثم أمر بثوب فأخذ بـينـي وبـينه، فـاغتسل، ثم رشّ ناحية البـيت فصلّـى ثمان ركعات، وذلك من الضحى قـيامهنّ وركوعهنّ وسجودهنّ وجلوسهنّ سواء، قريب بعضهنّ من بعض، فخرج ابن عباس ، وهو يقول: لقد قرأت ما بـين اللوحين، ما عرفت صلاة الضحى إلا الاَن يُسَبّحْنَ بـالعَشَيّ والإشْراق وكنت أقول: أين صلاة الإِشراق، ثم قال: بعدهنّ صلاة الإِشراق.

حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد بن أبـي عروبة، عن متوكل، عن أيوب بن صفوان، مولـى عبد اللّه بن الـحارث، عن عبد اللّه بن الـحارث، أن أمّ هانىء ابنة أبـي طالب، حَدّثت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الفتـح دخـل علـيها ثم ذكر نـحوه.

وعن ابن عباس فـي قوله: يُسَبّحْنَ بـالعَشِيّ مثل ذلك.

١٩

و قوله: والطّيْرَ مَـحْشُورَةً

يقول تعالـى ذكره: وسخرنا الطير يسبحن معه مـحشورة بـمعنى: مـجموعة له ذُكر أنه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا سبح أجابته الـجبـال، واجتـمعت إلـيه الطير، فسبحت معه واجتـماعها إلـيه كان حشرها. وقد ذكرنا أقوال أهل التأويـل فـي معنى الـحشر فـيـما مضى، فكرهنا إعادته. وكان قتادة يقول فـي ذلك فـي هذا الـموضع ما:

٢٢٨٨٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة والطّيْرَ مَـحْشُورَةً: مسخّرة.

و قوله: كُلّ لَهُ أوّابٌ يقول: كل ذلك له مطيع رجّاع إلـى طاعته وأمره. و يعني بـالكلّ: كلّ الطير. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٨٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة كُلّ لَهُ أوّابٌ: أي مطيع.

٢٢٨٨٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: والطّيْرَ مَـحْشُورَةً كُلّ لَهُ أوّابٌ قال: كلّ له مطيع.

وقال آخرون: معنى ذلك: كل ذلك للّه مسبّح. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٨٨ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: والطّيْر مَـحْشُورَةً كُلّ لَهُ أوّابٌ يقول: مسبّح للّه.

٢٠

و قوله: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي به شدّد ملكه، فقال بعضهم: شدّد ذلك بـالـجنود والرجال، فكان يحرسه كلّ يوم ولـيـلة أربعة آلاف، أربعة آلاف. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٨٩ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدّيّ، قوله: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ قال: كان يحرسه كلّ يوم ولـيـلة أربعة آلاف، أربعة آلاف.

وقال آخرون: كان الذي شدد به ملكه، أن أُعطِيَ هيبة من الناس له لقضية كان قضاها. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٩٠ـ حدثنـي ابن حرب، قال: حدثنا موسى، قال: حدثنا داود، عن علبـاء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس ، أن رجلاً من بنـي إسرائيـل استعدى علـى رجل من عظمائهم، فـاجتـمعا عند داود النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال الـمستعدي: إن هذا اغتصبنـي بقرا لـي، فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده، فسأل الاَخر البـينة، فلـم يكن له بـيّنة، فقال لهما داود: قوما حتـى أنظر فـي أمركما فقاما من عنده، فأوحى اللّه إلـى داود فـي منامه أن يقتل الرجل الذي استُعدي علـيه، فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتـى أتثبت، فأوحى اللّه إلـى داود فـي منامه مرّة أخرى أن يقتل الرجل، وأوحى اللّه إلـيه الثالثة أن يقتله أو تأتـيه العقوبة من اللّه ، فأرسل داود إلـى الرجل: إن اللّه قد أوحى إلـيّ أن أقتلك، فقال الرجل: تقتلنـي بغير بـينة ولا تثبت؟ فقال له داود: نعم، واللّه لأنفذنّ أمر اللّه فـيك فلـما عرف الرجل أنه قاتله، قال: لا تعجل علـيّ حتـى أخبرك، إنـي واللّه وما أُخِذت بهذا الذنب، ولكنـي كنت اغتلت والد هذا فقتلته، فبذلك قُتلت، فأمر به داود فقُتل، فـاشتدّت هيبة بنـي إسرائيـل عند ذلك لداود، وشدد به ملْكه، فهو قول اللّه : وَشَدَدْنا مُلْكَهُ.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن اللّه تبـارك وتعالـى أخبر أنه شَدّد ملك داود، ولـم يحضر ذلك من تشديده علـى التشديد بـالرجال والـجنود دون الهيبة من الناس له ولا علـى هيبة الناس له دون الـجنود. وجائز أن يكون تشديده ذلك كان ببعض ما ذكرنا، وجائز أن يكون كان بجميعها، ولا قول أولـى فـي ذلك بـالصحة من قول اللّه ، إذ لـم يحصُرْ ذلك علـى بعض معانـي التشديد خبر يجب التسلـيـم له.

و قوله: وآتَـيْناهُ الـحِكْمَةَ اختلف أهل التأويـل فـي معنى الـحكمة فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: عُنـي بها النبوّة. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٩١ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط عن السديّ، قوله: وآتَـيْناهُ الـحِكْمَةَ قال: النبوّة.

وقال آخرون: عُنـي بها أنه علـم السنن. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٩٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وآتَـيْناهُ الـحِكْمَةَ: أي السنة.

وقد بـيّنا معنى الـحكمة فـي غير هذا الـموضع بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع.

و قوله: وفَصْلَ الـخِطابِ اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: عنـي به أنه علـم القضاء والفهم به. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٩٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس وَآتَـيْناهُ الـحِكْمَةَ وَفَصْلَ الـخِطابِ قال: أعطي الفهم.

٢٢٨٩٤ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن لـيث، عن مـجاهد وَفَصْلَ الـخِطاب قال: إصابة القضاء وفهمه.

٢٢٨٩٥ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، فـي قوله: وَفَصْل الـخِطابِقال: علـم القضاء.

٢٢٨٩٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وآتَـيْناهُ الـحِكْمَةَ وَفَصْلَ الـخِطابِ قال: الـخصومات التـي يخاصم الناس إلـيه فصل ذلك الـخطاب، الكلام الفهم، وإصابة القضاء والبـيّنات.

٢٢٨٩٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي حُصين، قال: سمعت أبـا عبد الرحمن يقول: فصل الـخطاب: القضاء.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفصل الـخطاب، بتكلـيف الـمدّعي البـينة، والـيـمين علـى الـمدّعَى علـيه. ذكر من قال ذلك:

٢٢٨٩٨ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا داود بن أبـي هند، قال: ثنـي الشعبـيّ أو غيره، عن شريح أنه قال فـي قوله: وفَصْلَ الـخِطابِ قال: بـيّنة الـمدّعي، أو يـمين الـمُدّعى علـيه.

٢٢٨٩٩ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن عُلـيّة، عن داود بن أبـي هند، فـي قوله: وآتَـيْناه الـحِكْمَةَ وَفَصْلَ الـخِطابِ قال: نُبّئت عن شريح أنه قال: شاهدان أو يـمين.

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا معتـمر، قال: سمعت داود قال: بلغنـي أن شريحا قال فصل الـخِطابِ الشاهدان علـى الـمدعي، والـيـمين علـى من أنكر.

٢٢٩٠٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن طاوس، أن شريحا قال لرجل: إن هذا يعيب علـيّ ما أُعْطِيَ داود، الشهود والأيـمان.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الـحكم، عن شريح أنه قال فـي هذه الاَية وَفَصْلَ الـخِطابِ قال: الشهود والأيـمان.

٢٢٩٠١ـ حدثنا عمران بن موسى، قال: حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا داود، عن الشعبـيّ، فـي قوله: وآتَـيْناهُ الـحِكْمَةَ وَفَصْلَ الـخِطابِ قال: يـمين أوْ شاهِدٌ.

٢٢٩٠٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَفَصْلَ الـخِطابِ البـينة علـى الطالب، والـيـمين علـى الـمطلوب، هذا فصل الـخطاب.

وقال آخرون: بل هو قولُ: أما بعد. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٠٣ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: حدثنا إسماعيـل، عن الشعبـيّ فـي قوله: وَفَصْلَ الـخِطابِ قال: قول الرجل: أما بعد.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن اللّه أخبر أنه آتـى داود صلوات اللّه علـيه فصل الـخطاب، والفصل: هو القطع، والـخطاب هو الـمخاطبة، ومن قطع مخاطبة الرجل الرجل فـي حال احتكام أحدهما إلـى صاحبه قطع الـمـحتكم إلـيه الـحكم بـين الـمـحتكم إلـيه وخصمه بصواب من الـحكم، ومن قطع مخاطبته أيضا صاحبه إلزام الـمخاطب فـي الـحكم ما يجب علـيه إن كان مدعيا، فإقامة البـينة علـى دعواه وإن كان مدعى علـيه فتكلـيفه الـيـمين إن طلب ذلك خصمه. ومن قطع الـخطاب أيضا الذي هو خطبة عند انقضاء قصة وابتداء فـي أخرى الفصل بـينهما بأما بعد. فإذ كان ذلك كله مـحتـملاً ظاهر الـخبر ولـم تكن فـي هذه الاَية دلالة علـى أيّ ذلك الـمرادُ، ولا ورد به خبر عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ثابت، فـالصواب أن يعم الـخبر، كما عمه اللّه ، فـيقال: أُوتـي داود فصل الـخطاب فـي القضاء والـمـحاورة والـخطب.

٢١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَاُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوّرُواْ الْمِحْرَابَ}.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : وهل أتاك يا مـحمد نبأ الـخصم

وقـيـل: إنه عُنـي بـالـخصم فـي هذا الـموضع ملكان، وخرج فـي لفظ الواحد، لأنه مصدر مثل الزور والسفر، لا يثنى ولا يجمع ومنه قول لبـيد:

وَخَصْمٍ يَعُدّونَ الذّحُولَ كأنّهُمْقُرُومٌ غَيَارَى كلّ أزْهَرَ مُصْعَب

و قوله: إذْ تَسَوّرُوا الـمِـحْرَابَ يقول: دخـلوا علـيه من غير بـاب الـمـحراب والـمـحراب مقدّم كل مـجلس وبـيت وأشرفه.

٢٢

و قوله: إذْ دَخَـلُوا عَلـى دَاوُدَ فكرّر إذ مرّتـين، وكان بعض أهل العربـية يقول فـي ذلك: قد يكون معناهما كالواحد، كقولك: ضربتك إذ دخـلت علـيّ إذ اجترأت، فـيكون الدخول هو الاجتراء، ويكون أن تـجعل إحداهما علـى مذهب لـما، فكأنه قال: إذ تسوّروا الـمـحراب لـما دخـلوا، قال: وإن شئت جعلت لـما فـي الأوّل، فإذا كان لـما أوّلا أو آخرا، فهي بعد صاحبتها، كما تقول: أعطيته لـما سألنـي، فـالسؤال قبل الإعطاء فـي تقدّمه وتأخره.

و قوله: فَفَزِعَ مِنْهُمْ يقول القائل: وما كان وجه فزعه منهما وهما خصمان، فإنّ فزعه منهما كان لدخولهما علـيه من غير البـاب الذي كان الـمَدْخَـل علـيه، فراعه دخولهما كذلك علـيه. و

قـيـل: إن فزعه كان منهما، لأنهما دخلا علـيه لـيلاً فـي غير وقت نظره بـين الناس قالوا: لا تَـخَفْ

يقول تعالـى ذكره: قال له الـخصم: لا تـخف يا داود، وذلك لـمّا رأياه قد ارتاع من دخولهما علـيه من غير البـاب. وفـي الكلام مـحذوف استغنـي بدلالة ما ظهر من الكلام منه، وهو مرافع خصمان، وذلك نـحن. وإنـما جاز ترك إظهار ذلك مع حاجة الـخصمين إلـى الـمرافع، لأن قوله خَصْمانِ فعل للـمتكلـم، والعرب تضمر للـمتكلـم والـمكلّـم والـمخاطب ما يرفع أفعالهما، ولا يكادون أن يفعلوا ذلك بغيرهما، فـيقولون للرجل يخاطبونه: أمنطلق يا فلان ويقول الـمتكلـم لصاحبه: أحسن إلـيك وتـجمل، وإنـما يفعلون ذلك كذلك فـي الـمتكلـم والـمكلّـم، لأنهما حاضران يعرف السامع مراد الـمتكلـم إذا حُذف الاسم، وأكثر ما يجِيـيء ذلك فـي الاستفهام، وإن كان جائزا فـي غير الاستفهام، فـيقال: أجالس راكب؟ فمن ذلك قوله خَصْمان ومنه قول الشاعر:

وَقُولا إذَا جاوَزْتُـمَا أرْضَ عامِرٍوَجاوَزْتُـمَا الـحَيّـيْنَ نَهْدا وخَثْعَما

نَزيعانِ مِنْ جَرْمِ بْنِ رَبّـانِ إنهمْأَبَوْا أن يُـميرُوا فـي الهَزَاهِزِ مِـحْجَما

وقول الاَخر:

تَقُولُ ابْنَةُ الكَعْبِـيّ يوْمَ لَقِـيتُهاأمُنْطَلِقٌ فـي الـجَيْشِ أمْ مُتَثاقِلُ

ومنه قولهم: (مُـحْسِنة فهيـلـي) . وقول النبي صلى اللّه عليه وسلم : (آئِبُونَ تائِبُونَ) .

و قوله: (جاءَ يَوْمَ القِـيامَةِ مَكْتُوبٌ بـينَ عَيْنَـيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللّه ) كلّ ذلك بضميرٍ رَفَعه. وقوله عزّ وجلّ بَغَى بَعْضُنا علـى بَعْضٍ يقول: تعدّى أحدنا علـى صاحبه بغير حقّ فـاحْكُمْ بَـيْنَنا بـالـحَقّ يقول: فـاقضِ بـيننا بـالعدّل وَلا تُشْطِطْ: يقول: ولا تَـجُر، ولا تُسْرِف فـي حكمك، بـالـميـل منك مع أحدنا علـى صاحبه. وفـيه لغتان: أشَطّ، وشَطّ. ومن الإشطاط قول الأحوص:

ألا يا لَقَوْمٍ قَدْ أشَطّتْ عَوَاذِلـيوَيَزْعُمْنَ أنْ أَوْدَي بحَقّـيَ بـاطِلِـي

ومسموع من بعضهم: شَطَطْتَ علـيّ فـي السّوْم. فأما فـي البعد فإن أكثر كلامهم: شَطّت الدار، فهي تَشِطّ، كما قال الشاعر:

تَشِطّ غَدا دَارُ جِيرَانِناوللدّارُ بَعْدَ غَدٍ أبْعَدُ

و قوله: وَاهْدِنا إلـى سَوَاءِ الصّراطِ يقول: وأرشدنا إلـى قَصْد الطريق الـمستقـيـم. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل قوله: وَلا تُشْطِطْ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٠٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَلا تُشْطِطْ: أي لا تـمل.

٢٢٩٠٥ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ وَلا تُشْطِطْ يقول: لا تُـحِف.

٢٢٩٠٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَلا تُشْطِطْ تـخالف عن الـحقّ.

وكالذي قلنا أيضا فـي قوله: وَاهْدِنا إلـى سَوَاءِ الصّراطِ قالوا: ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٠٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَاهْدِنا إلـى سَوَاء الصّراطِ إلـى عدله وخيره.

٢٢٩٠٨ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ وَاهْدنا إلـى سَوَاءِ الصّراطِ إلـى عدل القضاء.

٢٢٩٠٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَاهْدِنا إلـى سَوَاء الصّراطِ قال: إلـى الـحقّ الذي هو الـحقّ: الطريق الـمستقـيـم وَلا تُشْطِطْ تذهب إلـى غيرها.

٢٢٩١٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلـم، عن وهب بن منبه: وَاهْدِنا إلـى سَوَاء الصّراطِ: أي احملنا علـى الـحقّ، ولا تـخالف بنا إلـى غيره.

٢٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزّنِي فِي الْخِطَابِ }.

وهذا مثل ضربه الـخصم الـمتسوّرون علـى داود مـحرابه له، وذلك أن داود كانت له فـيـما

قـيـل: تسع وتسعون امرأة، وكانت للرجل الذي أغزاه حتـى قُتل امرأة واحدة فلـما قُتل نكح فـيـما ذُكر داود امرأته، فقال له أحدهما: إنّ هَذَا أخي يقول: أخي علـى دينـي، كما:

٢٢٩١١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلـم، عن وهب بن مبنه: إنّ هَذَا أَخي: أي علـى دينـي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ولـي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ.

وذُكر أن ذلك فـي قراءة عبد اللّه : (إنّ هَذَا أخي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى) وذلك علـى سبـيـل توكيد العرب الكلـمة، كقولهم: هذا رجل ذكر، ولا يكادون أن يفعلوا ذلك إلا فـي الـمؤنث والـمذكر الذي تذكيره وتأنـيثه فـي نفسه كالـمرأة والرجل والناقة، ولا يكادون أن يقولوا هذه دار أنثى، وملـحفة أنثى، لأن تأنـيثها فـي اسمها لا فـي معناها. و

قـيـل: عنى ب قوله: أنثى: أنها حسنة. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩١٢ـ حُدثت عن الـمـحاربـي، عن جُوَيبر، عن الضحاك (إن هَذَا أخي لَهُ تَسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى) يعني بتأنـيثها. حسنها.

و قوله: فقالَ أكْفِلْنِـيها يقول: فقال لـي: انزل عنها لـي وضمها إلـيّ، كما:

٢٢٩١٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: أكْفلْنِـيها قال: أعطنـيها، طلّقها لـي، أنكحها، وخـلّ سبـيـلها.

٢٢٩١٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلـم، عن وهب بن منبه، فقال: أكْفِلْنِـيها أي أحملنـي علـيها.

و قوله: وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ يقول: وصار أعزّ منـي فـي مخاطبته إياي، لأنه إن تكلـم فهو أبـين منـي، وإن بطش كان أشدّ منـي فقهرنـي. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩١٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبـي الضحى، عن مسروق، قال: قال عبد اللّه فـي قوله: وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ قال: ما زاد داود علـى أن قال: انزل لـي عنها.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنـي أبـي، عن الـمسعودي، عن الـمنهال، عن سعيد بن جُبَـير، عن ابن عباس قال: ما زاد علـى أن قال: انزل لـي عنها.

وحدثنـي يحيى بن إبراهيـم الـمسعودي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن جده، عن الأعمش، عن مسلـم، عن مسروق، قال: قال عبد اللّه : ما زاد داود علـى أن قال: أكْفِلْنِـيها.

٢٢٩١٦ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ قال: إن دعوت ودعا كان أكثر، وإن بطشت وبطش كان أشدّ منـي، فذلك قوله: وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ.

٢٢٩١٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَعَزّنـي فِـي الـخِطابِ أي ظلـمنـي وقهرنـي.

٢٢٩١٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قلا: قال ابن زيد فـي قوله: وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ قال: قهرنـي، وذلك العزّ قال: والـخطاب: الكلام.

٢٢٩١٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلـم عن وهب بن منبه وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ: أي قهرنـي فـي الـخطاب، وكان أقوى منـي، فحاز نعجتـي إلـى نعاجه، وتركنـي لا شيء لـي.

٢٢٩٢٠ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ قال: إن تكلـم كان أبـين منـي، وإن بطش كان أشدّ منـي، وإن دعا كان أكثر منـي.

٢٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىَ نِعَاجِهِ ...}.

يقول تعالـى ذكره: قال داود للـخصم الـمتظلـم من صاحبه: لقد ظلـمك صاحبك بسؤاله نعجتك إلـى نعاجه وهذا مـما حُذفت منه الهاء فأضيف بسقوط الهاء منه إلـى الـمفعول به، ومثله قوله عزّ وجلّ: لا يَسْأَمُ الإنْسانُ مِنْ دُعاءِ الـخَيْرِ والـمعنى: من دعائه بـالـخير، فلـما أُلْقِـيت الهاء من الدعاء أضيف إلـى الـخير، وألقـي من الـخير البـاء وإنـما كنى بـالنعجة ها هنا عن الـمرأة، والعرب تفعل ذلك ومنه قول الأعشى:

قَدْ كُنْتُ رَائِدَها وَشاةِ مُـحَاذِرٍحَذَرَا يُقِلّ بعَيْنِهِ إغْفَـالَهَا

 يعني بـالشاة: امرأة رجل يحذر الناس علـيها وإنـما يعني : لقد ظلـمت بسؤال امرأتك الواحدة إلـى التسع والتسعين من نسائه.

و قوله: وَإنّ كَثِـيرا مِنَ الـخُـلَطاءِ لَـيَبْغِي بَعْضُهُمْ علـى بَعْضٍ يقول: وإن كثـيرا من الشركاء لـيتعدّى بعضهم علـى بعض إلاّ الّذِينَ آمَنُوا بـاللّه وَعَمِلُوا الصّالِـحاتِ يقول: وعملوا بطاعة اللّه ، وانتهوا إلـى أمره ونهيه، ولـم يتـجاوزوه وَقَلِـيـلٌ ما هُمْ. وفـي (ما) التـي فـي قوله: وَقَلِـيـلٌ ما هُم وجهان: أحدهما أن تكون صلة بـمعنى: وقلـيـل هم، فـيكون إثبـاتها وإخراجها من الكلام لا يُفسد معنى الكلام: والاَخر أن تكون اسما، و(هم) صلة لها، بـمعنى: وقلـيـل ما تـجدهم، كما يقال: قد كنت أحسبك أعقل مـما أنت، فتكون أنت صلة لـما، والـمعنى: كنت أحسب عقلك أكثر مـما هو، فتكون (ما) والاسم مصدرا، ولو لـم ترد الـمصدر لكان الكلام بـمن، لأن من التـي تكون للناس وأشبـاههم، ومـحكيّ عن العرب: قد كنت أراك أعقل منك مثل ذلك، وقد كنت أرى أنه غير ما هو، بـمعنى: كنت أراه علـى غير ما رأيت. ورُوي عن ابن عباس فـي ذلك ما:

٢٢٩٢١ـ حدثنـي به علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، فـي قوله: وَقَلِـيـلٌ ما هُمْ يقول: وقلـيـل الذين هم.

٢٢٩٢٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وَعملُوا الصّالِـحاتِ وَقَلِـيـلٌ ما هُمْ قال: قلـيـل من لا يبغي.

فعلـى هذا التأويـل الذي تأوّله ابن عباس معنى الكلام: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالـحات، وقلـيـل الذين هم كذلك، بـمعنى: الذين لا يبغي بعضهم علـى بعض، و(ما) علـى هذا القول بـمعنى: مَنْ.

و قوله: وَظَنّ دَاوُدُ أنّـمَا فَتَنّاهُ يقول: وعلـم داود أنـما ابتلـيناه، كما:

٢٢٩٢٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَظَنّ دَاوُدُ: علـم داود.

٢٢٩٢٤ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن عُلَـية، عن أبـي رجاء، عن الـحسن وَظَنّ دَاوُدَ أنّـمَا فَتَنّاهُ قال: ظنّ أنـما ابْتُلِـي بذاك.

٢٢٩٢٥ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس وَظَنّ دَاوُدُ أنّـمَا فَتَنّاهُ قال: ظنّ أنـما ابتُلـي بذاك.

حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس وَظَنّ دَاوُدُ أنّـمَا فَتَنّاهُ اختبرناه.

والعرب توجه الظنّ إذا أدخـلته علـى الإخبـار كثـيرا إلـى العلـم الذي هو من غير وجه العيان.

و قوله: فـاسْتَغْفَرَ رَبّهُ يقول: فسأل داود ربه غفران ذنبه وَخَرّ رَاكِعا يقول: وخرّ ساجدا للّه وأنابَ يقول: ورجع إلـى رضا ربه، وتاب من خطيئته.

واختلف فـي سبب البلاء الذي ابتُلـي به نبـيّ اللّه داود صلى اللّه عليه وسلم ، فقال بعضهم: كان سبب ذلك أنه تذكر ما أعطى اللّه إبراهيـم وإسحاق ويعقوب من حسن الثناء البـاقـي لهم فـي الناس، فتـمنى مثله، ف

قـيـل له: إنهم امتُـحنوا فصبروا، فسأل أن يُبْتَلـى كالذي ابتلوا، ويعطى كالذي أعطوا إن هو صبر. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٢٦ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وَهَلْ أتاكَ نَبَأُ الـخَصْمِ إذْ تَسَوّرُوا الـمِـحْرَابَ قال: إن داود قال: يا ربّ قد أعطيت إبراهيـم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لوددت أنك أعطيتنـي مثله، قال اللّه : إنـي ابتلـيتهم بـما لـم أبتلك به، فإن شئت ابتلـيتك بـمثل ما ابتلـيتهم به، وأعطيتك كما أعطيتهم، قال: نعم، قال له: فـاعمل حتـى أرى بلاءك فكان ما شاء اللّه أن يكون، وطال ذلك علـيه، فكاد أن ينساه فبـينا هو فـي مـحرابه، إذ وقعت علـيه حمامة من ذهب فأراد أن يأخذها، فطار إلـى كوّة الـمـحراب، فذهب لـيأخذها، فطارت، فـاطّلع من الكوّة، فرأى امرأة تغتسل، فنزل نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الـمـحراب، فأرسل إلـيها فجاءته، فسألها عن زوجها وعن شأنها، فأخبرته أن زوجها غائب، فكتب إلـى أمير تلك السّرية أن يؤمّره علـى السرايا لـيهلك زوجها، ففعل، فكان يُصاب أصحابه وينـجو، وربـما نُصروا، وإن اللّه عزّ وجلّ لـما رأى الذي وقع فـيه داود، أراد أن يستنقذه فبـينـما داود ذات يوم فـي مـحرابه، إذ تسوّر علـيه الـخَصْمان من قِبَل وجهه فلـما رآهما وهو يقرأ فزع وسكت، وقال: لقد استضعفت فـي مُلكي حتـى إن الناس يستوّرون علـيّ مـحرابـي، قالا له: لا تـخَفْ خَصْمان بَغَى بَعْضُنا عَلـى بَعْضٍ ولـم يكن لنا بدّ من أن نأتـيك، فـاسمع منا قال أحدهما: إنّ هَذَا أخي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أنثى ولـي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقالَ أكْفِلْنِـيها يريد أن يتـمـم بها مئة، ويتركنـي لـيس لـي شيء وَعَزّنـي فِـي الـخِطابِ قال: إن دعوت ودعا كان أكثر، وإن بطشت وبطش كان أشدّ منـي، فذلك قوله: وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ قال له داود: أنت كنت أحوج إلـى نعجتك منه لَقَدْ ظَلَـمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلـى نِعاجِهِ... إلـى قوله: وَقَلِـيـلٌ ما هُمْ ونسي نفسه صلى اللّه عليه وسلم ، فنظر الـملكان أحدهما إلـى الاَخر حين قال ذلك، فتبسّم أحدهما إلـى الاَخر، فرآه داود وظنّ أنـما فتن فـاستغفر رَبّه وَخَرّ رَاكِعا وأنابَ أربعين لـيـلة، حتـى نبتت الـخُضرة من دموع عينـيه، ثم شدد اللّه له ملكه.

٢٢٩٢٧ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، فـي قوله: وَهَلْ أتاكَ نَبأُ الـخَصْمِ إذْ تَسَوّرُوا الـمِـحْرابَ قال: كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام: يوم يَقْضِي فـيه بـين الناس، ويوم يخـلو فـيه لعبـادة ربه، ويوم يخـلو فـيه لنسائه وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان فـيـما يقْرأ من الكتب أنه كان يجد فـيه فضل إبراهيـم وإسحاق ويعقوب فلـما وجد ذلك فـيـما يقرأ من الكتب قال: يا ربّ إن الـخير كله قد ذهب به آبـائي الذين كانوا قبلـي، فأعطنـي مثل ما أعطيتهم، وافعل بـي مثل ما فعلت بهم، قال: فأوحى اللّه إلـيه: إن آبـاءك ابتلوا ببلايا لـم تبتل بها ابتلـي إبراهيـم بذبح ابنه، وابتُلـي إسحاق بذهاب بصره، وابتُلـي يعقوب بحُزنه علـى يوسف، وإنك لـم تبتل من ذلك بشيء، قال: يا ربّ ابتلنـي بـمثل ما ابتلـيتهم به، وأعطنـي مثل ما أعطيتهم قال: فأُوحِيَ إلـيه: إنك مبتلًـى فـاحترس قال: فمكث بعد ذلك ما شاء اللّه أن يـمكث، إذ جاءه الشيطان قد تـمثل فـي صورة حمامة من ذهب، حتـى وقع عند رجلـيه وهو قائم يصلـي، فمدّ يده لـيأخذه، فتنـحى فتبعه، فتبـاعد حتـى وقع فـي كوّة، فذهب لـيأخذه، فطار من الكوّة، فنظر أين يقع، فـيبعث فـي أثره. قال: فأبصر امرأة تغتسل علـى سطح لها، فرأى امرأة من أجمل الناس خَـلْقا، فحانت منها التفـاتة فأبصرته، فألقت شعرها فـاستترت به، قال: فزاده ذلك فـيها رغبة، قال: فسأل عنها، فأخبر أن لها زوجا، وأن زوجها غائب بـمسلـحة كذا وكذا قال: فبعث إلـى صاحب الـمسلـحة أن يبعث أهريا إلـى عدوّ كذا وكذا، قال: فبعثه، ففُتـح له. قال: وكتب إلـيه بذلك، قال: فكتب إلـيه أيضا: أن ابعثه إلـى عدوّ كذا وكذا، أشدّ منهم بأسا، قال: فبعثه ففُتـح له أيضا. قال: فكتب إلـى داود بذلك، قالَ: فكتب إلـيه أن ابعثه إلـى عدوّ كذا وكذا، فبعثه فقُتل الـمرّة الثالثة، قال: وتزوّج امرأته.

قال: فلـما دخـلت علـيه، قال: لـم تلبث عنده إلا يسيرا حتـى بعث اللّه مَلَكين فـي صورة إنسيـين، فطلبـا أن يدخلا علـيه، فوجداه فـي يوم عبـادته، فمنعهما الـحرس أن يدخلا، فتسوّروا علـيه الـمـحراب، قال: فما شعر وهو يصلـي إذ هو بهما بـين يديه جالسين، قال: ففزع منهما، فقالا: لا تَـخَفْ إنـما نـحن خَصْمان بَغَى بَعْضُنا علـى بَعْضٍ فـاحْكُمْ بَـيْنَنا بـالـحَقّ وَلا تُشْطِطْ يقول: لا تـحف وَاهْدِنَا إلـى سَوَاءِ الصّراط: إلـى عدل القضاء. قال: فقال: قصّا علـيّ قصتكما، قال: فقال أحدهما: إنّ هَذَا أخي لَه تَسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلـي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فهو يريد أن يأخذ نعجتـي، فـيكمل بها نعاجه مئة. قال: فقال للاَخر: ما تقول؟ فقال: إن لـي تسعا وتسعين نعجة، ولأخي هذا نعجة واحدة، فأنا أريد أن آخذها منه، فأكمل بها نعاجي مئة، قال: وهو كاره؟ قال: وهو كاره، قال: وهو كاره؟ قال: إذن لا ندعك وذاك، قال: ما أنت علـى ذلك بقادر، قال: فإن ذهبت تروم ذلك أو تريد، ضربنا منك هذا وهذا وهذا، وفسر أسبـاط طرف الأنف، وأصل الأنف والـجبهة قال: يا داود أنت أحقّ أن يُضرب منك هذا وهذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون نعجة امرأة، ولـم يكن لأهريا إلا امرأة واحدة، فلـم تزل به تعرّضه للقتل حتـى قتلته، وتزوّجت امرأته. قال: فنظر فلـم ير شيئا، فعرف ما قد وقع فـيه، وما قد ابتُلـي به. قال: فخرّ ساجدا، قال: فبكى. قال: فمكث يبكي ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لـحاجة منها، ثم يقع ساجدا يبكي، ثم يدعو حتـى نبت العشب من دموع عينـيه. قال: فأوحى اللّه إلـيه بعد أربعين يوما: يا داود ارفع رأسك، فقد غفرت لك، فقال: يا ربّ كيف أعلـم أنك قد غفرت لـي وأنت حكم عدل لا تـحيف فـي القضاء، إذا جاءك أهريا يوم القـيامة آخذا رأسه بـيـمينه أو بشماله تشخب أو داجه دما فـي قبل عشك يقول: يا ربّ سل هذا فـيـم قتلنـي؟ قال: فأوحى إلـيه: إذا كان ذلك دعوت أهريا، فأستوهبك منه، فـيهبك لـي، فأثـيبه بذلك الـجنة، قال: ربّ الاَن علـمت أنك قد غفرت لـي، قال: فما استطاع أن يـملأ عينـيه من السماء حياء من ربه حتـى قُبض صلى اللّه عليه وسلم .

٢٢٩٢٨ـ حدثنـي علـيّ بن سهل، قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: ثنـي عطاء الـخراسانـي، قال: نقش داود خطيئته فـي كفه لكيلا ينساها، قال: فكان إذا رآها خفقت يده واضطربت.

وقال آخرون: بل كان ذلك لعارض كان عرض فـي نفسه من ظنّ أنه يطيق أن يتـم يوما لا يصيب فـيه حوبة، فـابتلـي بـالفتنة التـي ابتلـي بها فـي الـيوم الذي طمع فـي نفسه بإتـمامه بغير إصابة ذنب. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٢٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن مطر، عن الـحسن: إن داود جَزّأ الدهر أربعة أجزاء: يوما لنسائه، ويوما لعبـادته، ويوما لقضاء بنـي إسرائيـل، ويوما لبنـي إسرائيـل يذاكرهم ويذاكرونه، ويبكيهم ويبكونه فلـما كان يوم بنـي إسرائيـل قال: ذكروا فقالوا: هل يأتـي علـى الإنسان يوم لا يصيب فـيه ذنبـا؟ فأضمر داود فـي نفسه أنه سيطيق ذلك فلـما كان يوم عبـادته، أغلق أبوابه، وأمر أن لا يدخـل علـيه أحد، وأكبّ علـى التوراة فبـينـما هو يقرؤها، فإذا حمامة من ذهب فـيها من كلّ لون حسن، قد وقعت بـين يديه، فأهوى إلـيها لـيأخذها، قال: فطارت، فوقعت غير بعيد، من غير أن تؤْيسه من نفسها، قال: فما زال يتبعها حتـى أشرف علـى امرأة تغتسل، فأعجبه خَـلْقها وحُسنها قال: فلـما رأت ظله فـي الأرض، جللت نفسها بشعرها، فزاده ذلك أيضا إعجابـا بها، وكان قد بعث زوجها علـى بعض جيوشه، فكتب إلـيه أن يسير إلـى مكان كذا وكذا، مكان إذا سار إلـيه لـم يرجع، قال: ففعل، فأُصيب فخطبها فتزوّجها. قال: وقال قتادة : بلغنا أنها أمّ سلـيـمان، قال: فبـينـما هو فـي الـمـحراب، إذ تسوّر الـملكان علـيه، وكان الـخصمان إذا أتوه يأتونه من بـاب الـمـحراب، ففزع منهم حين تسوّروا الـمـحراب، فقالوا: لا تَـخَفْ خَصْمانِ بَغَى بَعْضُنا علـى بَعْضٍ... حتـى بلغ وَلا تُشْطِطْ: أي لا تـمل وَاهْدِنا إلـى سَوَاءِ الصّراطِ: أي أعدله وخيره إنّ هَذَا أخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً، وكان لداود تسع وتسعون امرأة وَلِـي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ قال: وإنـما كان للرجل امرأة واحدة فَقالَ أكْفِلْنِـيها وَعَزّنِـي فِـي الـخِطابِ أي: ظلـمنـي وقهرنـي، فقال: لَقَدْ ظَلَـمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلـى نِعاجِهِ... إلـى قوله: وَقَلـيـلٌ ما هُمْ وَظَنّ دَاوُدُ فعلـم داود أنـما صُمِد له: أي عنى به ذلك فَخَرّ رَاكِعا وأنابَ قال: وكان فـي حديث مطر، أنه سجد أربعين لـيـلة، حتـى أوحى اللّه إلـيه: إنـي قد غفرت لك، قال: ربّ وكيف تغفر لـي وأنت حكم عدل، لا تظلـم أحدا؟ قال: إنـي أقضيك له، ثم أستوهبه أو ذنبك، ثم أثـيبه حتـى يرضى، قال: الاَن طابت نفسي، وعلـمت أنك قد غفرت لـي.

٢٢٩٣٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلـم، عن وهب بن منبه الـيـمانـيّ، قال: لـما اجتـمعت بنو إسرائيـل، علـى داود، أنزل اللّه علـيه الزّبور، وعلّـمه صنعة الـحديد، فألانه له، وأمر الـجبـال والطير أن يسبّحن معه إذا سبح، ولـم يعط اللّه فـيـما يذكرون أحدا من خـلقه مثل صوته كان إذا قرأ الزبور فـيـما يذكرون، تدنو له الوحوش حتـى يأخذ بأعناقها، وإنها لـمصيخة تسمع لصوته، وما صنعت الشياطين الـمزامير والبرابط والصنوج، إلا علـى أصناف صوته، وكان شديد الاجتهاد دائب العبـادة، فأقام فـي بنـي إسرائيـل يحكم فـيهم بأمر اللّه نبـيا مستـخـلفـا، وكان شديد الاجتهاد من الأنبـياء، كثـير البكاء، ثم عرض من فتنة تلك الـمرأة ما عرض له، وكان له مِـحْراب يتوحد فـيه لتلاوة الزّبور، ولصلاته إذا صلـى، وكان أسفل منه جنـينة لرجل من بنـي إسرائيـل، كان عند ذلك الرجل الـمرأة التـي أصاب داود فـيها ما أصابه.

٢٢٩٣١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلـم، عن وهب بن منبه، أن داود حين دخـل مـحرابه ذلك الـيوم، قال: لا يدخـلنّ علـيّ مـحرابـي الـيوم أحد حتـى اللـيـل، ولا يشغلنـي شيء عما خـلوت له حتـى أُمسي ودخـل مـحرابه، ونشر زَبوره يقرؤه وفـي الـمـحراب كوّة تطلعه علـى تلك الـجنـينة، فبـينا هو جالس يقرأ زبوره، إذ أقبلت حمامة من ذهب حتـى وقعت فـي الكوّة، فرفع رأسه فرآها، فأعجبته، ثم ذكر ما كان قال: لا يشغله شيء عما دخـل له، فنكّس رأسه وأقبل علـى زَبوره، فتصوّبت الـحمامة للبلاء والاختبـار من الكوّة، فوقعت بـين يديه، فتناولها بـيده، فـاستأخرتْ غير بعيد، فـاتبعها، فنهضت إلـى الكوة، فتناولها فـي الكوّة، فتصوّبت إلـى الـجنـينة، فأتبعها بصره أين تقع، فإذا الـمرأة جالسة تغتسل بهيئةٍ اللّه أعلـم بها فـي الـجمال والـحُسن والـخَـلْق فـيزعمون أنها لـما رأته نقضت رأسها فوارت به جسدها منه، واختطفت قلبه، ورجع إلـى زَبوره ومـجلسه، وهي من شأنه لا يفـارق قلبه ذكرها. وتـمادى به البلاء حتـى أغزى زوجها، ثم أمر صاحب جيشه فـيـما يزعم أهل الكتاب أن يقدّم زوجها للـمهالك حتـى أصابه بعض ما أراد به من الهلاك، ولداود تسع وتسعون امرأة فلـما أصيب زوجها خطبها داود، فنكحها، فبعث اللّه إلـيه وهو فـي مـحرابه مَلكين يختـمصان إلـيه، مثلاً يضربه له ولصاحبه، فلـم يرع داود إلا بهما واقـفـين علـى رأسه فـي مـحرابه، فقال: ما أدخـلكما علـيّ؟ قالا: لا تـخف لـم ندخـل لبأس ولا لريبة خَصْمان بَغَى بَعْضُنا عَلـى بَعْضٍ فجئناك لتقضي بـيننا فـاحْكُمْ بَـيْنَنا بـالـحَقّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إلـى سَوَاءِ الصّراطِ: أي احملنا علـى الـحقّ، ولا تـخالف بنا إلـى غيره قال الـملك الذي يتكلـم عن أوريا بن جنانـيا زوج الـمرأة: إنّ هذَا أخي أي علـى دينـي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِـيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقالَ أكْفِلْنِـيها أي احملنـي علـيها، ثم عزّنـي فـي الـخطاب: أي قهرنـي فـي الـخطاب، وكان أقوى منـي هو وأعزّ، فحاز نعجتـي إلـى نعاجه وتركنـي لا شيء لـي فغضب داود، فنظر إلـى خصمه الذي لـم يتكلـم، فقال: لئن كان صدقنـي ما يقول، لأضربنّ بـين عينـيك بـالفأس ثم ارعوى داود، فعرف أنه هو الذي يُراد بـما صنع فـي امرأة أوريا، فوقع ساجدا تائبـا منـيبـا بـاكيا، فسجد أربعين صبـاحا صائما لا يأكل فـيها ولا يشرب، حتـى أنبت دمعه الـخضر تـحت وجهه، وحتـى أندب السجود فـي لـحم وجهه، فتاب اللّه علـيه وقبل منه.

ويزعمون أنه قال: أي ربّ هذا غفرت ما جنـيت فـي شأن الـمرأة، فكيف بدم القتـيـل الـمظلوم؟

قـيـل له: يا داود، فـيـما زعم أهل الكتاب، أما إن ربك لـم يظلـمه بدمه، ولكنه سيسأله إياك فـيعطيه، فـيضعه عنك فلـما فرج عن داود ما كان فـيه، رسم خطيئته فـي كفه الـيـمنى بطن راحته، فما رفع إلـى فـيه طعاما ولا شرابـا قطّ إلا بكى إذا رآها، وما قام خطيبـا فـي الناس قطّ إلا نشر راحته، فـاستقبل بها الناس لـيروا رسم خطيئته فـي يده.

٢٢٩٣٢ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت لـيثا يذكر عن مـجاهد قال: لـما أصاب داود الـخطيئة خرّ للّه ساجدا أربعين يوما حتـى نبت من دموع عينـيه من البقل ما غطّى رأسه ثم نادى: ربّ قرح الـجبـين، وَجَمَدت العين، وداود لـم يرجع إلـيه فـي خطيئته شيء، فنودي: أجائع فتطعم، أم مريض فتشفـى، أم مظلوم فـينتصر لك؟ قال: فنـحب نـحبة هاج كلّ شيء كان نبت، فعند ذلك غفر له. وكانت خطيئته مكتوبة بكفه يقرؤها، وكان يؤتـي بـالإناء لـيشرب فلا يشرب إلا ثلثه أو نصفه، وكان يذكر خطيئته، فـينـحِب النّـحْبة تكاد مفـاصله تزول بعضها من بعض، ثم ما يتـمّ شرابه حتـى يـملأه من دموعه وكان يقال: إن دمعة داود، تعدل دمعة الـخلائق، ودمعة آدم تعدل دمعة داود ودمعة الـخلائق، قال: فهو يجيء يوم القـيامة خطيئته مكتوبة بكفه، فـيقول: ربّ ذنبـي ذنبـي قدّمنـي، قال: فـيقدم فلا يأمن فـيقول: ربّ أخّرنـي فـيؤخّر فلا يأمن.

٢٢٩٣٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي ابن لَهِيعة، عن أبـي صخر، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك سمعه يقول: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (إنّ دَاوُدَ النبي صَلـى اللّه عَلـيهِ وسلم حِينَ نَظَرَ إلـى الـمرأَةِ فأَهَمّ، قَطَعَ عَلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ، فأَوْصَى صَاحِبَ البَعْثِ، فَقالَ: إذَا حَضَرَ العَدُوّ، فَقَرّبْ فُلانا بـينَ يَدَي التّابُوتِ، وكانَ التّابُوتُ فِـي ذلكَ الزّمانِ يُسْتَنْصَرُ بِهِ، مَنْ قُدّمَ بـينَ يَدَيِ التّابُوتِ لَـمْ يَرْجِعْ حتـى يُقْتَلَ أوْ يَنْهَزِمَ عَنْهُ الـجَيْشُ، فَقُتِلَ زَوْجُ الـمُرأةِ وَنَزَلَ الـمَلَكانِ علـى دَاوُدَ يَقُصّانِ عَلَـيْهِ قِصّتَهُ، فَفَطِنَ دَاوُدُ فَسَجَدَ، فَمَكَثَ أرْبَعِينَ لَـيْـلَةً ساجِدا حتـى نَبَتَ الزّرْعُ مِنْ دُمُوعِهِ عَلـى رأْسِهِ، وأكَلَت الأرْضُ جَبِـينَهُ وَهُوَ يَقُولُ فِـي سُجُودِهِ) فلـم أُحصِ من الرّقاشيّ إلا هؤلاء الكلـمات: (رَبّ زَلّ دَاوُدُ زَلّةً أبْعَدُ ما بـينَ الـمَشْرِقِ والـمَغْرب، إنْ لَـمْ تَرْحَمْ ضَعفَ دَاوُدَ وَتَغْفِرَ ذَنْبَهُ، جعَلْتَ ذَنْبَهُ حَدِيثا فِـي الـخُـلُوفِ مِنْ بَعْدِهِ، فَجاءَه جَبْرَائِيـلُ صَلـى اللّه علـيهِ وسلم مِنْ بَعْدِ الأرْبَعِينَ لَـيْـلَةً، فَقالَ: يا دَاوُدَ إنّ اللّه قَدْ غَفَرَ لَكَ الهَمّ الّذي هَمَـمْتَ بِهِ، فقالَ دَاوُدُ: عَلِـمْتُ أنّ الرّبّ قادِرٌ عَلـى أنْ يَغْفِرَ لِـي الهَمّ الّذِي هَمَـمْتُ بِهِ، وَقَدْ عَرَفْتُ أنّ اللّه عَدْلٌ لاَ يـميـلُ فَكَيْفَ بفُلانٍ إذَا جاءَ يَوْمَ القِـيامَةِ فقالَ: يا رَبّ دَمي الّذِي عِنْدَ دَاوُدَ فَقالَ جَبْرِائيـلُ صَلـى اللّه علـيهِ وسلم : ما سأَلْتُ رَبّكَ عَنْ ذلكَ، وَلَئِنْ شِئْتَ لأَفْعَلَنّ، فَقالَ: نَعَمْ، فَعَرَجَ جِبْرِيـلُ وَسَجَدَ دَاوُدُ، فَمَكَثَ ما شاءَ اللّه ، ثُمّ نَزَلَ فَقالَ: قدْ سألْتُ رَبّكَ عَزّ وَجَلّ يا دَاوُدُ عَنِ الّذِي أرْسَلْتَنِـي فِـيهِ، فَقالَ: قُلْ لدَاوُدَ: إنّ اللّه يَجْمَعُكُما يَوْمَ القِـيامَةِ فَـيَقُولُ: هَبْ لـي دَمَكَ الّذِي عِنْدَ دَاوُدَ، فَـيَقُولُ: هُوَ لَكَ يا رَبّ، فَـيَقُولُ: فإنّ لَكَ فـي الـجَنّةِ ما شِئْتَ وَما اشْتَهَيْتَ عِوَضا) .

٢٢٩٣٤ـ حدثنـي علـيّ بن سهل، قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم، قال: حدثنا ابن جابر، عن عطاء الـخراسانـيّ: أن كتاب صاحب البعث جاء ينعِي من قُتل ، فلـما قرأ داود نعي وجل منهم رجع، فلـما انتهى إلـى اسم الرجل قال: كتب اللّه علـى كل نفس الـموت، قال: فلـما انقضت عِدْتها خطبها.

٢٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىَ وَحُسْنَ مَـآبٍ}.

 يعني تعالـى ذكره ب قوله: فَغَفَرْنا لَهُ ذلكَ فعفونا عنه، وصفحنا له عن أن نؤاخذه بخطيئته وذنبه ذلك وإنّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفَـى يقول: وإن له عندنا لَلْقُرْبة منا يوم القـيامة. وبنـحو الذي قلنا فـي قوله: فَغَفَرْنا لَهُ ذلكَ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٣٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فَغَفَرْنا لَهُ ذَلكَ الذنب.

و قوله: وَحُسْنِ مآبٍ يقول: مَرْجع ومنقَلَب ينقلب إلـيه يوم القـيامة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٣٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَحُسْن مآبٍ: أي حسن مصير.

٢٢٩٣٧ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: وَحُسْنَ مآبٍ قال: حسن الـمنقَلب.

٢٦

و قوله: يا دَاوُدُ إنّا جَعَلْناكَ خَـلـيفَةً فِـي الأرْضِ

يقول تعالـى ذكره: وقلنا لداود: يا داود إنا استـخـلفناك فـي الأرض من بعد من كان قبلك من رسلنا حكما بـين أهلها، كما:

٢٢٩٣٨ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ إنّا جَعَلْناكَ خَـلِـيفَةً ملّكه فـي الأرض.

فـاحْكُمْ بـينَ النّاسِ بـالـحَقّ يعني : بـالعدل والإنصاف وَلا تَتّبِعِ الهَوَى يقول: ولا تُؤْثِر هواك فـي قضائك بـينهم علـى الـحقّ والعدل فـيه، فتـجور عن الـحقّ فَـيُضِلّكَ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه يقول: فـيـميـل بك اتبـاعك هواك فـي قضائك علـى العدل والعمل بـالـحقّ عن طريق اللّه الذي جعله لأهل الإيـمان فـيه، فتكون من الهالكين بضلالك عن سبـيـل اللّه .

و قوله: إنّ الّذِينَ يَضِلّونَ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه لَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ بِـمَا نَسُوا يَوْمَ الْـحِسابِ

يقول تعالـى ذكره: إن الذين يـميـلون عن سبـيـل اللّه ، وذلك الـحقّ الذي شرعه لعبـاده، وأمرهم بـالعمل به، فـيجورون عنه فـي الدنـيا، لهم فـي الاَخرة يوم الـحساب عذاب شديد علـى ضلالهم عن سبـيـل اللّه بـما نسُوا أمر اللّه ، يقول: بـما تركوا القضاء بـالعدل، والعمل بطاعة اللّه يَوْمَ الـحِسابِ من صلة العذاب الشديد. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٣٩ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا العوّام، عن عكرمة، فـي قوله: عَذَابٌ شَدِيدٌ بِـما نَسُوا يَوْمَ الـحِسابِ قال: هذا من التقديـم والتأخير، يقول: لهم يوم الـحساب عذاب شديد بـما نسوا.

٢٢٩٤٠ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: بِـمَا نَسُوا يَوْمَ الـحِسابِ قال: نسُوا: تركوا.

٢٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا خَلَقْنَا السّمَآءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لّلّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النّارِ}.

يقول تعالـى ذكره: وَما خَـلَقْنا السّماءَ والأرْضَ وَما بَـيْنَهُما عبثا ولهوا، ما خـلقناهما إلاّ لـيُعمل فـيهما بطاعتنا، ويُنتهى إلـى أمرنا ونهينا، ذلكَ ظَنّ الّذِينَ كَفَرُوا يقول: أي ظنّ أنا خـلقنا ذلك بـاطلاً ولعبـا، ظنّ الذين كفروا بـاللّه فلـم يوحّدوه، ولـم يعرفوا عظمته، وأنه لا ينبغي أن يَعْبَث، فـيتـيقنوا بذلك أنه لا يخـلق شيئا بـاطلاً فَوَيْـلٌ للّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ يعني : من نار جهنـم.

و قوله: أمْ نَـجْعَلُ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِـحاتِ كالـمُفْسِدِينَ فِـي الأرْضِ يقول: أنـجعل الذين صدّقوا اللّه ورسوله وعملوا بـما أمر اللّه به، وانتهوا عما نهاهم عنه كالـمُفْسِدينَ فِـي الأرْضِ يقول: كالذين يشركون بـاللّه ويعصُونه ويخالفون أمره ونهيه

٢٨

أمْ نَـجْعَلُ الـمُتّقِـينَ يقول: الذين اتقوا اللّه بطاعته وراقبوه، فحذروا معاصيه كالفُجّارِ يعني : كالكفـار الـمنتهكين حرمات اللّه .

٢٩

و قوله: كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَـيْكَ

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : وهذا القرآن كِتَابٌ أنْزَلْناهُ إلَـيْكَ يا مـحمد مُبَـارَكٌ لِـيَدّبّرُوا آياتِهِ يقول: لـيتدبّروا حُجَج اللّه التـي فـيه، وما شرع فـيه من شرائعه، فـيتعظوا ويعملوا به.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة القرّاء: لِـيَدّبّرُوا بـالـياء، يعني : لـيتدبّر هذا القرآن من أرسلناك إلـيه من قومك يا مـحمد. وقرأه أبو جعفر وعاصم (لِتَدّبّرُوا آياتِهِ) بـالتاء، بـمعنى: لتتدبره أنت يا مـحمد وأتبـاعك.

وأولـى القراءتـين عندنا بـالصواب فـي ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان صحيحتا الـمعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب وَلـيَتَذَكّرَ أُولُو الأَلْبَـابِ يقول: ولـيعتبر أولو العقول والـحِجَا ما فـي هذا الكتاب من الاَيات، فـيرتدعوا عما هم علـيه مقـيـمين من الضلالة، وينتهوا إلـى ما دلهم علـيه من الرشاد وسبـيـل الصواب. وبنـحو الذي قلنا فـي معنى قوله: أُولُوا الأَلْبـابِ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٤١ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ أُولُوا الأَلْبـاب قال: أولو العقول من الناس.

وقد بـيّنا ذلك فـيـما مضى قبل بشواهده، بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

٣٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ}.

يقول تعالـى ذكره وَوَهْبَنا لدَاوُدَ سُلَـيْـمانَ ابنه ولدا نَعْمَ العَبْدُ يقول: نعم العبد سلـيـمان إنّهُ أوّابٌ يقول: إنه رجاع إلـى طاعة اللّه توّاب إلـيه مـما يكرهه منه. و

قـيـل: إنه عُنِـي به أنه كثـير الذكر للّه والطاعة. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٤٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس نِعْمَ العَبْدُ إنّهُ أوّابٌ قال: الأوّاب: الـمسبّح.

٢٢٩٤٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة نَعْمَ العَبْدُ إنّهُ أوّابٌ قال: كان مطيعا للّه كثـير الصلاة.

٢٢٩٤٤ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: نَعْمَ العَبْدُ إنّهُ أوّابٌ قال: الـمسبّح.

والـمسبّح قد يكون فـي الصلاة والذكر. وقد بـيّنا معنى الأوّاب، وذكرنا اختلاف أهل التأويـل فـيه فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته هاهنا.

٣١

و قوله: إذْ عُرِضَ عَلَـيْهِ بـالعَشِيّ الصّافناتُ الـجِيادُ

يقول تعالـى ذكره: إنه توّاب إلـى اللّه من خطيئته التـي أخطأها، إذ عرض علـيه بـالعشيّ الصافنات فإذ من صلة أوّاب، والصافنات: جمع الصافن من الـخيـل، والأنثى: صافنة، والصافن منها عند بعض العرب: الذي يجمع بـين يديه، ويثنـي طرف سُنْبك إحدى رجلـيه، وعند آخرين: الذي يجمع يديه. وزعم الفراء أن الصافن: هو القائم، يقال منه: صَفَنَتِ الـخيـلُ تَصْفِن صُفُونا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٤٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قول اللّه : الصّافِناتُ الـجِيادُ قال: صُفُون الفرس: رَفْعُ إحدى يديه حتـى يكون علـى طرف الـحافر.

حدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد : صَفَنَ الفرسُ: رفع إحدى يديه حتـى يكون علـى طرف الـحافر.

٢٢٩٤٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة إذْ عُرِضَ عَلَـيْهِ بـالعَشِيّ الصّافِناتُ الـجِيادُ يعني : الـخيـل، وصُفونها: قـيامها وبَسْطها قوائمها.

٢٢٩٤٧ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: الصافنات، قال: الـخيـل.

٢٢٩٤٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: الصّافِناتُ الـجِيادُ قال: الـخيـل أخرجها الشيطان لسلـيـمان، من مَرْج من مروج البحر. قال: الـخيـل والبغال والـحمير تَصْفِن، والصّفْن أن تقول علـى ثلاث، وترفع رجلاً واحدة حتـى يكون طرف الـحافر علـى الأرض.

٢٢٩٤٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الصافنات: الـخيـل، وكانت لها أجنـحة.

وأما الـجياد، فإنها السّراع، واحدها: جواد، كما:

٢٢٩٥٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد : الـجياد: قال: السّراع.

وذُكر أنها كانت عشرين فرسا ذوات أجنـحة. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٥١ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـيه، عن إبراهيـم التـيـمي، فـي قوله: إذْ عُرِضَ عَلَـيْهِ بـالعَشِيّ الصّافِناتُ الـجِيادُ قال: كانت عشرين فرسا ذات أجنـحة.

٣٢

و قوله: فَقالَ إنّـي أحْبَبْتُ حُبّ الـخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبّـي حتـى تَوَارَتْ بـالـحِجابِ وفـي هذا الكلام مـحذوف استغنـي بدلالة الظاهر علـيه من ذكره: فَلهِيَ عن الصلاة حتـى فـاتته، فقال: إنـي أحببت حبّ الـخير. و يعني ب قوله: فَقالَ إنّـي أحْبَبْتُ حُبّ الـخَيْرِ: أي أحببت حبـا للـخير، ثم أضيف الـحبّ إلـى الـخير، وعنى بـالـخير فـي هذا الـموضع الـخيـل والعرب فـيـما بلغنـي تسمي الـخيـل الـخير، والـمال أيضا يسمونه الـخير. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٥٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، فَقالَ إنّـي أحْبَبْتُ حُبّ الـخَيْرِ: أي الـمال والـخيـل، أو الـخير من الـمال.

٢٢٩٥٣ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن السُدّيّ قالَ إنّـي أحْبَبْتُ حُبّ الـخَيْرِ قال: الـخيـل.

٢٢٩٥٤ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: إنّـي أحْبَبْتُ حُبّ الـخَيْرِ قال: الـمال.

و قوله: عَنْ ذِكْرِ رَبّـي يقول: إنـي أحببت حبّ الـخير حتـى سهوت عن ذكر ربـي وأداء فريضته. و

قـيـل: إن ذلك كان صلاة العصر. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٥٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة عَنْ ذِكْر رَبّـي عن صلاة العصر.

٢٢٩٥٦ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ عَنْ ذِكْرِ رَبّـي قال: صلاة العصر.

٢٢٩٥٧ـ حدثنا مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا أبو زرعة، قال: حدثنا حيوة بن شريح، قال: حدثنا أبو صخر، أنه سمع أبـا معاوية البجلـي من أهل الكوفة يقول: سمعت أبـا الصّهبـاء البكري يقول: سألت علـيّ ابن أبـي طالب، عن الصلاة الوسطى، فقال: هي العصر، وهي التـي فتن بها سلـيـمان بن داود.

و قوله: حتـى تَوَارَتْ بـالـحِجابِ يقول: حتـى توارت الشمس بـالـحجاب، يعني : تغيبت فـي مغيبها، كما:

٢٢٩٥٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا ميكائيـل، عن داود بن أبـي هند، قال: قال ابن مسعود، فـي قوله: إنّـي أحْبَبْتُ حُبّ الـخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبّـي حتـى تَوَارَتْ بـالـحِجابِ قال: توارت الشمس من وراء ياقوتة خضراء، فخُضرة السماء منها.

٢٢٩٥٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة حتـى تَوَارَتْ بـالـحجابِ حتـى دَلَكَتْ براح. قال قتادة : فواللّه ما نازعته بنو إسرائيـل ولا كابروه، ولكن ولوه من ذلك ما ولاه اللّه .

٢٢٩٦٠ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ حتـى تَوَارَتْ بـالـحجابِ حتـى غابت.

٣٣

و قوله: رُدّوها عَلـيّ يقول: ردّوا علـيّ الـخيـل التـي عرضت علـيّ، فشغلتنـي عن الصلاة، فكّروها علـيّ، كما:

٢٢٩٦١ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ رُدّوها عَلـيّ قال: الـخيـل.

و قوله: فَطَفِقَ مَسْحا بـالسّوقِ والأعْناقِ يقول: فجعل يـمسح منها السوق، وهي جمع الساق، والأعناق.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى مسح سلـيـمان بسوق هذه الـخيـل الـجياد وأعناقها، فقال بعضهم: معنى ذلك أنه عقرها وضرب أعناقها، من قولهم: مَسَحَ علاوته: إذا ضرب عنقه. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٦٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فَطَفِقَ مَسْحا بـالسّوقِ والأعْناقِ قال: قال الـحسن: قال لا واللّه لا تشغلـينـي عن عبـادة ربـي آخر ما علـيك، قال قولهما فـيه، يعني قتادة والـحسن قال: فَكَسف عراقـيبها، وضرب أعناقها.

٢٢٩٦٣ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ فَطَفِقَ مَسْحا بـالسّوق والأعْناقِ فضرب سوقها وأعناقها.

٢٢٩٦٤ـ حدثنا مـحمد بن عبد اللّه بن بزيع، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، عن عوف، عن الـحسن، قال: أمر بها فعُقرت.

وقال آخرون: بل جعل يـمسح أعرافها وعراقـيبها بـيده حُبّـا لها. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٦٥ـ حدثنـي علـى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـي، عن ابن عباس ، قوله: فَطَفِقَ مَسْحا بـالسّوقِ والأعْناقِ يقول: جعل يـمسح أعراف الـخيـل وعراقـيبها: حبـا لها.

وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس أشبه بتأويـل الاَية، لأن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم لـم يكن إن شاء اللّه لـيعذّب حيوانا بـالعرقبة، ويهلك مالاً من ماله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بـالنظر إلـيها، ولا ذنب لها بـاشتغاله بـالنظر ألـيها.

٣٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىَ كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمّ أَنَابَ}.

يقول تعالـى ذكره: ولقد ابتَلـينا سلـيـمان وألقـينا علـى كرسيه جسدا شيطانا متـمثلاً بإنسان، ذكروا أن اسمه صخر. و

قـيـل: إن اسمه آصَف. و

قـيـل: إن اسمه آصر. و

قـيـل: إن اسمه حبقـيق. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٦٦ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وألْقَـيْنا عَلـى كُرْسِيّهِ جَسَدا قال: هو صخر الـجنّـيّ تـمثّل علـى كرسيه جسدا.

٢٢٩٦٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَـيْـمانَ وألْقَـيْنا عَلـى كُرْسِيّهِ جَسَدا ثُمّ أنابَ قال: الـجسد: الشيطان الذي كان دفع إلـيه سلـيـمان خاتـمه، فقذفه فـي البحر، وكان مُلك سلـيـمان فـي خاتـمه، وكان اسم الـجنـيّ صخرا.

٢٢٩٦٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا مبـارك، عن الـحسن وألْقَـيْنا عَلـى كُرْسِيّهِ جَسَدا قال: شيطانا.

٢٢٩٦٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جُبَـير وألْقَـيْنا عَلـى كُرْسِيّهِ جَسَدا قال: شيطانا.

٢٢٩٧٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وألقَـيْنا عَلـى كُرْسِيّهِ جَسَدا قال: شيطانا يقال له آصر.

٢٢٩٧١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: عَلـى كُرْسِيّهِ جَسَدَا قال: شيطانا يقال له آصف، فقال له سلـيـمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرنـي خاتـمك أخبرك. فلـما أعطاه إياه نبذه آصف فـي البحر، فساح سلـيـمان وذهب مُلكه، وقعد آصف علـى كرسيه، ومنعه اللّه نساء سلـيـمان، فلـم يقربهنّ، وأنكرنه قال: فكان سلـيـمان يستطعم فـيقول: أتعرفونـي أطعمونـي أنا سلـيـمان، فـيكذّبونه، حتـى أعطته امرأة يوما حوتا يطيب بطنه، فوجد خاتـمه فـي بطنه، فرجع إلـيه مُلكه، وفرّ آصف فدخـل البحر فـارّا.

حدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بنـحوه، غير أنه قال فـي حديثه: فـيقول: لو تعرفونـي أطعمتـمونـي.

٢٢٩٧٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَـيْـمانَ وألْقَـيْنا عَلـى كُرْسِيّهِ جَسَداف ثُمّ أنابَ قال: حدثنا قتادة أن سلـمان أمر ببناء بـيت الـمقدس، ف

قـيـل له: ابنه ولا يسمع فـيه صوت حديد، قال: فطلب ذلك فلـم يقدر علـيه، ف

قـيـل له: إن شيطانا فـي البحر يقال له صخر شبه الـمارد، قال: فطلبه، وكانت عين فـي البحر يردها فـي كلّ سبعة أيام مرّة، فنزح ماؤها وجعل فـيها خمر، فجاء يوم وروده فإذا هو بـالـخمر، فقال: إنك لشراب طيب، إلا أنك تصبـين الـحلـيـم، وتزيدين الـجاهل جهلاً، قال: ثم رجع حتـى عطش عطشا شديدا، ثم أتاها فقال: إنك لشراب طيب، إلا أنك تصبـين الـحلـيـم، وتزيدين الـجاهل جهلاً قال: ثم شربها حتـى غلبت علـى عقله، قال: فأري الـخاتـم أو ختـم به بـين كتفـيه، فذلّ، قال: فكان مُلكه فـي خاتـمه، فأتـى به سلـيـمان، فقال: إنا قد أمرنا ببناء هذا البـيت. وقـيـل لنا: لا يسمعنّ فـيه صوت حديد، قال: فأتـى ببـيض الهدهد، فجعل علـيه زجاجة، فجاء الهدهد، فدار حولها، فجعل يرى بـيضه ولا يقدر علـيه، فذهب فجاء بـالـماس، فوضعه علـيه، فقطعها به حتـى أفضى إلـى بـيضه، فأخذ الـماس، فجعلوا يقطعون به الـحجارة، فكان سلـيـمان إذا أراد أن يدخـل الـخلاء أو الـحمام لـم يدخـلها بخاتـمه فـانطلق يوما إلـى الـحمام، وذلك الشيطان صخر معه، وذلك عند مقارفة ذنب قارف فـيه بعض نسائه، قال: فدخـل الـحمام، وأعطى الشيطان خاتـمه، فألقاه فـي البحر، فـالتقمته سمكة، ونُزع مُلك سلـيـمان منه، وألقـي علـى الشيطان شبه سلـيـمان قال: فجاء فقعد علـى كرسيه وسريره، وسلّط علـى مُلك سلـيـمان كله غير نسائه قال: فجعل يقضي بـينهم، وجعلوا ينكرون منه أشياء حتـى قالوا: لقد فُتِن نبـيّ اللّه وكان فـيهم رجل يشبهونه بعمر بن الـخطّاب فـي القوّة، فقال: واللّه لأجربنه قال: فقال له: يا نبـيّ اللّه ، وهو لا يرى إلا أنه نبـيّ اللّه ، أحدنا تصيبه الـجَنابة فـي اللـيـلة البـاردة، فـيدع الغُسْل عمدا حتـى تطلع الشمس، أترى علـيه بأسا؟ قال: لا، قال: فبـينا هو كذلك أربعين لـيـلة حتـى وجد نبـيّ اللّه خاتـمه فـي بطن سمكة، فأقبل فجعل لا يستقبله جنـيّ ولا طير إلا سجد له، حتـى انتهى إلـيهم وأَلْقَـيْنا عَلـى كُرْسِيّهِ جَسَدا قال: هو الشيطان صخر.

٢٢٩٧٣ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، فـي قوله: وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَـيْـمانَ قال: لقد ابتلـينا وألْقَـيْنا عَلـى كُرْسِيّهِ جَسَدا قال: الشيطان حين جلس علـى كرسيه أربعين يوما قال: كان لسلـيـمان مِئة امرأة، وكانت امرأة منهنّ يقال لها جرادة، وهي آثر نسائه عنده، وآمنهنّ عنده، وكان إذا أجنب أو أتـى حاجة نزع خاتـمه، ولـم يأتـمن علـيه أحدا من الناس غيرها فجاءته يوما من الأيام، فقالت: إن أخي بـينه وبـين فلان خصومة، وأنا أحبّ أن تَقضي له إذا جاءك، فقال لها: نعم، ولـم يفعل، فـابتُلـي وأعطاها خاتـمه، ودخـل الـمخرج، فخرج الشيطان فـي صورته، فقال لها: هاتـي الـخاتـم، فأعطته، فجاء حتـى جلس علـى مـجلس سلـيـمان، وخرج سلـيـمان بعد، فسألها أن تعطيه خاتـمه، فقالت: ألـم تأخذه قبل؟ قال: لا، وخرج مكانه تائها قال: ومكث الشيطان يحكم بـين الناس أربعين يوما. قال: فأنكر الناس أحكامه، فـاجتـمع قرّاء بنـي إسرائيـل وعلـماؤهم، فجاؤوا حتـى دخـلوا علـى نسائه، فقالوا: إنا قد أنكرنا هذا، فإن كان سلـيـمان فقد ذهب عقله، وأنكرنا أحكامه. قال: فبكى النساء عند ذلك، قال: فأقبلوا يـمشون حتـى أتوه، فأحدقوا به، ثم نشروا التوراة، فقرؤوا قال: فطار من بـين أيديهم حتـى وقع علـى شرفة والـخاتـم معه، ثم طار حتـى ذهب إلـى البحر، فوقع الـخاتـم منه فـي البحر، فـابتلعه حوت من حيتان البحر. قال: وأقبل سلـيـمان فـي حاله التـي كان فـيها حتـى انتهى إلـى صياد من صيادي البحر وهو جائع، وقد اشتدّ جوعه، فـاستطعمهم من صيدهم، قال: إنـي أنا سلـيـمان، فقام إلـيه بعضهم فضربه بعصا فشجّه، فجعل يغسل دمه وهو علـى شاطىء البحر، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه، فقالوا: بئس ما صنعت حيث ضربته، قال: إنه زعم أنه سلـيـمان، قال: فأعطوه سمكتـين مـما قد مَذِر عندهم، ولـم يشغله ما كان به من الضرر، حتـى قام إلـى شطّ البحر، فشقّ بطونهما، فجعل يغسل...، فوجد خاتـمه فـي بطن إحداهما، فأخذه فلبسه، فردّ اللّه علـيه بهاءه ومُلكه، وجاءت الطير حتـى حامت علـيه، فعرف القوم أنه سلـيـمان، فقام القوم يعتذرون مـما صنعوا، فقال: ما أحمدكم علـى عذركم، ولا ألومكم علـى ما كان منكم، كان هذا الأمر لا بدّ منه، قال: فجاء حتـى أتـى مُلكه، فأرسل إلـى الشيطان فجيء به، وسخّر له الريح والشياطين يومئذٍ، ولـم تكن سخرت له قبل ذلك، وه

و قوله: وَهَبْ لـي مُلْكا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنّك أنْتَ الوَهّابُ قال: وبعث إلـى الشيطان، فأُتـي به، فأمر به فجعل فـي صندوق من حديد، ثم أطبق علـيه فأقـفل علـيه بقـفل، وختـم علـيه بخاتـمه، ثم أمر به، فألقـي فـي البحر، فهو فـيه حتـى تقوم الساعة، وكان اسمه حبقـيق.

و قوله: ثُمّ أنابَ سلـيـمان، فرجع إلـى مُلكه من بعد ما زال عنه مُلكه فذهب. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٧٤ـ حُدثت عن الـمـحاربـي، عن عبد الرحمن، عن جُوَيبر، عن الضحاك ، فـي قوله: ثُمّ أنابَ قال: دخـل سلـيـمان علـى امرأة تبـيع السمك، فـاشترى منها سمكة، فشقّ بطنها، فوجد خاتـمه، فجعل لا يـمرّ علـى شجر ولا حجر ولا شيء إلا سجد له، حتـى أتـى مُلكه وأهله، فذلك قوله ثُمّ أنابَ يقول: ثم رجع.

٢٢٩٧٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قا: حدثنا سعيد، عن قتادة ثُمّ أنابَ وأقبل، يعني سلـيـمان.

٣٥

 قوله: قالَ رَبّ اغفرْ لـي وَهَبْ لـي مُلْكا لا يَنْبَغِي لأَحدٍ مِنْ بَعْدي

يقول تعالـى ذكره: قال سلـيـمان راغبـا إلـى ربه: ربّ استر علـيّ ذنبـي الذي أذنبت بـينـي وبـينك، فلا تعاقبنـي به وَهَبْ لـي مُلكا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي لا يسلبنـيه أحدكما سلبنـيه قبل هذه الشيطان. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٧٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قالَ رَبّ اغْفِرْ لـي وَهَبْ لـي مُلْكا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي يقول: ملكا لا أسلَبه كما سُلبتُه.

وكان بعض أهل العربـية يوجه معنى قوله: لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدي إلـى: أن لا يكون لأحد من بعدي، كما قال ابن أحمر:

ما أُمّ غُفْرٍ علـى دعْجاءَ ذِي عَلَقٍ يَنْفـي القَراميدَ عنها الأعْصَمُ الوَقِلُ

فِـي رأْسِ حَلْقاءَ مِن عَنقاءَ مُشْرِفة لا يَنْبَغِي دُوَنها سَهْلٌ وَلا جَبَلُ

بـمعنى: لا يكون فوقها سهل ولا جبل أحصن منها.

و قوله: إنّكَ أنْتَ الوَهّابُ يقول: إنك وهاب ما تشاء لـمن تشاء بـيدك خزائن كلّ شيء تفتـح من ذلك ما أردت لـمن أردت.

٣٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَسَخّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ}.

يقول تعالـى ذكره: فـاستـجبنا له دعاءه، فأعطيناه مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده فَسَخّرَنَا لَهُ الرّيحَ مكان الـخيـل التـي شغلته عن الصلاة تَـجْرِي بأمْرِهِ رُخاءً يعني : رخوة لـينة، وهي من الرخاوة، كما:

٢٢٩٧٧ـ حدثنا مـحمد بن عبد اللّه بن بزيع، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا عوف، عن الـحسن، أن نبـيّ اللّه سلـيـمان صلى اللّه عليه وسلم لـما عرضت علـيه الـخيـل، فشغله النظر إلـيها عن صلاة العصر حتـى تَوَارَتْ بـالـحِجابِ فغضب للّه، فأمر بها فعُقرت، فأبد له اللّه مكانها أسرع منها، سخر الريح تـجري بأمره رُخاء حيث شاء، فكان يغدو من إيـلـياء، ويقـيـل بقَزْوين، ثم يروح من قزوين ويبـيت بكابُل.

٢٢٩٧٨ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَهَبْ لـي مُلْكا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدي فإنه دعا يوم دعا ولـم يكن فـي مُلكه الريح، وكلّ بنّاء وغوّاص من الشياطين، فدعا ربه عند توبته واستغفـاره، فوهب اللّه له ما سأل، فتـمّ مُلكه.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى الرخاء، فقال فـيه بعضهم: نـحو الذي قلنا فـيه. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٧٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: تَـجْرِي بأَمْرِهِ رُخاءً قال: طَيّبة.

حدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بنـحوه.

٢٢٩٨٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فَسَخّرْنا لَهُ الرّيحَ تَـجْرِي بأمْره رُخاءً حَيْثُ أصَابَ قال: سريعة طيبة، قال: لـيست بعاصفة ولا بطيئة.

٢٢٩٨١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: رُخاءً قال: الرخاء اللـينة.

٢٢٩٨٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا قرة، عن الـحسن، فـي قوله: رُخاءً حَيْثُ أصَابَ قال: لـيست بعاصفة، ولا الهَيّنة بـين ذلك رُخاء.

وقال آخرون: معنى ذلك: مطيعة لسلـيـمان. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٨٣ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: رُخاءً يقول: مُطيعة له.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس تَـجْرِي بأَمْرِهِ رُخاءً قال: يعني بـالرّخاء: الـمطيعة.

٢٢٩٨٤ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا أبو النعمان الـحكم بن عبد اللّه ، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي رجاء، عن الـحسن، فـي قوله: تَـجْرِي بأمْرِهِ رُخاءً قال: مطيعة.

٢٢٩٨٥ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: رُخاءً يقول: مطيعة.

٢٢٩٨٦ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: رُخاءً قال: طوعا.

و قوله: حَيْثُ أصَابَ يقول: حيث أراد، من قولهم: أصاب اللّه بك خيرا: أي أراد اللّه بك خيرا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٨٧ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ عن ابن عباس ، قوله: حَيْثُ أصَابَ يقول: حيث أراد.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: حَيْثُ أصَابَ يقول: حيث أراد، انتهى علـيها.

٢٢٩٨٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: حَيْثُ أصَابَ قال: حيث شاء.

٢٢٩٨٩ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا أبو النعمان الـحكم بن عبد اللّه ، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي رجاء، عن الـحسن، فـي قوله: حَيْثُ أصَابَ قال: حيث أراد.

٢٢٩٩٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة حَيْثُ أصَابَ قال: إلـى حيث أراد.

٢٢٩٩١ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: حَيْثُ أصَابَ قال: حيث أراد.

٢٢٩٩٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلـم، عن وهب بن منبه حَيْثُ أصَابَ: أي حيث أراد.

٢٢٩٩٣ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ حَيْثُ أصَابَ قال: حيث أراد.

٢٢٩٩٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: حَيْثُ أصَابَ قال: حيث أراد.

٣٧

و قوله: والشّياطِينَ كُلّ بَنّاءٍ وغَوّاصٍ

يقول تعالـى ذكره: وسخرنا له الشياطين فسلطناه علـيها مكان ما ابتلـيناه بـالذي ألقـينا علـى كرسيّه منها يستعملها فـيـما يشاء من أعماله من بنّاء وغوّاص فـالبُناة منها يصنعون مـحاريب وتـماثـيـل، والغاصَة يستـخرجون له الـحُلِـيّ من البحار، وآخرون ينـحتون له جفـانا وقدورا، والـمَرَدة فـي الأغلال مُقَرّنون، كما:

٢٢٩٩٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن

٣٨

قتادة والشّياطِينَ كُلّ بَنّاءٍ وغَوّاصٍ قال: يعملون له ما يشاء من مـحاريب وتـماثـيـل، وغوّاص يستـخرجون الـحلـيّ من البحر وآخَرينَ مُقَرّنـينَ فِـي الأَصْفـادِ قال: مردة الشياطين فـي الأغلال.

٢٢٩٩٦ـ حُدثت عن الـمـحاربـيّ، عن جُوَيبر، عن الضحاك وَالشّياطِينَ كُلّ بَنّاءٍ وَغَوّاصٍ قال: لـم يكن هذا فـي مُلك داود، أعطاه اللّه مُلك داود وزاده الريح والشّياطِينَ كُلّ بَنّاءٍ وغَوّاصٍ وآخَرِينَ مُقَرّنِـينَ فِـي الأَصْفـادِ يقول: فـي السلاسل.

٢٢٩٩٧ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قوله: الأصْفـادِ قال: تـجمع الـيدين إلـى عنقه، والأصفـاد: جمع صَفَد وهي الأغلال.

٣٩

و قوله: هَذَا عَطاؤُنا فـامْنُنْ أوْ أمْسِكْ بِغَيْرٍ حِسابٍ. اختلف أهل التأويـل فـي الـمشار إلـيه ب قوله: هَذَا من العطاء، وأيّ عطاء أريد ب قوله: عَطاؤنا، فقال بعضهم: عُنـي به الـملك الذي أعطاه اللّه . ذكر من قال ذلك:

٢٢٩٩٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، فـي قوله: هَذَا عَطاؤُنَا فـامْنُنْ أوْ أمْسِك بغَيرِ حِسابٍ قال: قال الـحسن: الـملك الذي أعطيناك فأعط ما شئت وامنع ما شئت.

٢٢٩٩٩ـ حُدثت عن الـمـحاربـيّ، عن جُوَيبر، عن الضحاك هَذَا عَطاؤُنا: هذا ملكنا.

وقال آخرون: بل عُنـي بذلك تسخيره له الشياطين، وقالوا: ومعنى الكلام: هذا الذي أعطيناك من كلّ بناء وغوّاص من الشياطين، وغيرهم عطاؤنا. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٠٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة هَذَا عَطاؤُنا فـامْنُنْ أوْ أَمْسِكْ بغَيرٍ حِسابٍ قال: هؤلاء الشياطين احبس من شئت منهم فـي وثاقك وفـي عذابك أو سرّح من شئت منهم تتـخذ عنده يدا، اصنع ما شئت.

وقال آخرون: بل ذلك ما كان أوتـي من القوّة علـى الـجماع. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٠١ـ حُدثت عن أبـي يوسف، عن سعيد بن طريف، عن عكرمة، عن ابن عباس ، قال: كان سلـيـمان فـي ظهره ماءُ مِئَة رجل، وكان له ثلاث مئة امرأة وتسع مِئَة سُرّيّة هَذَا عَطاؤُنَا فَـامْنُنْ أوْ أمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ.

وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب القولُ الذي ذكرناه عن الـحسن والضحاك من أنه عُنـي بـالعطاء ما أعطاه من الـملك تعالـى ذكره، وذلك أنه جل ثناؤه ذكر ذلك عُقَـيب خبره عن مسألة نبـيه سلـيـمان صلوات اللّه وسلامه علـيه إياه مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده، فأخبر أنه سخر له ما لـم يُسَخّر لأحد من بنـي آدم، وذلك تسخيره له الريح والشياطين علـى ما وصفت، ثم قال له عزّ ذكره: هذا الذي أعطيناك من الـمُلك، وتسخيرنا ما سخرنا لك عطاؤنا، ووهبنا لك ما سألْتنا أن نهبه لك من الـملك الذي لا ينبغي لأحد من بعدك فـامْنُنْ أو أَمْسِكْ بغَيْرِ حِسابٍ.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله فـامْنُنْ أوْ أَمْسِكْ بغَيْرِ حِسابٍ فقال بعضهم: عَنَى ذلك: فأعط من شئت ما شئت من الـمُلك الذي آتـيناك، وامنع من شئت منه ما شئت، لا حساب علـيك فـي ذلك. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٠٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: قال الـحسن فـامْنُنْ أوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ الـمُلك الذي أعطيناك، فأعط ما شئت وامنع ما شئت، فلـيس علـيك تَبِعة ولا حساب.

٢٣٠٠٣ـ حُدثت عن الـمـحاربـيّ، عن جُوَيبر، عن الضحاك فَـامْنُنْ أوْ أمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ سأل مُلكا هنـيئا لا يُحاسب به يوم القـيامة، فقال: ما أعْطَيْت، وما أمْسَكت، فلا حرج علـيك.

٢٣٠٠٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن أبـيه، عن عكرمة فـامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيرِ حِسابٍ قال: أعط أو أمسك، فلا حساب علـيك.

٢٣٠٠٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـامْنُنْ قال: أعط أو أمسك بغير حساب.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أَعْتِق من هؤلاء الشياطين الذين سخرناهم لك من الـخدمة، أو من الوَثاق مـمن كان منهم مُقَرّنا فـي الأصفـاد مَن شئت واحبس مَنْ شئت فلا حرج علـيك فـي ذلك. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٠٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـامْنُنْ أوْ أَمْسِكْ بغَيرِ حِسابٍ يقول: هؤلاء الشياطين احبس من شئت منهم فـي وَثاقك وفـي عذابك، وسرّح من شئت منهم تتـخذ عنده يدا، اصنع ما شئت لا حساب علـيك فـي ذلك.

٢٣٠٠٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس فـامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بغَيرِ حِسابٍ يقول: أعتق من الـجنّ من شئت، وأمسك من شئت.

٢٣٠٠٨ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: فـامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بغَيرِ حِسابِ قال: تَـمُنّ علـى من تشاء منهم فتُعْتِقُهُ، وتـمُسِك من شئت فتستـخدمه لـيس علـيك فـي ذلك حساب.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: هذا الذي أعطيناك من القوّة علـى الـجماع عطاؤنا، فجامع من شئت من نسائك وجواريك ما شئت بغير حساب، واترك جماع من شئت منهنّ.

وقال آخرون: بل ذلك من الـمقدّم والـمؤخر. ومعنى الكلام: هذا عطاؤنا بغير حساب، فـامُننْ أو أمسك. وذُكر أن ذلك فـي قراءة عبد اللّه : (هذا فـامْنُنْ أوْ أمْسِكْ عَطاؤُنا بِغَيرِ حِسابٍ) .

وكان بعض أهل العلـم بكلام العرب من البصريـين يقول فـي قوله: بغَيرِ حِسابٍ وجهان أحدهما: بغير جزاء ولا ثواب، والاَخر: مِنّةٍ ولا قِلّةٍ.

والصواب من القول فـي ذلك ما ذكرته عن أهل التأويـل من أن معناه: لا يحاسب علـى ما أعطى من ذلك الـمُلك والسلطان. وإنـما قلنا ذلك هو الصواب لإجماع الـحجة من أهل التأويـل علـيه.

٤٠

و قوله: وَإنّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفَـى وَحُسْنَ مآبٍ يقول: وإن لسلـيـمان عندنا لقُرْبةً بإنابته إلـينا وتوبته وطاعته لنا، وحُسْنَ مآب: يقول: وحسن مرجع ومصير فـي الاَخرة، كما:

٢٣٠٠٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَإنّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفَـى وَحُسْنَ مآبٍ: أي مصير.

إن قال لنا قائل: وما وجه رغبة سلـيـمان إلـى ربه فـي الـملك، وهو نبـيّ من الأنبـياء، وإنـما يرغب فـي الـملك أهل الدنـيا الـمؤثِرون لها علـى الاَخرة؟ أم ما وجه مسألته إياه، إذ سأله ذلك مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده، وما كان يضرّه أن يكون كلّ من بعده يُؤْتـيَ مثلَ الذي أوتـي من ذلك؟ أكان به بخـل بذلك، فلـم يكن من مُلكه، يُعطي ذلك من يُعطاه، أم حسد للناس، كما ذُكر عن الـحجاج بن يوسف فإنه ذكر أنه قرأ قوله: وَهَبْ لـي مُلْكا لا يَنْبَغي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فقال: إن كان لـحسودا، فإن ذلك لـيس من أخلاق الأنبـياء

قـيـل: أما رغبته إلـى ربه فـيـما يرغب إلـيه من الـمُلك، فلـم تكن إن شاء اللّه به رغبةٌ فـي الدنـيا، ولكن إرادةٌ منه أن يعلـم منزلته من اللّه فـي إجابته فـيـما رغب إلـيه فـيه، وقبوله توبته، وإجابته دعاءَه.

وأما مسألته ربه مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده، فإنا قد ذكرنا فـيـما مضى قبلُ قولَ من قال: إن معنى ذلك: هب لـي مُلكا لا أُسلبه كما سْلِبتُه قبل. وإنـما معناه عند هؤلاء: هب لـي مُلكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يَسلُبنـيه. وقد يتـجه ذلك أن يكون بـمعنى: لا ينبغي لأحد سواي من أهل زمانـي، فـيكون حجة وعَلَـما لـي علـى نبوّتـي وأنـي رسولك إلـيهم مبعوث، إذ كانت الرسل لا بدّ لها من أعلام تفـارق بها سائر الناس سواهم. ويتـجه أيضا لأن يكون معناه: وهب لـي مُلكا تَـخُصّنِـي به، لا تعطيه أحدا غيري تشريفـا منك لـي بذلك، وتكرمة، لتبـين منزلتـي منك به من منازل من سواي، ولـيس فـي وجه من هذه الوجوه مـما ظنه الـحجاج فـي معنى ذلك شيء.

٤١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الشّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : وَاذْكُرْ أيضا يا مـحمد عَبْدَنا أيّوبَ إذْ نادَى رَبّهُ مستغيثا به فـيـما نزل به من البلاء: يا ربّ إنّـي مَسّنِـيَ الشّيْطانُ بِنُصْبٍ فـاختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: بنُصْبٍ فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا أبـي جعفر القارىء: بِنُصْبٍ بضم النون وسكون الصاد، وقرأ ذلك أبو جعفر: بضم النون والصاد كلـيهما، وقد حُكي عنه بفتـح النون والصاد والنّصْب والنّصَب بـمنزلة الـحُزْن والـحَزَن، والعُدم والعَدَم، والرّشْد والرّشَد، والصّلْب والصّلَب. وكان الفرّاء يقول: إذا ضُمّ أوّله لـم يثقل، لأنهم جعلوهما علـى سِمَتـين: إذا فتـحوا أوّله ثقّلوا، وإذا ضموا أوّله خفّفوا. قال: وأنشدنـي بعض العرب:

لَئِنْ بَعَثَتْ أُمّ الـحُمَيْدَيْنِ مائِرالَقَدْ غَنَـيَتْ فـي غَيرِ بُؤْسٍ ولا جُحدِ

من قولهم: جَحِد عيشه: إذا ضاق واشتدّ قال: فلـما قال جُحْد خَفّف. وقال بعض أهل العلـم بكلام العرب من البصريـين: النّصُب من العذاب. وقال: العرب تقول: أنصبنـي: عذّبنـي وبرّح بـي. قال: وبعضهم يقول: نَصَبَنـي، واستشهد لقـيـله ذلك بقول بشر بن أبـي خازم:

تَعَنّاكَ نَصْبٌ مِن أُمَيْـمَةَ مُنْصِبُكَذِي الشّجْوِ لَـمّا يَسْلُه وسيَذْهَبُ

وقال: يعني بـالنّصْب: البلاء والشرّ ومنه قول نابغة بنـي ذُبـيان:

كِلِـينِـي لِهَمّ يا أمَيْـمَةَ ناصِبِوَلَـيْـلٍ أُقاسِيهِ بَطِيءِ الكَوَاكِبِ

قال: والنّصَب إذا فُتـحت وحُرّكت حروفها كانت من الإعياء. والنّصْب إذا فُتـح أوله وسكن ثانـيه: واحد أنصاب الـحرم، وكلّ ما نصب علـما وكأن معنى النّصب فـي هذا الـموضع: العلة التـي نالته فـي جسده والعناء الذي لاقـى فـيه، والعذاب فـي ذهاب ماله.

والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا ما علـيه قرّاء الأمصار، وذلك الضمّ فـي النون والسكون فـي الصاد.

وأما التأويـل فبنـحو الذي قلنا فـيه قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠١٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيّوبَ حتـى بلغ: بِنُصْبٍ وَعَذابٍ: ذهاب الـمال والأهل، والضرّ الذي أصابه فـي جسده، قال: ابتُلِـي سبع سنـين وأشهرا مُلقـى علـى كُناسة لبنـي إسرائيـل تـختلف الدوابّ فـي جسده، ففرّج اللّه عنه، وعظّم له الأجر، وأحسن علـيه الثناء.

٢٣٠١١ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: مَسّنِـيَ الشّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ قال: نصب فـي جسدي، وعذاب فـي مالـي.

٢٣٠١٢ـ حُدثت عن الـمـحاربـيّ، عن جُوَيبر، عن الضحاك : أنّـي مَسّنِـيَ الشّيْطانُ بنُصْبٍ يعني : البلاء فـي الـجسد وَعَذابٍ قوله: وَما أصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِـما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ.

٤٢

و قوله: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ومعنى الكلام: إذ نادى ربه مستغيثا به، أنـي مسنـي الشيطان ببلاء فـي جسدي، وعذاب بذهاب مالـي وولدي، فـاستـجبنا له، وقلنا له: اركض برجلك الأرض: أي حرّكها وادفعها برجلك، والركض: حركة الرجل، يقال منه: ركضت الدابة، ولا تركض ثوبك برجلك.

وقـيـل: إن الأرض التـي أُمر أيوب أن يركضها برجله: الـجابـية. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠١٣ـ حدثنا بشر، قلا: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ارْكُضْ بِرِجْلِكَ... الاَية، قال: ضرب برجله الأرض، أرضا يقال لها الـجابـية.

و قوله: هَذَا مُغْتَسَلٌ بـارِدٌ وَشَرَابٌ ذُكر أنه نبعت له حين ضرب برجله الأرض عينان، فشرب من إحداهما، واغتسل من الأخرى. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠١٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قال: ضرب برجله الأرض، فإذا عينان تنبعان، فشرب من إحداهما، واغتسل من الأخرى.

٢٣٠١٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلـم، عن وهب بن منبه ارْكُضْ برِجْلكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بـارِدٌ وَشَرابٌ قال: فركض برجله، فـانفجرت له عين، فدخـل فـيها واغتسل، فأذهب اللّه عنه كلّ ما كان من البلاء.

٢٣٠١٦ـ حدثنـي بشر بن آدم، قال: حدثنا أبو قُتـيبة، قال: حدثنا أبو هلال، قال: سمعت الـحسن، فـي قول اللّه : ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فركض برجله، فنبعت عين فـاغتسل منها، ثم مشى نـحوا من أربَعين ذراعا، ثم ركض برجله، فنبعت عين، فشرب منها، فذلك قوله: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذا مُغْتَسَلٌ بـارِدٌ وَشَرابٌ.

وعنى ب قوله: مُغْتَسَلٌ: ما يُغْتَسل به من الـماء، يقال منه: هذا مُغْتَسل، وغَسُول للذي يُغتسل به من الـماء.

و قوله: وَشَرابٌ يعني : ويشرب منه، والـموضع الذي يغتسل فـيه يسمى مغتسلاً.

٤٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مّعَهُمْ رَحْمَةً مّنّا وَذِكْرَىَ لاُوْلِي الألْبَابِ}.

اختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله: وَوَهَبْنا لَهُ أهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ وقد ذكرنا اختلافهم فـي ذلك والصواب من القول عندنا فـيه فـي سورة الأنبـياء بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. فتأويـل الكلام: فـاغتسل وشرب، ففرّجنا عنه ما كان فـيه من البلاء، ووهبنا له أهله، من زوجة وولد وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنّا له ورأفة وَذِكْرَى يقول: وتذكيرا لأولـي العقول، لـيعتبروا بها فـيتعظوا. وقد:

٢٣٠١٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي نافع بن يزيد، عن عقـيـل، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(إنّ نَبِـيّ اللّه أيّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلاؤُهُ ثَمانِـيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ القَرِيبُ والبَعِيدُ، إلاّ رَجُلانِ مِنْ إخْوَانِهِ كانا مِنْ أخَصّ إخْوَانِهِ بِهِ، كانا يَغْدُوَانِ إلَـيْهِ وَيَرُوحانِ، فَقالَ أحَدُهُما لِصَاحِبِه: تَعْلَـمُ وَاللّه لَقَدْ أذْنَبَ أيّوبُ ذَنْبـا ما أذْنَبَهُ أحَدٌ مِنَ العالَـمِينَ، قال لَهُ صَاحِبُهُ: وَما ذَاكَ؟ قال: من ثَمانِـي عَشْرَةَ سَنَةً لَـمْ يَرْحَمْهُ اللّه فـيَكْشِفَ ما بِهِ فَلَـمّا رَاحا إلَـيْهِ لَـمْ يَصْبِر الرّجُلُ حتـى ذَكَرَ ذلكَ لَهُ، فَقالَ أيّوبُ: لا أدْرِي ما تَقُولُ، غَيرَ أنّ اللّه يَعْلَـمُ أنّـي كُنْتُ أمُرّ عَلـى الرّجُلَـيْنِ يَتَنازَعانِ فَـيَذْكُرانِ اللّه ، فأرْجِعُ إلـى بَـيْتِـي فَأُكَفّرُ عَنْهُما كَراهِيَةَ أنْ يُذْكَرَ اللّه إلاّ فِـي حَقّ قال: وكانَ يَخْرُجُ إلـى حاجَتِهِ، فإذَا قَضَاها أمْسَكَتِ امْرأتُهُ بِـيَدِهِ حتـى يبْلُغَ فَلَـما كانَ ذاتَ يَوْمٍ أبْطَأَ عَلَـيْها، وَأَوحِيَ إلـى أيّوبَ فِـي مَكانِهِ: أنِ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بـارِدٌ وَشَرابٌ، فـاسْتَبْطأَتْهُ، فَتَلَقّتْهُ تَنْظُرُ، فأقْبَلَ عَلَـيْها قَدْ أذْهَبَ اللّه ما بِهِ مِنَ البَلاءِ، وَهُوَ عَلـى أحْسَنِ ما كانَ فَلَـمّا رَأتْهُ قَالَتْ: أيّ بـارَكَ اللّه فِـيكَ، هَلْ رأيْتَ نَبِـيّ اللّه هَذَا الـمُبْتَلـي، فَوَاللّه علـى ذلكَ ما رأيْتُ أحَدا أشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إذْ كانَ صَحِيحا؟ قالَ: فإنّـي أنا هُوَ قال: وكانَ لَهُ أنْدَرَانِ: أنْذَرٌ للْقَمْـحِ، وأنْدَرٌ للشّعِيرِ، فَبَعَثَ اللّه سَحَابَتَـيْنِ، فَلَـمّا كانَتْ إحْدَاهُما علـى أنْدَرِ القَمْـحِ، أفْرَغَتْ فِـيهِ الذّهَبَ حتـى فـاضَ، وأفرَغَتِ الأُخْرَى فـي أنْدَرِ الشّعِيرِ الوَرِق حتـى فـاضَ) .

٢٣٠١٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَوَهَبْنا لَهُ أهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قال: قال الـحسن وقتادة : فأحياهم اللّه بأعيانهم، وزادهم مثلهم.

٢٣٠١٩ـ حدثنـي مـحمد بن عوف، قال: حدثنا أبو الـمغيرة، قال: حدثنا صفوان، قال: حدثنا عبد الرحمن بن جُبَـير، قال: لـما ابتُلِـي نبـيْ اللّه أيوب صلى اللّه عليه وسلم بـماله وولده وجسده، وطُرح فـي مَزْبلة، جعلت امرأته تـخرج تكسب علـيه ما تطعمه، فحسده الشيطان علـى ذلك، وكان يأتـي أصحاب الـخبز والشويّ الذين كانوا يتصدّقون علـيها، فـيقول: اطردوا هذه الـمرأة التـي تغشاكم، فإنها تعالـج صاحبها وتلـمسه بـيدها، فـالناس يتقذّرون طعامكم من أجل أنها تأتـيكم وتغشاكم علـى ذلك وكان يـلقاها إذا خرجت كالـمـحزون لـمَا لقـي أيوب، فـيقول: لَـجّ صاحبك، فأبى إلا ما أتـى، فواللّه لو تكلـم بكلـمة واحدة لكشف عنه كلّ ضرّ، ولرجع إلـيه ماله وولده، فتـجيء، فتـخبر أيوب، فـيقول لها: لقـيك عدوّ اللّه فلقنك هذا الكلام ويـلَك، إنـما مثلك كمثل الـمرأة الزانـية إذا جاء صديقها بشيء قبلته وأدخـلته، وإن لـم يأتها بشيء طردته، وأغلقت بـابها عنه لـما أعطانا اللّه الـمال والولد آمنا به، وإذا قبض الذي له منا نكفر به، ونبدّل غيره إن أقامنـي اللّه من مرضي هذا لأجلدنّك مئةً، قال: فلذلك قال اللّه : وَخُذْ بِـيَدِكَ ضِغْثا فـاضْرِبْ بِهِ وَلا تَـحْنَثْ.

٤٤

و قوله: وَخُذْ بِـيَدِكَ ضغْثا يقول: وقلنا لأيوب: خذ بـيدك ضغثا، وهو ما يجمع من شيء مثل حزمة الرّطْبة، وكملء الكفّ من الشجر أو الـحشيش والشماريخ ونـحو ذلك مـما قام علـى ساق ومنه قول عوف بن الـخَرِع:

وأسْفَلَ مِنّـي نَهْدَةٌ قَدْ رَبَطْتُها وألْقَـيْتُ ضِغْثا مِن خَلاً متَطَيّبِ

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٢٠ـ حدثنـي علـيّ، قال: ثنـي عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية عن علـيّ عن ابن عباس ، قوله: وَخُذْ بِـيَدِكَ ضِغْثا يقول: حُزْمة.

٢٣٠٢١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: وَخُذْ بِـيَدِكَ ضِغْثا فـاضْرِبْ بِهِ وَلا تَـحْنَثْ قال: أمر أن يأخذ ضغثا من رطبة بقدر ما حلف علـيه فـيضرب به.

٢٣٠٢٢ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، فـي قوله: وَخُذْ بِـيَدِكَ ضغْثا قال: عيدانا رطبة.

٢٣٠٢٣ـ حدثنا أبو هشام الرّفـاعيّ، قال: حدثنا يحيى، عن إسماعيـل بن إبراهيـم بن الـمهاجر، عن أبـيه، عن مـجاهد ، عن ابن عباس وَخُذْ بِـيَدِكَ ضِغْثا قال: هو الأَثْل.

٢٣٠٢٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَخُذْ بِـيَدكَ ضِغْثا... الاَية، قال: كانت امرأته قد عَرَضت له بأمر، وأرادها إبلـيس علـى شيء، فقال: لو تكلـمت بكذا وكذا، وإنـما حملها علـيها الـجزع، فحلف نبـيّ اللّه : لئِن اللّه شفـاه لـيجلِدّنها مئة جلدة قال: فأُمِر بغصن فـيه تسعة وتسعون قضيبـا، والأصل تكملة الـمِئَة، فضربها ضَربة واحدة، فأبرّ نبـيّ اللّه ، وخَفّف اللّه عن أمَتِهِ، واللّه رحيـم.

٢٣٠٢٥ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَخُذْ بِـيَدِكَ ضِغْثا يعني : ضِغْثا من الشجر الرّطْب، كان حلف علـى يـمين، فأخذ من الشجر عدد ما حلف علـيه، فضرب به ضَرْبة واحدة، فبرّت يـمينه، وهو الـيوم فـي الناس يـمين أيوب، من أخذ بها فهو حسن.

٢٣٠٢٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَخُذْ بِـيَدِكَ ضِغْثا فـاضْرِبْ بِهِ وَلا تَـحْنَثْ قال: ضِغْثا واحدا من الكلأ فـيه أكثر من مِئة عود، فضرب به ضربة واحدة، فذلك مِئَة ضربة.

٢٣٠٢٧ـ حدثنـي مـحمد بن عوف، قال: حدثنا أبو الـمغيرة، قال: حدثنا صفوان، قال: حدثنا عبد الرحمن بن جُبَـير وَخُذْ بِـيَدِكَ ضِغثا فـاضْرِبْ بِهِ يقول: فـاضرب زوجتك بـالضّغْث، لتَبرّ فـي يـمينك التـي حلفت بها علـيها أن تضربها وَلا تَـحْنَثْ يقول: ولا تـحنَثْ فـي يـمينك.

و قوله: إنّا وَجَدْناهُ صَابِرا نِعْمَ العَبْدُ يقول: إنا وجدنا أيوب صابرا علـى البلاء، لا يحمله البلاء علـى الـخروج عن طاعة اللّه ، والدخول فـي معصيته نَعْمَ العَبْدُ إنّهُ أوّابٌ يقول: إنه علـى طاعة اللّه مقبل، وإلـى رضاه رَجّاع.

٤٥

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ...}

اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {عِبَادَنَا} [يوسف: ٢٤] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا} عَلَى الْجِمَاعِ غَيْرَ ابْنِ كَثِيرٍ، فَإِنَّهُ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَهُ: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا) عَلَى التَّوْحِيدِ، كَأَنَّهُ يُوَجِّهُ الْكَلَامَ إِلَى أَنَّ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُمَا [ص:١١٤] ذُكِرَا مِنْ بَعْدِهِ

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقْرَأُ: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا إِبْرَاهِيمَ» قَالَ: «إِنَّمَا ذُكِرَ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ ذُكِرَ وَلَدُهُ بَعْدَهُ» وَالصَّوَابُ عِنْدَهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ عَلَى الْجِمَاعِ، عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بَيَانٌ عَنِ الْعِبَادِ وَتَرْجَمَةٌ عَنْهُ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ

وَقَوْلُهُ: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: ٤٥] وَيَعْنِي بِالْأَيْدِي: الْقُوَّةَ، يَقُولُ: أَهْلُ الْقُوَّةِ عَلَى عِبَادَةِ اللّه وَطَاعَتِهِ وَيَعْنِي بِالْأَبْصَارِ: أَنَّهُمْ أَهْلُ إِبْصَارِ الْقُلُوبِ، يَعْنِي بِهِ: أُولِي الْعُقُولِ لِلْحَقِّ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ نَحْوًا مِمَّا قُلْنَا فِيهِ

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {أُولِي الْأَيْدِي} [ص: ٤٥] يَقُولُ: " أُولِي الْقُوَّةِ وَالْعِبَادَةِ، وَالْأَبْصَارِ يَقُولُ: الْفِقْهُ فِي الدِّينِ "

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ [ص:١١٥] أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: ٤٥] قَالَ: «فُضِّلُوا بِالْقُوَّةِ وَالْعِبَادَةِ»

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {أُولِي الْأَيْدِي} [ص: ٤٥] قَالَ: «الْقُوَّةِ»

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {أُولِي الْأَيْدِي} [ص: ٤٥] قَالَ: «الْقُوَّةِ فِي أَمْرِ اللّه »

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، {أُولِي الْأَيْدِي} [ص: ٤٥] قَالَ: " الْأَيْدِي: الْقُوَّةُ فِي أَمْرِ اللّه " {وَالْأَبْصَارِ} [يونس: ٣١] «الْعُقُولُ»

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: ٤٥] قَالَ: «الْقُوَّةُ فِي طَاعَةِ اللّه » {وَالْأَبْصَارِ} [يونس: ٣١] قَالَ: «الْبَصَرُ فِي الْحَقِّ»

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: ٤٥] يَقُولُ: «أُعْطُوا قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ، وَبَصَرًا فِي الدِّينِ»

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: {أُولِي [ص:١١٦] الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: ٤٥] قَالَ: " الْأَيْدِي: الْقُوَّةُ فِي طَاعَةِ اللّه ، وَالْأَبْصَارُ: الْبَصَرُ بِعُقُولِهِمْ فِي دِينِهِمْ "

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: ٤٥] قَالَ: " الْأَيْدِي: الْقُوَّةُ، وَالْأَبْصَارُ: الْعُقُولُ " فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا الْأَيْدِي مِنَ الْقُوَّةِ، وَالْأَيْدِي إِنَّمَا هِيَ جَمْعُ يَدٍ، وَالْيَدُ جَارِحَةٌ، وَمَا الْعُقُولُ مِنَ الْأَبْصَارِ، وَإِنَّمَا الْأَبْصَارُ جَمْعُ بَصَرٍ؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مَثَلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ بِالْيَدِ الْبَطْشَ، وَبِالْبَطْشِ تُعْرَفُ قُوَّةُ الْقَوِيِّ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْقَوِيِّ: ذُو يَدٍ؛ وَأَمَّا الْبَصَرُ، فَإِنَّهُ عُنِيَ بِهِ بَصَرُ الْقَلْبِ، وَبِهِ تُنَالُ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لِلرَّجُلِ الْعَالِمِ بِالشَّيْءِ: بَصِيرٌ بِهِ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عُنِيَ بِقَوْلِهِ: {أُولِي الْأَيْدِي} [ص: ٤٥] أُولِي الْأَيْدِي عِنْدَ اللّه بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَجَعَلَ اللّه أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا أَيْدِيًا لَهُمْ عِنْدَ اللّه تَمْثِيلًا لَهَا بِالْيَدِ، تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الْآخَرِ وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللّه أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ: «أُولِي الْأَيْدِ» بِغَيْرِ يَاءٍ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ التَّأْيِيدِ، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْأَيْدِي، وَلَكِنَّهُ أَسْقَطَ مِنْهُ الْيَاءَ، كَمَا قِيلَ: {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} [ق: ٤١] بِحَذْفِ الْيَاءِ

٤٦

وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّا خَصَصْنَاهُمْ بِخَاصَّةٍ: ذِكْرَى الدَّارِ وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: ٤٦] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ [ص:١١٧] الْمَدِينَةِ: (بِخَالِصَةِ ذِكْرَى الدَّارِ) بِإِضَافَةِ خَالِصَةٍ إِلَى ذِكْرَى الدَّارِ، بِمَعْنَى: أَنَّهُمْ أُخْلِصُوا بِخَالِصَةِ الذِّكْرَى، وَالذِّكْرَى إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ غَيْرُ الْخَالِصَةِ، كَمَا الْمُتَكَبِّرُ إِذَا قُرِئَ: عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ بِإِضَافَةِ الْقَلْبِ إِلَى الْمُتَكَبِّرِ، هُوَ الَّذِي لَهُ الْقَلْبُ وَلَيْسَ بِالْقَلْبِ وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْعِرَاقِ: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: ٤٦] بِتَنْوِينِ قَوْلِهِ: {خَالِصَةٍ} [البقرة: ٩٤] وَرَدِّ ذِكْرَى عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّ الدَّارَ هِيَ الْخَالِصَةُ، فَرَدُّوا الذِّكْرَى وَهِيَ مَعْرِفَةٌ عَلَى خَالِصَةٍ، وَهِيَ نَكِرَةٌ، كَمَا قِيلَ: لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ، فَرَدُّ جَهَنَّمَ وَهِيَ مَعْرِفَةٌ عَلَى الْمَآبِ وَهِيَ نَكِرَةٌ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ هِيَ ذِكْرَى الدَّارِ: أَيْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُذَكِّرُونَ النَّاسَ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللّه ، وَالْعَمَلِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: ٤٦] قَالَ: «بِهَذِهِ أَخْلَصَهُمُ اللّه ، كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى الْآخِرَةِ وَإِلَى اللّه » وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَخْلَصَهُمْ بِعَمَلِهِمْ لِلْآخِرَةِ وَذِكْرِهِمْ لَهَا

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: ٤٦] قَالَ: «بِذِكْرِ الْآخِرَةِ فَلَيْسَ لَهُمْ هُمْ غَيْرُهَا»

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: ٤٦] قَالَ: «بِذِكْرِهِمُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَعَمَلِهِمْ لِلْآخِرَةِ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِأَفْضَلِ مَا فِي الْآخِرَةِ؛ وَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالْإِضَافَةِ وَأَمَّا الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ فَعَلَى تَأْوِيلِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالتَّنْوِينِ

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: ٤٦] قَالَ: " بِأَفْضَلِ مَا فِي الْآخِرَةِ أَخْلَصْنَاهُمْ بِهِ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ إِيَّاهُ؛ قَالَ: وَالدَّارُ: الْجَنَّةُ، وَقَرَأَ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} [القصص: ٨٣] ، قَالَ: الْجَنَّةُ " وَقَرَأَ: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: ٣٠] قَالَ: هَذَا كُلُّهُ الْجَنَّةُ، وَقَالَ: أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَيْرِ الْآخِرَةِ " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: خَالِصَةً عُقْبَى الدَّارِ

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: ٤٦] قَالَ: «عُقْبَى الدَّارِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: بِخَالِصَةٍ أَهْلِ الدَّارِ

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: ثني ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا، يَقُولُ: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: ٤٦] " هُمْ أَهْلُ الدَّارِ؛ وَذُو الدَّارِ، كَقَوْلِكَ: ذُو الْكَلَاعِ، وَذُو يَزَنَ " وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالتَّنْوِينِ {بِخَالِصَةٍ} [ص: ٤٦] عَمِلَ فِي ذِكْرِ الْآخِرَةِ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالتَّنْوِينِ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ هِيَ ذِكْرَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَعَمِلُوا لَهَا فِي الدُّنْيَا، فَأَطَاعُوا اللّه وَرَاقَبُوهُ؛ وَقَدْ يَدْخُلُ فِي وَصْفِهِمْ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَتِهِمْ أَيْضًا الدُّعَاءُ إِلَى اللّه وَإِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ طَاعَةِ اللّه وَالْعَمَلِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ، غَيْرَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلِمَةِ مَا ذَكَرْتُ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالْإِضَافَةِ، فَأَنْ يُقَالُ: مَعْنَاهُ: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةِ مَا ذَكَرَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ؛ فَلَمَّا لَمْ تَذْكُرْ فِي أُضِيفَتِ الذِّكْرَى إِلَى الدَّارِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: ٤٩][ص:١٢٠] وَقَوْلُهُ: {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: ٢٤]

٤٧

وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لِمَنِ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} يَقُولُ: وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا عِنْدَنَا لِمَنِ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَاهُمْ لِذِكْرَى الْآخِرَةِ الْأَخْيَارُ، الَّذِينَ اخْتَرْنَاهُمْ لِطَاعَتِنَا وَرِسَالَتِنَا إِلَى خَلْقِنَا

٤٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلّ مّنَ الأخْيَارِ}.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم : واذكر يا مـحمد إسماعيـل والـيسع وذا الكِفل، وما أبلْوا فـي طاعة اللّه ، فتأسّ بهم، واسلك منهاجَهم فـي الصبر علـى ما نالك فـي اللّه ، والنفـاذ لبلاغ رسالته. وقد بـيّنا قبل من أخبـار إسماعيـل والـيسع وذا الكفل فـيـما مضى من كتابنا هذا ما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. والكِفْل فـي كلامِ العرب: الـحظّ والـجَدّ.

٤٩

و قوله: هَذَا ذِكْرٌ

يقول تعالـى ذكره: هذا القرآن الذي أنزلناه إلـيك يا مـحمد ذكر لك ولقومك، ذكرناك وإياهم به. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٤٣ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ هَذَا ذِكْرٌ قال: القرآن.

و قوله: وَإنّ للْـمُتّقِـينَ لَـحُسْنَ مآبٍ يقول: وإن للـمتقـين الذين اتّقَوْا اللّه فخافوه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، لـحسنَ مَرْجع يرجعون إلـيه فـي الاَخرة، ومَصِير يصيرون إلـيه. ثم أخبر تعالـى ذكره عن ذلك الذي وعده من حُسن الـمآب ما هو، فقال: جَنّاتِ عَدْنٍ مُفَتّـحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ.

٢٣٠٤٤ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: وَإنّ للْـمُتّقِـينَ لَـحُسْنَ مآبٍ قال: لـحسن منقلب.

٥٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {جَنّاتِ عَدْنٍ مّفَتّحَةً لّهُمُ الأبْوَابُ}.

قوله تعالـى ذكره: جَنّاتِ عَدْنٍ: بـيان عن حسن الـمآب، وترجمة عنه، ومعناه: بساتـينُ إقامة. وقد بـيّنا معنى ذلك بشواهده، وذكرنا ما فـيه من الاختلاف فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وقد:

٢٣٠٤٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: جَنّاتِ عَدْنٍ قال: سأل عمر كعبـا ما عَدَن؟ قال: يا أمير الـمؤمنـين، قصور فـي الـجنة من ذهب يسكنها النبي ون والصدّيقون والشهداء وأئمةُ العدل.

و قوله: مُفَتّـحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ يعني : مفتـحة لهم أبوابها وأدخـلت الألف واللام فـي الأبواب بدلاً من الإضافة، كما

قـيـل: فإنّ الـجَنّةَ هِيَ الـمَأْوَى بـمعنى: هي مَأْواه وكما قال الشاعر:

ما وَلَدْتكُمْ حَيّةُ ابْنَةُ مالِكٍشفـاحا وَما كانَتْ أحادِيثَ كاذِبِ

وَلَكِنْ نَرَى أقْدَامَنا فِـي نِعالِكُمْوآنُفَنا بـينَ اللّـحَي والـحَوَاجِبِ

بـمعنى: بـين الـحاكم وحواجبكم ولو كانت الأبواب جاءت بـالنصب لـم يكن لـحنا، وكان نصبه علـى توجيه الـمفتـحة فـي اللفظ إلـى جنات، وإن كان فـي الـمعنى للأبواب، وكان كقول الشاعر:

وَما قَوْمي بثعْلَبَةَ بْنِ سَعْدٍوَلا بِفَزَارَةَ الشّعْرَ الرّقابـا

ثم نوّنت مفتـحة، ونصبت الأبواب.

فإن قال لنا قائل: وما فـي قوله: مُفَتّـحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ من فـائدة خبر حتـى ذكر ذلك؟

قـيـل: فإن الفـائدة فـي ذلك إخبـار اللّه تعالـى عنها أن أبوابها تفتـح لهم بغير فتـح سكانها إياها، بـمعاناة بـيدٍ ولا جارحة، ولكن بـالأمر فـيـما ذُكر، كما:

٢٣٠٤٦ـ حدثنا أحمد بن الولـيد الرملـي، قال: حدثنا ابن نفـيـل، قال: حدثنا ابن دعيج، عن الـحسن، فـي قوله: مُفَتّـحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ قال: أبواب تكلـم، فتكلـم: انفتـحي، انغلقـي.

٥١

و قوله: مُتّكِئِينَ فِـيها يَدْعُونَ فِـيها بِفـاكِهَةٍ كَثِـيرَةٍ وَشَراب يقول: متكئين فـي جنات عدن، علـى سُرر يدعون فـيها بفـاكهة، يعني بثمار من ثمار الـجنة كثـيرة، وشراب من شرابها.

٥٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ أَتْرَابٌ }.

يقول تعالـى ذكره: عند هؤلاء الـمتقـين الذين أكرمهم اللّه بـما وصف فـي هذه الاَية من إسكانهم جنات عدن قاصِراتُ الطّرْفِ يعني : نساء قصرت أطرافهنّ علـى أزواجهنّ، فلا يردن غيرهم، ولا يـمددن أعينهن إلـى سواهم، كما:

٢٣٠٤٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَعِنْدَهُمْ قاصِرَاتُ الطّرْفِ قال: قصرن طرفهنّ علـى أزواجهنّ، فلا يردن غيرهم.

٢٣٠٤٨ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ قاصِرات الطّرْفِ قال: قصَرن أبصارهنّ وقلوبهنّ وأسماعهنّ علـى أزواجهنّ، فلا يردن غيرهم.

و قوله: أتْرَابٌ يعني : أسنان واحدة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل علـى اختلاف بـين أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٤٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قاصِرَاتٌ الطّرْفِ أتْرابٌ قال: أمثال.

٢٣٠٥٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أتْرَابٌ سن واحدة.

٢٣٠٥١ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ أتْرَابٌ قال: مستويات. قال: وقال بعضهم: متواخيات لا يتبـاغضن، ولا يتعادين، ولا يتغايرن، ولا يتـحاسدن.

٥٣

و قوله: هَذَا ما تُوعَدُون لِـيوْمِ الـحِسابِ

يقول تعالـى ذكره: هذا الذي يعدكم اللّه فـي الدنـيا أيها الـمؤمنون به من الكرامة لـمن أدخـله اللّه الـجنة منكم فـي الاَخرة، كما:

٢٣٠٥٢ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ هَذَا ما تُوعَدُونَ لِـيَوْم الـحِسابِ قال: هو فـي الدنـيا لـيوم القـيامة.

٥٤

و قوله: إنّ هَذَا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفـادٍ

يقول تعالـى ذكره: إن هذا الذي أعطينا هؤلاء الـمتقـين فـي جنّات عدن من الفـاكهة الكثـيرة والشراب، والقاصرات الطرف، ومكنّاهم فـيها من الوصول إلـى اللذّات وما اشتهته فـيها أنفسهم لرزقنا، رزقناهم فـيها كرامة منا لهم ما لَهُ مِنْ نَفـادٍ يقول: لـيس له عنهم انقطاع ولا له فناء، وذلك أنهم كلـما أخذوا ثمرة من ثمار شجرة من أشجارها، فأكلوها، عادت مكانها أخرى مثلها، فذلك لهم دائم أبدا، لا ينقطع انقطاع ما كان أهل الدنـيا أوتوه فـي الدنـيا، فـانقطع بـالفناء، ونَفِد بـالإنفـاد. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٥٣ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ إنّ هَذَا لَرزْقُنا مالَهُ مِنْ نَفـادٍ قال: رزق الـجنة، كلـما أُخذ منه شيء عاد مثله مكانه، ورزق الدنـيا له نفـاد.

٢٣٠٥٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ما لَهُ مِنْ نَفـادٍ: أي ما له انقطاع.

٥٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هَـَذَا وَإِنّ لِلطّاغِينَ لَشَرّ مَآبٍ}.

 يعني تعالـى ذكره ب قوله: هَذَا: الذي وصفت لهؤلاء الـمتقـين: ثم استأنف جلّ وعزّ الـخبر عن الكافرين به الذين طَغَوا علـيه وبَغَوا، فقال: وإنّ للطّاغِينَ وهم الذين تـمّردوا علـى ربهم، فعَصَوا أمره مع إحسانه إلـيهم لَشَرّ مآبٍ يقول: لشرّ مرجع ومصير يصيرون إلـيه فـي الاَخرة بعد خروجهم من الدنـيا، كما:

٢٣٠٥٥ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ وَإنّ للطّاغِينَ لَشرّ مآبٍ قال: لشرّ مُنْقَلَبٍ.

ثم بـين تعالـى ذكره: ما ذلك الذي إلـيه ينقلبون ويصيرون فـي الاَخرة، فقال:

٥٦

جَهَنّـمَ يَصْلَوْنَها فترجم عن جهنـم ب قوله: لَشَرّ مآبٍ ومعنى الكلام: إن للكافرين لشرّ مَصِير يصيرون إلـيه يوم القـيامة، لأن مصيرهم إلـى جهنـم، وإلـيها منقلبهم بعد وفـاتهم فَبِئْسَ الـمِهادُ

يقول تعالـى ذكره: فبئس الفراش الذي افترشوه لأنفسهم جهنـم.

و قوله: هَذَا فَلْـيَذُوقُوهُ حَمِيـمٌ وَغَسّاقٌ

يقول تعالـى ذكره: هذا حميـم، وهو الذي قد أُغلـي حتـى انتهى حرّه، وغساق فلـيذوقوه فـالـحميـم مرفوع بهذا،

و قوله: فَلْـيَذُوقُوهُ معناه التأخير، لأن معنى الكلام ما ذكرت، وهو: هذا حميـم وغسّاق فلـيذوقوه. وقد يتـجه إلـى أن يكون هذا مكتفـيا بقوله فلـيذوقوه ثم يُبْتدأ فـيقال: حميـمٌ وغَسّاق، بـمعنى: منه حميـم ومنه غَسّاق كما قال الشاعر:

حتـى إذا ما أضَاءَ الصّبْحُ فـي غَلَسٍوَغُودِرَ البقْلُ مَلْويّ وَمَـحْصُودُ

وإذا وُجّه إلـى هذا الـمعنى جاز فـي هذا النصب والرفع. النصب: علـى أن يُضْمر قبلها لها ناصب، كم قال الشاعر:

زِيادَتَنا نُعْمانُ لا تَـحْرِمَنّناتَقِ اللّه فِـينا والكِتابَ الّذي تَتْلُو

والرفع بـالهاء فـي قوله: فَلْـيَذُوقُوهُ كما يقال: اللـيـلَ فبـادروه، واللـيـلُ فبـادروه.

٢٣٠٥٦ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ

٥٧

هَذَا فَلْـيَذوقُوهُ حَمِيـمٌ وَغَسّاقٌ قال: الـحميـم: الذي قد انتهى حَرّه.

٢٣٠٥٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الـحميـم دموع أعينهم، تـجمع فـي حياض النار فـيسقونه.

و قوله: وَغَسّاقٌ اختلفت القرّاء فـي قراءته، فقرأته عامة قرّاء الـحجاز والبصرة وبعض الكوفـيـين والشام بـالتـخفـيف: (وَغَسَاقٌ) وقالوا: هو اسم موضوع. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: وَغَسّاقٌ مشدّدة، ووجهوه إلـى أنه صفة من قولهم: غَسَقَ يَغْسِقُ غُسُوقا: إذا سال، وقالوا: إنـما معناه: أنهم يُسْقَون الـحميـم، وما يسيـل من صديدهم.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما علـماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، وإن كان التشديد فـي السّين أتـمّ عندنا فـي ذلك، لأن الـمعروف ذلك فـي الكلام، وإن كان الاَخر غير مدفوعة صحته.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: هو ما يَسيـل من جلودهم من الصديد والدم. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٥٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة هَذَا فَلْـيَذُوقُوهُ حَمِيـمٌ وَغَسّاقٌ قال: كنا نـحدّث أن الغَسّاق: ما يسيـل من بـين جلده ولـحمه.

٢٣٠٥٩ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: الغسّاق: الذي يسيـل من أعينهم من دموعهم، يُسْقونه مع الـحميـم.

٢٣٠٦٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم، قال: الغسّاق: ما يسيـل من سُرْمهم، وما يسقط من جلودهم.

٢٣٠٦١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد الغسّاق: الصديد الذي يجمع من جلودهم مـما تصهَرهم النار فـي حياض يجتـمع فـيها فـيُسقونه.

٢٣٠٦٢ـ حدثنـي يحيى بن عثمان بن صالـح السهميّ، قال: ثنـي أبـي، قال: حدثنا ابن لَهيعة، قال: ثنـي أبو قبـيـل أنه سمع أبـا هبـيرة الزيادي يقول: سمعت عبد اللّه بن عمرو يقول: أيّ شيء الغسّاق؟ قالوا: اللّه أعلـم، فقال عبد اللّه بن عمرو: هو القَـيْح الغلـيظ، لو أن قطرة منه تُهرَاق فـي الـمغرب لأنتنت أهل الـمشرق، ولو تُهَراق فـي الـمشرق لأنتنت أهل الـمغرب.

٢٣٠٦٣ـ قال يحيى بن عثمان، قال أبـي: حدثنا ابن لَهِيعة مرّة أخرى، فقال: حدثنا أبو قبـيـل، عن عبد اللّه بن هبـيرة، ولـم يذكر لنا أبـا هبـيرة.

٢٣٠٦٤ـ حدثنا ابن عوف، قال: حدثنا أبو الـمغيرة، قال: حدثنا صفوان، قال: حدثنا أبو يحيى عطية الكلاعيّ، أن كعبـا كان يقول: هل تدرون ما غَسّاق؟ قالوا: لا واللّه ، قال: عين فـي جهنـم يسيـل إلـيها حُمَةُ كلّ ذات حُمَةٍ من حية أو عقرب أو غيرها، فـيستنقع فـيؤتـي بـالاَدمي، فـيغْمَس فـيها غمسة واحدة، فـيخرج وقد سقط جلده ولـحمه عن العظام. حتـى يتعلّق جلده فـي كعبـيه وعقبـيه، وينـجَرّ لـحمه كجرّ الرجل ثوبه.

وقال آخرون: هو البـارد الذي لا يُستطاع من برده. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٦٥ـ حُدثت عن يحيى بن أبـي زائدة، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد وغسّاق قال: بـارد لا يُسْتطاع، أو قال: برد لا يُسْتطاع.

٢٣٠٦٦ـ حدثنـي علـيّ بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمـحاربـيّ، عن جُوَيبر، عن الضحاك هَذَا فَلْـيَذُوقُوهُ حَمِيـمٌ وغَسّاقٌ قال: يقال: الغسّاق: أبرد البرد، ويقول آخرون: لا بل هو أنتن النَتْن.

وقال آخرون: بل هو الـمُنْتِن. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٦٧ـ حُدثت عن الـمسيب، عن إبراهيـم النكري، عن صالـح بن حيان، عن أبـيه، عن عبد اللّه بن بُرَيدة، قال: الغسّاق: الـمنتن، وهو بـالطّخارية.

٢٣٠٦٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي عمرو بن الـحارث، عن درّاج، عن أبـي الهيثم، عن أبـي سعيد الـخُدريّ، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (لَوْ أنّ دَلْوا مِنْ غَسّاقٍ يُهَراقُ فِـي الدّنـيْا لأَنُتَنَ أهْلَ الدّنْـيا) .

وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب قول من قال: هو ما يسيـل من صديدهم، لأن ذلك هو الأغلب من معنى الْغُسُوق، وإن كان للاَخر وجه صحيح.

٥٨

و قوله: وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والكوفة وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ علـى التوحيد، بـمعنى: هذا حميـم وغساق فلـيذوقوه، وعذاب آخر من نـحو الـحميـم ألوان وأنواع، كما يقال: لك عذاب من فلان: ضروب وأنواع وقد يحتـمل أن يكون مرادا بـالأزواج الـخبر عن الـحميـم والغسّاق، وآخر من شكله، وذلك ثلاثة، فقـيـل أزواج، يراد أن ينعت بـالأزواج تلك الأشياء الثلاثة. وقرأ ذلك بعضُ الـمكيـين وبعض البصريـين: (وأُخَرُ) علـى الـجماع، وكأن من قرأ ذلك كذلك كان عنده لا يصلـح أن يكون الأزواج وهي جمع نعتا لواحد، فلذلك جمع أخَر، لتكون الأزواج نَعْتا لها والعرب لا تـمنع أن ينعَت الاسم إذا كان فعلاً بـالكثـير والقلـيـل والاثنـين كما بـيّنا، فتقول: عذاب فلان أنواع، ونوعان مختلفـان.

وأعجب القراءتـين إلـيّ أن أقرأ بها: وآخَرُ علـى التوحيد، وإن كانت الأخرى صحيحة لاستفـاضة القراءة بها فـي قرّاء الأمصار وإنـما اخترنا التوحيد لأنه أصحّ مخرجا فـي العربـية، وأنه فـي التفسير بـمعنى التوحيد. وقـيـل إنه الزّمهرير. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٦٩ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن السديّ، عن مُرّة، عن عبد اللّه وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ قال الزمهرير.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفـيان، عن السديّ، عن مرة، عن عبد اللّه ، بـمثله.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا معاوية، عن سفـيان، عن السديّ، عمن أخبره عن عبد اللّه بـمثله، إلا أنه قال: عذاب الزمهرير.

حدثنا مـحمد قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، عن مرّة الهمدانـي، عن عبد اللّه بن مسعود، قال: هو الزمهرير.

٢٣٠٧٠ـ حُدثت عن يحيى بن أبـي زائدة، عن مبـارك بن فضالة، عن الـحسن، قال: ذكر اللّه العذاب، فذكر السلاسل والأغلال، وما يكون فـي الدنـيا، ثم قال: وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ قال: وآخر لـم ير فـي الدنـيا.

وأما قوله: مِنْ شَكْلِهِ فإن معناه: من ضربه، ونـحوه يقول الرجل للرجل: ما أنت من شكلـي، بـمعنى: ما أنت من ضربـي بفتـح الشين. وأما الشّكْل فإنه من الـمرأة ما عَلّقَتْ مـما تتـحسن به، وهو الدّلّ أيضا منها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٧١ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عباس ، قوله: وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ يقول: من نـحوه.

٢٣٠٧٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ من نـحوه.

٢٣٠٧٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ قال: من كلّ شَكْلِ ذلك العذاب الذي سمّى اللّه ، أزواج لـم يسمها اللّه ، قال: والشّكل: الشبـيه.

و قوله: أزْوَاجٌ يعني : ألوان وأنواع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٧٤ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي رجاء، عن الـحسن، فـي قوله: وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ قال: ألوان من العذاب.

٢٣٠٧٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أزْوَاجٌ زوج زوج من العذاب.

٢٣٠٧٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: أزْوَاجٌ قال: أزواج من العذاب فـي النار.

٥٩

و قوله: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَـحِمٌ مَعَكُمْ يعني تعالـى ذكره ب قوله: هَذَا فَوْجٌ هذا فرقة وجماعة مقتـحمة معكم أيها الطاغون النار، وذلك دخول أمة من الأمـم الكافرة بعد أمة لا مرحبـا بهم، وهذا خبر من اللّه عن قـيـل الطاغين الذين كانوا قد دخـلوا النار قبل هذا الفوج الـمقتـحِم للفوج الـمقتـحَم فـيها علـيهم، لا مرحبـا بهم، ولكن الكلام اتصل فصار كأنه قول واحد، كما

قـيـل: يُرِيدُ أنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ فـاتصل قول فرعون بقول مَلئه، وهذا كما قال تعالـى ذكره مخبرا عن أهل النار: كُلّـما دَخَـلَتْ أُمّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها.

و يعني بقوله م: لا مَرْحَبـا بِهِمْ لا اتّسعت بهم مداخـلُهم، كما قال أبو الأسود:

لا مَرْحَبٌ وَاديكَ غيرُ مُضَيّقِ

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٧٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَـحِمٌ مَعَكُمْ فـي النار لا مَرْحَبـا بِهِمْ إنّهُمْ صَالُوا النّارِ قالُوا بَلْ أنْتُـمْ لا مَرْحَبـا بِكُمْ... حتـى بلغ: فَبِئْسَ القَرَارُ قال: هؤلاء التبّـاع يقولون للرؤوس.

٢٣٠٧٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَـحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبـا بِهِمْ قال: الفوج: القوم الذين يدخـلون فوجا بعد فوج، وقرأ: كُلّـما دَخَـلَتْ أُمّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها التـي كانت قبلها.

و قوله: إنّهُمْ صَالُوا النّارِ يقول: إنهم واردو النار وداخـلوها.

٦٠

قالُوا بَلْ أنْتُـمْ لا مَرْحَبـا بِكُمْ يقول: قال الفوج الواردون جهنـم علـى الطاغين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم لهم: بل أنتـم أيها القوم لا مرحبـا بكم: أي لا اتسعت بكم أما كنكم، أنْتُـمْ قَدّمْتُـمُوهُ لَنا يعنون: أنتـم قدمتـم لنا سُكنى هذا الـمكان، وصلّـي النار بإضلالكم إيانا، ودعائكم لنا إلـى الكفر بـاللّه ، وتكذيب رُسله، حتـى ضللنا بـاتبـاعكم، فـاستوجبنا سكنى جهنـم الـيوم، فذلك تقديـمهم لهم ما قدموا فـي الدنـيا من عذاب اللّه لهم فـي الاَخرة فَبِئْسَ القَرارُ يقول: فبئس الـمكان يُسْتَقرّ فـيه جهنـم.

٦١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالُواْ رَبّنَا مَن قَدّمَ لَنَا هَـَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النّارِ }.

وهذا أيضا قول الفوج الـمقتـحم علـى الطاغين، وهم كانوا أتبـاع الطاغين فـي الدنـيا،

يقول جلّ ثناؤه: وقال الأتبـاع: رَبّنا مَنْ قَدّمَ لَنا هَذَا يعنون: من قدّم لهم فـي الدنـيا بدعائهم إلـى العمل الذي يوجب لهم النار التـي ورودها، وسُكنى الـمنزل الذي سكنوه منها. ويعنون بقوله م هَذَا: العذاب الذي وردناه فَزِدْهُ عَذَابـا ضِعْفـا فـي النّارِ يقولون: فأضعف له العذاب فـي النار علـى العذاب الذي هو فـيه فـيها، وهذا أيضا من دعاء الأتبـاع للـمتبوعين.

٦٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَىَ رِجَالاً كُنّا نَعُدّهُمْ مّنَ الأشْرَارِ }.

يقول تعالـى ذكره: قال الطاغون الذين وصف جل ثناؤه صفتهم فـي هذه الاَيات، وهم فـيـما ذُكر أبو جهل والولـيد بن الـمُغيرة وذووهما: ما لَنا لا نَرَى رِجالاً يقول: ما بـالنا لا نرى معنا فـي النار رجالاً كُنّا نَعُدّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ يقول: كنا نعدّهم فـي الدنـيا من أشرارنا، وعنوا بذلك فـيـما ذُكر صُهَيْبـا وخَبّـابـا وبِلالاً وسلم ان. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٧٩ـ حدثنـي مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن لـيث، عن مـجاهد ، فـي قوله: ما لَنا لا نَرَى رِجالاً كُنّا نَعُدّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ قال: ذاك أبو جهل بن هشام والولـيد بن الـمغيرة، وذكر أناسا صُهيبـا وَعمّارا وخبّـابـا، كنّا نعدّهم من الأشرار فـي الدنـيا.

حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت لـيثا يذكر عن مـجاهد فـي قوله: وَقالُوا ما لَنا لا نَرَى رِجالاً كُنّا نَعُدّهُمْ مِنَ الأَشْرارِ قال: قالوا: أي سَلْـمان؟ أين خَبّـاب؟ أين بِلال؟.

٦٣

و قوله: أتّـخَذْناهُمْ سِخْرِياّ اختلفت القرّاء فـي قراءته، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والشام وبعض قرّاء الكوفة: أتّـخَذْناهُمْ بفتـح الألف من أتـخذناهم، وقطعها علـى وجه الاستفهام، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة، وبعض قرّاء مكة بوصل الألف من الأشرار: (اتّـخَذْناهُمْ) . وقد بـيّنا فـيـما مضى قبلُ، أن كلّ استفهام كان بـمعنى التعجب والتوبـيخ، فإن العرب تستفهم فـيه أحيانا، وتُـخرجه علـى وجه الـخبر أحيانا.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأه بـالوصل علـى غير وجه الاستفهام، لتقدّم الاستفهام قبلَ ذلك فـي قوله: ما لَنا لا نَرَى رِجالاً كُنّا فـيصير قوله: (اتّـخَذْناهُمْ) بـالـخبر أولـى وإن كان للاستفهام وجه مفهوم لـما وصفتُ قبلُ من أنه بـمعنى التعجب.

وإذ كان الصواب من القراءة فـي ذلك ما اخترنا لـما وصفنا، فمعنى الكلام: وقال الطاغون: ما لنا لا نرى سَلْـمان وبِلالاً وخَبّـابـا الذين كنّا نعدّهم فـي الدنـيا أشرارا، اتـخذناهم فـيها سُخريا نهزأ بهم فـيها معنا الـيوم فـي النار؟.

وكان بعض أهل العلـم بـالعربـية من أهل البصرة يقول: من كسر السين من السّخْرِي، فإنه يريد به الهُزء، يريد يسخر به، ومن ضمها فإنه يجعله من السّخْرَة، يستسخِرونهم: يستذِلّونهم، أزاغت عنهم أبصارنا وهم معنا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٨٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن لـيث، عن مـجاهد أتّـخَذْناهُمْ سِخْرِيّا أمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ يقول: أهم فـي النار لا نعرف مكانهم؟.

٢٣٠٨١ـ وحُدثت عن الـمـحاربـيّ، عن جَوَيبر، عن الضحاك وَقالُوا ما لَنا لا نَرىَ رِجالاً كُنّا نَعُدّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ قال: هم قوم كانوا يسخَرون من مـحمد وأصحابه، فـانطُلِق به وبأصحابه إلـى الـجنة وذُهِبَ بهم إلـى النار فقالُوا ما لَنا لا نَرَى رِجالاً كُنّا نَعُدّهُمْ مِنَ الأشْرارِ أَتّـخَذْناهُمْ سِخْريّا أمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الأبْصارُ يقولون: أزاغت أبصارنا عنهم فلا ندري أين هم؟.

٢٣٠٨٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، قوله: أَتّـخَذْناهُمْ سِخْريّا قال: أخطأناهم أمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الأبْصَارُ ولا نراهم؟.

٢٣٠٨٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَقالُوا ما لَنا لا نَرَى رجالاً كُنّا نَعُدّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ قال: فقدوا أهل الـجنة أَتّـخَذْناهُمْ سِخْريّا فـي الدنـيا أمْ زَاغَت عَنْهُمُ الأَبْصَارُ وهم معناه فـي النار.

٦٤

و قوله: إنّ ذلكَ لَـحَقّ

يقول تعالـى ذكره: إن هذا الذي أخبرتكم أيها الناس من الـخبر عن تراجع أهل النار، ولعْن بعضهم بعضا، ودعاء بعضهم علـى بعض فـي النار لـحقّ يقـين، فلا تشكّوا فـي ذلك، ولكن استـيقنوه تـخاصم أهل النار.

و قوله: تَـخاصُمُ ردّ علـى قوله: لَـحَقّ. ومعنى الكلام: إن تـخاصم أهل النار الذي أخبرتكم به لـحقّ.

وكان بعض أهل العربـية من أهل البصرة يوجه معنى قوله: أمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الأبْصَارُ إلـى: بل زاغت عنهم.

٢٣٠٨٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: إنّ ذلكَ لَـحَقّ تـخاصُمُ أهْلِ النّارِ فقرأ: تاللّه إنْ كُنّا لَفِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ إذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالَـمِينَ، وقرأ: يَوْمَ نَـحْشُرُهُمْ جَمِيعا... حتـى بلغ: إنْ كُنّا عَنْ عِبـادَتِكُمْ لَغافِلِـينَ قال: إن كنتـم تعبدوننا كما تقولون إن كنا عن عبـادتكم لغافلـين، ما كنا نسمع ولا نبصر، قال: وهذه الأصنام، قال: هذه خصومة أهل النار، وقرأ: وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ قال: وضلّ عنهم يوم القـيامة ما كانوا يفترون فـي الدنـيا.

٦٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَـَهٍ إِلاّ اللّه الْوَاحِدُ الْقَهّارُ }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : قُلْ يا مـحمد لـمشركي قومك: إنّـمَا أنا مُنْذِرٌ لكم يا معشر قريش بـين يدي عذاب شديد، أنذركم عذاب اللّه وسخطه أن يحلّ بكم علـى كفركم به، فـاحذروه وبـادروا حلوله بكم بـالتوبة وَما مِنْ إلَهٍ إلاّ اللّه الوَاحِدُ القهّارُ يقول: وما من معبود تصلـح له العبـادة، وتنبغي له الربوبـية، إلا اللّه الذي يدين له كلّ شيء، ويعبدهُ كلّ خـلق، الواحد الذي لا ينبغي أن يكون له فـي ملكه شريك، ولا ينبغي أن تكون له صاحبة، القهار لكلّ ما دونه بقدرته،

٦٦

ربّ السموات والأرض، يقول: مالك السموات والأرض وما بـينهما من الـخـلق يقول: فهذا الذي هذه صفته، هو الإله الذي لا إله سواه، لا الذي لا يـملك شيئا، ولا يضرّ، ولا ينفع.

و قوله: العَزِيرُ الغَفّـارُ يقول: العزيز فـي نقمته من أهل الكفر به، الـمدّعين معه إلها غيره، الغفّـار لذنوب من تاب منهم ومن غيرهم من كفره ومعاصيه، فأناب إلـى الإيـمان به، والطاعة له بـالانتهاء إلـى أمره ونهيه.

٦٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : قُلْ يا مـحمد لقومك الـمكذّبـيك فـيـما جئتهم به من عند اللّه من هذا القرآن، القائلـين لك فـيه: إن هذا إلا اختلاق هُوَ نَبأٌ عَظِيـمٌ يقول: هذا القرآن خبر عظيـم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٨٥ـ حدثنـي عبد الأعلـى بن واصل الأسدي، قال: حدثنا أبُو أُسامة، عن شبل بن عبـاد، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ، فـي قوله: قُلْ هُوَ نَبأٌ عَظِيـمٌ أنْتُـمْ مُعْرِضُونَ قال: القرآن.

٢٣٠٨٦ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن شريح، أن رجلاً قال له: أتقضي علـيّ بـالنبأ؟ قال: فقال له شريح: أوَ لَـيْس القرآن نبأ؟ قال: وتلا هذه الاَية: قُلْ هُوَ نَبأٌ عَظِيـمٌ قال: وقَضَى علـيه.

٢٣٠٨٧ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: قُلْ هُو نَبأٌ عَظِيـمٌ أنْتُـمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ قال: القرآن.

٦٨

و قوله: أنْتُـمْ عَنهُ مُعْرِضُونَ يقول: أنتـم عنه منصرفون لا تعملون به، ولا تصدّقون بـما فـيه من حجج اللّه وآياته.

٦٩

و قوله: ما كانَ لِـيَ مِنْ عِلْـمٍ بـالـمَلإِ الأَعْلَـى يقول لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : قل يا مـحمد لـمشركي قومك: ما كان لِـيَ من علـم بـالـملأ الأعلـى إذّ يَخْتَصِمُونَ فـي شأن آدم من قبل أن يوحي إلـيّ ربّـي فـيعلـمنـي ذلك، يقول: ففـي إخبـاري لكم عن ذلك دلـيـل واضح علـى أن هذا القرآن وحي من اللّه وتنزيـل من عنده، لأنكم تعلـمون أن علـم ذلك لـم يكن عندي قبل نزول هذا القرآن، ولا هو مـما شاهدته فعاينته، ولكنـي علـمت ذلك بإخبـار اللّه إياي به. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٨٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عباس ، قوله: ما كانَ لِـيَ مِنْ عِلْـمٍ بـالـمَلإٍ الأَعْلَـى إذْ يَخْتَصِمُونَ قال: الـملأ الأعلـى: الـملائكة حين شووروا فـي خـلق آدم، فـاختصموا فـيه، وقالوا: لا تـجعل فـي الأرض خـلـيفة.

٢٣٠٨٩ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ بـالـمَلإِ الأَعْلَـى إذْ يَخْتَصِمَونَ هو: إذْ قالَ رَبّكَ للْـمَلائِكَةِ إنّـي جاعِلٌ فِـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً.

٢٣٠٩٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: ما كانَ لِـيَ مِنْ عِلْـمٍ بـالـمَلإِ الأعْلـى قال: هم الـملائكة، كانت خصومتهم فـي شأن آدم حين قال ربك للـملائكة: إنّـي خالِقٌ بَشَرا مِنْ طِينٍ... حتـى بلغ ساجِدينَ، وحين قال: إنّـي جاعِلٌ فِـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً... حتـى بلغ وَيَسْفِكَ الدّماءَ، ففـي هذا اختصم الـملأ الأعلـى.

٧٠

و قوله: إنْ يُوحَى إلـيّ إلاّ أنّـمَا أنا نَذِيرٌ مُبِـينٌ

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : قل يا مـحمد لـمشركي قريش: ما يوحي اللّه إلـيّ علـم ما لا علـم لـي به، من نـحو العلـم بـالـملأ الأعلـى واختصامهم فـي أمر آدم إذا أراد خَـلقه، إلا لأنـي إنـما أنا نذير مبـين (فإنـما) علـى هذا التأويـل فـي موضع خفض علـى قول من كان يرى أن مثل هذا الـحرف الذي ذكرنا لا بد له من حرف خافض، فسواءٌ إسقاط خافضه منه وإثبـاته. وإما علـى قول من رأى أن مثل هذا ينصب إذا أسقط منه الـخافض، فإنه علـى مذهبه نصب، وقد بـيّنا ذلك فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

وقد يتـجه لهذا الكلام وجه آخر، وهو أن يكون معناه: ما يوحي اللّه إلـى إنذاركم. وإذا وجه الكلام إلـى هذا الـمعنى، كانت (أنـما) فـي موضع رفع، لأن الكلام يصير حينئذٍ بـمعنى: ما يوحَى إلـيّ إلا الإنذار.

 قوله: إلا أنـما أنا نَذِيرٌ مُبِـينٌ يقول: إلا أنـي نذير لكم مُبِـين لكم إنذاره إياكم. و

قـيـل: إلا أنـما أنا، ولـم يقل: إلا أنـما أنك، والـخبر من مـحمد عن اللّه ، لأن الوحْي قول، فصار فـي معنى الـحكاية، كما يقال فـي الكلام: أخبرونـي أنـي مسيء، وأخبرونـي أنك مسيء بـمعنى واحد، كما قال الشاعر:

رَجُلانِ مِنْ ضَبّةَ أخْبَرَانا أنّا رأيْنا رَجُلاً عُرْيانا.

بـمعنى: أخبرانا أنهما رأيا، وجاز ذلك لأن الـخبر أصله حكاية.

٧١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ }.

و قوله: إذْ قالَ رَبّكَ من صلة قوله: إذْ يَخْتَصِمُونَ، وتأويـل الكلام: ما كان لـي من علـم بـالـملأ الأعلـى إذ يختصمون حين قال ربك يا مـحمد للْـمَلائِكَةِ إنّـي خالِقٌ بَشَرا مِنْ طِينٍ يعني بذلك خـلق آدم.

٧٢

و قوله: فإذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِـيهِ مِنْ رُوحي

يقول تعالـى ذكره: فإذا سوّيت خـلقه، وعَدّلْت صورته، ونفخت فـيه من روحي،

قـيـل: عنى بذلك: ونفخت فـيه من قُدرتـي. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٩١ـ حُدثت عن الـمسيب بن شريك، عن أبـي روق، عن الضحاك وَنَفَخْتُ فِـيهِ مِنْ رُوحي قال: من قدرتـي.

فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ يقول: فـاسجدوا له وخِرّوا له سُجّدا.

٧٣

و قوله: فَسَجدَ الـمَلاِئكَةُ كُلّهُمْ أجمَعُونَ

يقول تعالـى ذكره: فلـما سوّى اللّه خـلق ذلك البشر، وهو آدم، ونفخ فـيه من روحه، سجد له الـملائكة كلهم أجمعون، يعني بذلك: الـملائكة الذين هم فـي السموات والأرض

٧٤

إلاّ إبْلِـيسَ اسْتَكْبَرَ يقول: غير إبلـيس، فإنه لـم يسجد، استكبر عن السجود له تعظما وتكبرا وكانَ مِنَ الكافِرِينَ يقول: وكان بتعظّمه ذلك، وتكبره علـى ربه ومعصيته أمره، مـمن كفر فـي علـم اللّه السابق، فجحد ربوبـيته، وأنكر ما علـيه الإقرار له به من الإذعان بـالطاعة، كما:

٢٣٠٩٢ـ حدثنا أبو كُرَيب، قال: قال أبو بكر فـي: إلاّ إبْلِـيسَ اسْتَكْبَرَ وكانَ مِنَ الكافِرِينَ قال: قال ابن عباس : كان فـي علـم اللّه من الكافرين.

٧٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ يَإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}.

يقول تعالـى ذكره: قالَ اللّه لإبلـيس، إذ لـم يسجد لاَدم، وخالف أمره: يا إبْلِـيسُ ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ يقول: أيّ شيء منعك من السجود لِـما خَـلَقْتُ بِـيَدَيّ يقول: لـخـلق يديّ يخبر تعالـى ذكره بذلك أنه خـلق آدم بـيديه، كما:

٢٣٠٩٣ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرنـي عبـيد الـمكتب، قال: سمعت مـجاهد ا يحدّث عن ابن عمر، قال: خـلق اللّه أربعة بـيده: العرش، وعَدْن، والقلـم، وآدم، ثم قال لكلّ شي كن فكان.

و قوله: أسْتَكْبَرْتَ يقول لإبلـيس: تعظّمت عن السجود لاَدم، فتركَت السجود له استكبـارا علـيه، ولـم تكن من الـمتكبرين العالـين قبل ذلك أمْ كُنْتَ مِنَ العالِـينَ يقول: أم كنت كذلك من قبل ذا علوّ وتكّبر علـى ربك

٧٦

قالَ أنا خَيْرٌ مِنْهُ خَـلَقْتَنِـي مِنْ نارٍ

يقول جلّ ثناؤه: قال إبلـيس لربه: فعلت ذلك فلـم أسجد للذي أمرتنـي بـالسجود له لأنـي خير منه وكنت خيرا لأنك خـلقتنـي من نار وخـلقته من طين، والنار تأكل الطين وتُـحرقه، فـالنار خير منه، يقول: لـم أفعل ذلك استكبـارا علـيك، ولا لأنـي كنت من العالـين، ولكنـي فعلته من أجل أنـي أشرف منه وهذا تقريع من اللّه للـمشركين الذين كفروا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وأبَوا الانقـياد له، واتبـاع ما جاءهم به من عند اللّه استكبـارا عن أن يكونوا تبعا لرجل منهم حين قالُوا: أأُنْزِلَ عَلَـيْهِ الذّكْرُ مِنْ بَـيْنِنا وهَلْ هَذَا إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فقصّ علـيهم تعالـى ذكره قصة إبلـيس وإهلاكه بـاستكبـاره عن السجود لاَدم بدعواه أنه خير منه، من أجل أنه خـلق من نار، وخـلق آدم من طين، حتـى صار شيطانا رجيـما، وحقت علـيه من اللّه لعنته، مـحذّرهم بذلك أن يستـحقوا بـاستكبـارهم علـى مـحمد، وتكذيبهم إياه فـيـما جاءهم به من عند اللّه حسدا، وتعظما من اللعن والسخط ما استـحقه إبلـيس بتكبره عن السجود لاَدم.

٧٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنّكَ رَجِيمٌ }.

يقول تعالـى ذكره لإبلـيس: فـاخْرُجْ مِنْها يعني من الـجنة فإنّكَ رَجِيـمٌ يقول: فإنك مرجوم بـالقوم، مشتوم ملعون، كما:

٢٣٠٩٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: فـاخْرُجْ مِنْها فإنّكَ رَجِيـمٌ قال: والرجيـم: اللعين.

٢٣٠٩٥ـ حُدثت عن الـمـحاربـيّ، عن جُوَيبر، عن الضحاك بـمثله.

٧٨

و قوله: وَإنّ عَلَـيْكَ لَعْنَتِـي يقول: وإن لك طردي من الـجنة إلـى يَوْمِ الدّينِ يعني : إلـى يوم مـجازاة العبـاد ومـحاسبتهم

٧٩

قال رَبّ فأنْظِرْنِـي إلـى يَوْمِ يُبْعَثُونَ

يقول تعالـى ذكره: قال إبلـيس لربه: ربّ فإذ لعنتنـي، وأخرجتنـي من جنتك فأنْظِرْنِـي يقول: فأخّرنـي فـي الأجل، ولا تهلكنـي إلـى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يقول: إلـى يوم تَبْعَثُ خـلقك من قبورهم.

٨٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قَالَ فَإِنّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ

يقول تعالـى ذكره: قال اللّه لإبلـيس: فإنك مـمن أنظرته

٨١

إلـى يوم الوقت الـمعلوم، وذلك الوقت الذي جعله اللّه أجلاً لهلاكه. وقد بـيّنت وقت ذلك فـيـما مضى علـى اختلاف أهل العلـم فـيه و

٨٢

قال فَبِعِزّتِكَ لاَغْوِيَنّهُمْ أجمَعِينَ

يقول تعالـى ذكره: قال إبلـيس: فبعزّتك: أي بقدرتك وسلطانك وقهرك ما دونك من خـلقك لاَغْوِينّهُمْ أجمَعِينَ يقول: لأُضلّنّ بنـي آدم أجمعين

٨٣

إلاّ عِبـادَكَ مِنْهُمُ الـمُخْـلَصِينَ يقول: إلا من أخـلصته منهم لعبـادتك، وعصمتَه من إضلالـي، فلـم تـجعل لـي علـيه سبـيلاً، فإنـي لا أقدر علـى إضلاله وإغوائه.

٢٣٠٩٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قالَ فَبِعِزّتِكَ لأُغْوِينّهُمْ أجمَعِينَ قال: عَلِـم عدوّ اللّه أنه لـيست له عزّة.

٨٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{قَالَ فَالْحَقّ وَالْحَقّ أَقُولُ }.

اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: قالَ فـالـحَقّ والـحَقّ أقُولُ فقرأه بعض أهل الـحجاز وعامة الكوفـيـين برفع الـحقّ الأوّل، ونصب الثانـي. وفـي رفع الـحقّ الأوّل إذا قُرىء كذلك وجهان: أحدهما رفعه بضمير للّه الـحقّ، أو أنا الـحقّ وأقول الـحقّ. والثانـي: أن يكون مرفوعا بتأويـل

٨٥

قوله: لاَءَمَلأَنّ فـيكون معنى الكلام حينئذٍ: فـالـحقّ أن أملأ جهنـم منك، كما يقول: عزمة صادقة لاَتـينك، فرفع عزمة بتأويـل لاَتـينك، لأن تأويـله أن آتـيك، كما قال: ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ لَـيَسْجُنُنّهُ فلا بدّ ل قوله: بَدَا لَهُمْ من مرفوع، وهو مضمر فـي الـمعنى. وقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض الـمكيـين والكوفـيـين بنصب الـحقّ الأوّل والثانـي كلـيهما، بـمعنى: حقا لأملأن جهنـم والـحقّ أقول، ثم أدخـلت الألف واللام علـيه، وهو منصوب، لأن دخولهما إذا كان كذلك معنى الكلام وخروجهما منه سواء، كما سواء قولهم: حمدا للّه، والـحمد للّه عندهم إذا نصب. وقد يحتـمل أن يكون نصبه علـى وجه الإغراء بـمعنى: الزموا الـحقّ، واتبعوا الـحقّ، والأوّل أشبه لأن خطاب من اللّه لإبلـيس بـما هو فـاعل به وبتُبّـاعه. وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب أن يقال: إنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قرأة الأمصار، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، لصحة معنـيـيهما.

وأما الـحقّ الثانـي، فلا اختلاف فـي نصبه بـين قرّاء الأمصار كلهم، بـمعنى: وأقول الـحقّ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٣٠٩٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن مـجاهد ، فـي قوله: فـالـحَقّ والـحَقّ أقُولُ يقول اللّه : أنا الـحقّ، والـحقّ أقول.

٢٣٠٩٨ـ وحُدثت عن ابن أبـي زائدة، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد فـالـحَقّ والـحَقّ أقُولُ يقول اللّه : الـحقّ منـي، وأقول الـحقّ.

حدثنا أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، عن هارون، قال: حدثنا أبـان بن تغلب، عن طلـحة الـيامي، عن مـجاهد ، أنه قرأها فـالـحَقّ بـالرفع والـحَقّ أقُولُ نصبـا وقال: يقول اللّه : أنا الـحقّ، والـحقّ أقول.

٢٣٠٩٩ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، فـي قوله: الـحَقّ والـحَقّ أقُولُ قال: قسم أقسم اللّه به.

و قوله: لاَءَمْلأَنّ جَهَنّـمَ مِنْكَ يقول لإبلـيس: لأملأنّ جهنـم منك ومـمن تبعك من بنـي آدم أجمعين.

٨٦

و قوله: قُلْ ما أسأَلُكُمْ عَلَـيْهِ مِنْ أَجْرٍ

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : قل يا مـحمد لـمشركي قومك، القائلـين لك أأُنْزِلَ عَلَـيْهِ الذّكْرُ مِنْ بَـيْنِنا: ما أسألكم علـى هذا الذكر وهو القرآن الذي أتـيتكم به من عند اللّه أجرا، يعني ثوابـا وجزاء وما أنا مِنَ الـمُتَكَلّفِـينَ يقول: وما أنا مـمن يتكلف تـخرّصَه وافتراءه، فتقولون: إنْ هَذَا إِلاّ إفْكٌ افَتَراهُ و إنْ هَذَا إلاّ اخْتِلاَقٌ كما:

٢٣١٠٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: قُلْ ما أسألُكُمْ عَلَـيهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أنا مِنَ الـمُتَكَلّفِـينَ قال: لا أسألكم علـى القرآن أجرا تعطونـي شيئا، وما أنا من الـمتكلفـين أتـخرّص وأتكلف ما لـم يأمرنـي اللّه به.

٨٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ }.

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم : قل لهؤلاء الـمشركين من قومك: إنْ هُوَ يعني : ما هذا القرآن إلاّ ذِكْرٌ يقول: إلا تذكير من اللّه للْعالَـمِينَ من الـجنّ والإنس، ذكرهم ربهم إرادة استنقاذ من آمن به منهم من الهَلَكة.

و قوله: وَلَتَعْلَـمُنّ نَبأَهُ بَعحدَ حِينٍ يقول: ولتعلـمنّ أيها الـمشركون بـاللّه من قُرَيش نبأه، يعني : نبأ هذا القرآن، وهو خبره، يعني حقـيقة ما فـيه من الوعد والوعيد بعد حين. وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٣١٠١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَلَتَعْلَـمُنّ نَبأَهُ قال: صدق هذا الـحديث نبأ ما كذّبوا به. و

قـيـل: نبأه حقـيقة أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم أنه نبـيّ.

ثم اختلفوا فـي مدة الـحِين الذي ذكره اللّه فـي هذا الـموضع: ما هي، وما نهايتها؟ فقال بعضهم: نهايتها الـموت. ذكر من قال ذلك:

٢٣١٠٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَلَتَعْلَـمُنّ نَبأَهُ بَعْدَ حِينٍ: أي بعد الـموت وقال الـحسن: يا ابن آدم عند الـموت يأتـيك الـخبر الـيقـين.

وقال بعضهم: كانت نهايتها إلـى يوم بدر. ذكر من قال ذلك:

٢٣١٠٣ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، فـي

٨٨

 قوله: وَلَتَعْلَـمُنّ نَبأَهُ بَعْدَ حِينٍ قال: يوم بدر.

وقال بعضهم: يوم القـيامة. وقال بعضهم: نهايتها القـيامة. ذكر من قال ذلك:

٢٣١٠٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَلَتَعْلَـمُنّ نَبأَهُ بَعْدَ حِينٍ قال: يوم القـيامة يعلـمون نبأ ما كذّبوا به بعد حين من الدنـيا وهو يوم القـيامة. وقرأ: لِكُلّ نَبأٍ مُسْتَقَرٌ وَسَوْفَ تَعْلَـمُونَ قال: وهذا أيضا الاَخرة يستقرّ فـيها الـحقّ، ويبطُل البـاطل.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن اللّه أعلـم الـمشركين الـمكذّبـين بهذا القرآن أنهم يعلـمون نبأه بعد حين من غير حدّ منه لذلك الـحين بحدّ، وقد علـم نبأه من أحيائهم الذين عاشوا إلـى ظهور حقـيقته، ووضوح صحته فـي الدنـيا، ومنهم من علـم حقـيقة ذلك بهلاكه ببدر، وقبل ذلك، ولا حدّ عند العرب للـحين، لا يُجاوَز ولا يقصر عنه. فإذ كان ذلك كذلك فلا قول فـيه أصحْ من أن يطلَق كما أطلقه اللّه من غير حصر ذلك علـى وقت دون وقت. وبنـحو الذين قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٢٣١٠٥ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا أيوب، قال: قال عكرمة: سُئِلْت عن رجل حلف أن لا يصنع كذا وكذا إلـى حين، فقلت: إن من الـحين حينا لا يُدرك، ومن الـحين حِينٌ يُدرك، فـالـحين الذي لا يُدرك قوله: وَلَتَعْلَـمُنّ نَبأَهُ بَعْدَ حِينٍ، والـحين الذي يُدرك قوله: تُؤْتِـي أُكُلَها كُلّ حِينٍ بإذْن رَبّها وذلك من حين تُصْرَم النـخـلة إلـى حين تُطْلِع، وذلك ستة أشهر.

﴿ ٠