٤

القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَآئِكُمْ ...}.

يقول تعالى ذكره: والنساء اللاتي قد ارتفع طمعهنّ عن المحيض، فلا يرجون أن يحضن من نسائكم إنِ ارتبتم.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: إنِ ارْتَبْتُمْ فقال بعضهم: معنى ذلك: إن ارتبتم بالدم الذي يظهر منها لكبرها، أمن الحيض هو، أم من الاستحاضة، فعِدّتهنّ ثلاثة أشهر. ذكر من قال ذلك:

٢٦٥٣٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: إنِ ارْتَبْتُمْ إن لم تعلموا التي قعدت عن الحيضة، والتي لم تحض، فعدتهنّ ثلاثة أشهر.

٢٦٥٣١ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهريّ إنِ ارْتَبْتُمْ قال: في كبرها أن يكون ذلك من الكبر، فإنها تعتدّ حين ترتاب ثلاثة أشهر فأما إذا ارتفعت حيضة المرأة وهي شابة، فإنه يتأنى بها حتى ينظر حامل هي أم غير حامل؟ فإن استبان حملها، فأجلها أن تضع حملها، فإن لم يستبن حملها، فحتى يستبين بها، وأقصى ذلك سنة.

٢٦٥٣٢ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ قال: إن ارتبت أنها لا تحيض وقد ارتفعت حيضتها، أو ارتاب الرجال، أو قالت هي: تركتني الحيضة، فعدتهنّ ثلاثة أشهر إن ارتاب، فلو كان الحمل انَتَظر الحملَ حتى تنقضي تسعة أشهر، فخاف وارتاب هو، وهي أن تكون الحيضة قد انقطعت، فلا ينبغي لمسلمة أن تحبَس، فاعتدت ثلاثة أشهر، وجعل اللّه جل ثناؤه أيضا للتي لم تحض الصغيرة ثلاثة أشهر.

٢٦٥٣٣ـ حدثنا ابن عبد الرحيم البَرْقيّ، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: أخبرنا أبو معبد، قال: سُئل سليمان عن المرتابة، قال: هي المرتابة التي قد قعدت من الولد تطلق، فتحيض حيضة، فيأتي إبّان حيضتها الثانية فلا تحيض قال: تعتدّ حين ترتاب ثلاثة أشهر مستقبلة قال: فإن حاضت حيضتين ثم جاء إبان الثالثة فلم تحض اعتدّت حين ترتاب ثلاثة أشهر مستقبلة، ولم يعتدّ بما مضى.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن ارتبتم بحكمهنّ فلم تدروا ما الحكم في عدتهنّ، فإن عدتهنّ ثلاثة أشهر. ذكر من قال ذلك:

٢٦٥٣٤ـ حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا مطرف، عن عمرو بن سالم، قال: قال أبيّ بن كعب: يا رسول اللّه إن عِددا من عِدد النساء لم تذكر في الكتاب الصغار والكبار، وأولات الأحمال، فأنزل اللّه : وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ واللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ.

وقال آخرون: معنى ذلك: إن ارتبتم مما يظهر منهنّ من الدم، فلم تدروا أدم حيض، أم دم مستحاضة من كبر كان ذلك أو علة؟ ذكر من قال ذلك:

٢٦٥٣٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، عن عكرِمة، قال: إن من الريبة: المرأة المستحاضة، والتي لا يستقيم لها الحيض، تحيض في الشهر مرارا، وفي الأشهر مرّة، فعدتها ثلاثة أشهر، وهو قول قتادة .

وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال: عُنِي بذلك: إن ارتبتم فلم تدروا ما الحكم فيهنّ، وذلك أن معنى ذلك لو كان كما قاله من قال: إن ارتبتم بدمائهنّ فلم تدروا أدم حيض، أو استحاضة؟ ل

قيل: إن ارتبتنّ لأنهنّ إذا أشكل الدم عليهنّ فهنّ المرتابات بدماء أنفسهنّ لا غيرهنّ، وفي قوله: إن ارْتَبْتُمْ وخطابه الرجال بذلك دون النساء الدليل الواضح على صحة ما قلنا من أن معناه: إن ارتبتم أيها الرجال بالحكم فيهنّ وأخرى وهو أنه جل ثناؤه قال: وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إنِ ارْتَبْتُمْ واليائسة من المحيض هي التي لا ترجو محيضا للكبر، ومحال أن يقال: واللائي يئسن، ثم يقال: ارتبتم بيأسهنّ، لأن اليأس: هو انقطاع الرجاء والمرتاب بيأسها مرجوّ لها، وغير جائز ارتفاع الرجاء ووجوده في وقت واحد، فإذا كان الصواب من القول في ذلك ما قلنا، فبين أن تأويل الاَية: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم بالحكم فيهنّ، وفي عِددهنّ، فلم تدروا ما هنّ، فإن حكم عددهنّ إذا طلقن، وهنّ ممن دخل بهنّ أزواجهنّ، فعدتهنّ ثلاثة أشهر وَاللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ يقول: وكذلك عدد اللائي لم يحضن من الجواري لصغر إذا طلقهنّ أزواجهنّ بعد الدخول. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٢٦٥٣٦ـ حدثنا محمد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ في قوله: وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحيضِ مِنْ نِسائِكُمْ يقول: التي قد ارتفع حيضها، فعدتها ثلاثة أشهر واللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ قال: الجواري.

٢٦٥٣٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحيضِ مِنْ نِسائِكُمْ وهنّ اللواتي قعدن من المحيض فلا يحضن، واللائي لم يحضن هنّ الأبكار التي لم يحضن، فعدتهنّ ثلاثة أشهر.

٢٦٥٣٨ـ حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ... الاَية، قال: القواعد من النساء واللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ: لم يبلغن المحيض، وقد مُسِسْن، عدتهنّ ثلاثة.

و قوله: وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ في انقضاء عدتهنّ أن يضعن حملهنّ، وذلك إجماع من جميع أهل العلم في المطلقة الحامل، فأما في المتوفي عنها ففيها اختلاف بين أهل العلم.

وقد ذكرنا اختلافهم فيما مضى من كتابنا هذا، وسنذكر في هذا الموضع ما لم نذكره هنالك.

ذكر من قال: حكم قوله وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ عام في المطلّقات والمتوفي عنهنّ.

٢٦٥٣٩ـ حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصريّ، قال: حدثنا سعيد ابن أبي مريم، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: ثني ابن شبرمة الكوفي، عن إبراهيم، عن علقمة، عن قيس أن ابن مسعود قال: من شاء لاعنته، ما نزلت: وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ إلا بعد آية المتوفي عنها زوجها، وإذا وضعت المتوفي عنها فقد حلت يريد بآية المتوفي عنها: وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزْوَاجا يَترَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ أرْبَعَةَ أشْهِرٍ وعَشْرا.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا مالك، يعني ابن إسماعيل، عن ابن عيينة، عن أيوب، عن ابن سيرين عن أبي عطية قال: سمعت ابن مسعود يقول: من شاء قاسمته نزلت سورة النساء القُصْرَى بعدها، يعني بعد أربعة أشهر وعشرا.

٢٦٥٤٠ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا أيوب، عن محمد، قال: لقيت أبا عطية مالك بن عامر، فسألته عن ذلك، يعني عن المتوفي عنها زوجها إذا وضعت قبل الأربعة الأشهر والعشر، فأخذ يحدثني بحديث سُبيعة، قلت: لا، هل سمعت من عبد اللّه في ذلك شيئا؟ قال: نعم، ذكرت ذات يوم أو ذات ليلة عند عبد اللّه ، فقال: أرأيت إن مضت الأربعة الأشهر والعشر ولم تضع أقد أحلّت؟ قالوا: لا، قال: أفتجعلون عليها التغليظ، ولا تجعلون لها الرخصة، فواللّه لأنزلت النساء القُصْرَى بعد الطّولى.

٢٦٥٤١ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن عون، قال: قال الشعبيّ: من شاء حالفته لأنزلت النساء القُصْرَى بعد الأربعة الأشهر والعشر التي في سورة البقرة.

٢٦٥٤٢ـ حدثني أحمد بن منيع، قال: حدثنا محمد بن عبيد، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبيّ، قال: ذكر عبد اللّه بن مسعود آخر الأجلين، فقال: من شاء قاسمته باللّه أن هذه الاَية التي أنزلت في النساء القُصْرَى نزلت بعد الأربعة الأشهر، ثم قال: أجل الحامل أن تضع ما في بطنها.

/ ٢٦٥٤٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مُغيرة، قال: قلت للشعبي: ما أصدّق أن عليا رضي اللّه عنه كان يقول: آخر الأجلين أن لا تتزوّج المتوفي عنها زوجها حتى يمضي آخر الأجلين قال الشعبيّ: بلى وصدق أشدّ ما صدّقت بشيء قط وقال عليّ رضي اللّه عنه: إنما قوله وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ المطلقات، ثم قال: إن عليا رضي اللّه عنه وعبد اللّه كانا يقولان في الطلاق بحلول أجلها إذا وضعت حملها.

٢٦٥٤٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا موسى بن داود، عن ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن أُبيّ بن كعب، قال: لما نزلت هذه الاَية: وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ قال: قلت: يا رسول اللّه ، المتوفي عنها زوجها والمطلقة، قال: (نَعَمْ) .

حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا مالك بن إسماعيل، عن ابن عيينة، عن عبد الكريم بن أبي المخارق، يحدّث عن أُبيّ بن كعب، قال: سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ قال: (أجَلُ كُلّ حامِل أنْ تَضَعَ ما في بَطْنِها) .

٢٦٥٤٥ـ حدثني محمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسباط، قوله وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ قال: للمرأة الُحْبَلى التي يطلقها زوجها وهي حامل، فعدتها أن تضع حملها.

٢٦٥٤٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ فإذا وضعت ما في رحمها فقد انقضت عدتها، ليس المحيض من أمرها في شيء إذا كانت حاملاً.

وقال آخرون: ذلك خاصّ في المطلقات، وأما المتوفي عنها فإن عدتها آخر الأجلين، وذلك قول مرويّ عن عليّ وابن عباس رضي اللّه عنهما.

وقد ذكرنا الرواية بذلك عنهما فيما مضى قبل.

والصواب من القول في ذلك أنه عامّ في المطلقات والمتوفي عنهنّ، لأن اللّه جل وعزّ، عمّ بقوله بذلك فقال: وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ ولم يخصص بذلك الخبر عن مطلقة دون متوفي عنها، بل عمّ الخبر به عن جميع أولات الأحمال. إن ظنّ ظانّ أن قوله وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ في سياق الخبر عن أحكام المطلقات دون المتوفي عنهنّ، فهو بالخبر عن حكم المطلقة أولى بالخبر عنهنّ، وعن المتوفي عنهنّ، فإن الأمر بخلاف ما ظنّ، وذلك أن ذلك وإن كان في سياق الخبر عن أحكام المطلقات، فإنه منقطع عن الخبر عن أحكام المطلقات، بل هو خبر مبتدأ عن أحكام عدد جميع أولات الأحمال المطلقات منهنّ وغير المطلقات، ولا دلالة على أنه مراد به بعض الحوامل دون بعض من خبر ولا عقل، فهو على عمومه لما بيّنا.

و قوله: وَمَنْ يَتّقِ اللّه يَجْعَلْ لَه مِنْ أمْرِهِ يُسْرا

يقول جلّ ثناؤه: ومن يخَفِ اللّه فرهِبَهُ، فاجتنب معاصيه، وأدّى فرائضه، ولم يخالف إذنه في طلاق امرأته، فإنه يجعل اللّه له من طلاقه ذلك يسرا، وهو أن يسهل عليه إن أراد الرخصة لاتباع نفسه إياها الرجعة ما دامت في عدتها وإن انقضت عدتها، ثم دعته نفسه إليها قدر على خطبتها.

﴿ ٤