تفسير البحر المحيط

محمد بن يوسفبن علي بن يوسف بن حيان

أبو حيان الأندلسي

المالكي (ت ٧٤٥ ه ـ١٣٤٤ م)

بسم اللّه الرحمن الرحيم

مقدمة المؤلف

قال الشيخ الإمام العالم العلامة . البحر الفهامة . المحقق المدقق . حجة وقدوة النحاة والأدباء . الأستاذ  أبو عبد اللّه محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي الجياني - رحمه اللّه تعالى - وأمتع بعلومه المسلمين آمين .

الحمد للّهمبدئ صور المعارف الربانية في مرايا العقول ، ومبرزها من محال الأفكار إلى محال المقول ، وحارسها بالقوتين الذاكرة للمنقول ، والمفكرة للمعقول ، ومفيض الخير عليها من نتيجة مقدمات الوجود ، السائر روح قدسه في بطون التهائم وظهور النجود ، المبرز في الاتصالات الإلهية والمواهب الربانية على كل موجود ، محمد ذي المقام المحمود ، والحوض المورود ، المبتعث بالحق للأنام داعياً ، وبالطريق الأنهج إلى دار الإسلام منادياً ، الصادع بالحق ، الهادي للخلق ، المخصوص بالقرآن المبين ، والكتاب المستبين ، الذي هو أعظم المعجزات ، وأكبر الآيات البينات ، السائرة في الآفاق ، الباقي بقاء الأطواق في الأعناق ، الجديد على تقادم الأعصار ، اللذيد على توالي التكرار ، الباسق في الإعجاز إلى الذروة العليا ، الجامع المصالح الآخرة والدنيا ، الجالي بأنواره ظلم الإلحاد ، الحالي بجواهر معانيه طلى الأجياد ، صلى اللّه على من أنزل عليه ، وأهدى أرج تحية وأزكاها إليه ، وعلى آله المختصين بالزلفى لديه ، ورضي اللّه عن صحبه الذين نقلوا عنه كتاب اللّه أداء عرضا ، وتلقوه من فيه جيناً وغضاً ، وأدوه إلينا صريحاً مخصاً ، وبعد فإن المعارف جمة ، وهي كلها مهمة ، وأهمها ما به الحياة الأبدية ، والسعادة السرمدية ، وذلك علم كتاب اللّه هو المقصود بالذات ، وغيره من العلوم كالأدوات ، هو العروة الوثقى ، والوزر الأقوى الأوقى ، والحبل المتين ، والصراط المبين ، وما زال يختلج في ذكري ، ويعتلج في فكري ، أني إذا بلغت الأمد الذي يتغضد فيه الأديم ، ويتنغص برؤيتي النديم ، وهو العقد الذي يحل عرى الشباب ، المقول فيه إذا بلغ الرجل الستين .

فإياه وإيا الشواب ألوذ بجناب الرحمن وأقتصر على النظر في تفسير القرآن ، فأتاح اللّه لي قبل بلوغ ذلك العقد ، وبلغني ما كنت أروم من ذلك القصد ، وذلك بانتصابي مدرساً في علم التفسير في قبة السلطان الملك المنصور قدس اللّه مرقده ، وبل بمزن الرحمة معهده ، وذلك في دولة ولده السلطان القاهر ، الملك الناصر ، الذي رد اللّه به الحق إلى أهله ، وأسبغ على العالم وارف ظله ، واستنقذ به الملك من غصابه ، وأقره في منيف محله وشريف نصابه ، وكان ذلك في أواخر سنة عشر وسبعمائة ، وهي أوائل سنة سبع وخمسين من عمري فعكفت على تصنيف هذا الكتاب ، وانتخاب الصفو واللباب ، أجيل الفكر فيما وضع الناس في تصانيفهم ، وأنعم النظر فيما اقترحوه من تآليفهم ، فألخص مطولها ، وأحل مشكلها وأقيد مطلقها ، وأفتح مغلها ، وأجمع مبددها ، وأخلص منقدها ، وأضيف إلى ذلك ما استخرجته القوة المفكرة من لطائف علم البيان ، المطلع على إعجاز القرآن ، ومن دقائق علم الإعراب ، المغرب في الوجوه أي إغراب ، المقتنص في الأعمار الطويلة من لسان العرب ، وبيان الأدب ، فكم حوى من لطيفة فكري مستخرجها ، ومن غريبة ذهني منتجها ، تحصلت بالعكوف على علم العربية ، والنظر في التراكيب النحوية ، والتصرف في أساليب النظم والنثر ، والتقلب في أفانين الخطب والشعر ، لم يهتد إلى إثارتها ذهن ، ولاصاب بريقها مزن ، وأني ذلك وهي أزاهر خمائل غفل ، ومناظر ما لمستغلق أبوابها من قفل ، في إدراك مثلها تتفاوت الأفهام ، وتتبارى الأوهام ، وليس العلم على زمان مقصوراً ، ولا في أهل زمان محصوراً ، بل جعله اللّه حيث شاء من البلاد ، وبثه في التهائم والنجاد ، وأبرزه أنواراً تتوسم ، وأزهاراً تتنسم ، وما زال المغربي الأندلسي ، على بعده من مهبط الوحي النبوي ، علماء بالعلوم الإسلامية وغيرها كملة ، وفهماء تلاميذ لهم دراة نقلة ، يروون فيروون ويسقون فيرتوون ، وينشدون فينشدون ، ويهدون فيهدون ، هذا وإن اختلفوا في مدارك العلوم ، وتباينوا في المفهوم ، فكل منهم له مزية لا يجهل قدرها ، وفضيلة لا يسر بدرها ، ومما برعوا فيه علم الكتاب ، انفردوا باقرائه مد أعصار دون غيرهم من ذوي الآداب ، أثاروا كنوزه ، وفكوا رموزه ، وقربوا قاصيه ، وراضوا عاصيه وفتحوا مقفله ، وأوضحوا مشكلة ، وأنهجوا شعابه ، وذللوا صعابه ، وأبدوا معانيه في صورة التمثيل ، وأبدعوه بالتركيب والتحليل ، فالكتاب هو المرقاة إلى فهم الكتاب ، إذ هو المطلع على علم الأعراب ، والمبدي من معالمه ما درس ، والمنطق من لسانه ما خرس ، والمحيي من رفاته ما رمس ، والراد من نظائره ما طمس ، فجدير لمن تاقت نفسه إلى علم التفسير ، وترقت إلى التحقيق فيه والتحرير ، أن يعتكف على كتاب  سيبويه ، فهو في هذا الفن المعول عليه ، والمستند في حل المشكلات إليه ، ولم ألق في هذا الفن من يقارب أهل قطرنا الأندلسي فضلاً عن المماثلة ، ولا من يناضلهم فيداني في المناضلة ، وما زلت من لدن ميزت أتلمذ للعلماء ، وأنحاز للفهماء ، وأرغب في مجالسهم ، وأنافس في نفائسهم ، وأسلك طريقهم ، وأتبع فريقهم ، فلا أنتقل إلا من إمام إلى إمام ، ولا أتوقل إلا ذروة علام ، فكم صدر أودعت علمه صدري ، وحبر أفنيت في فوائده حبري ، وإمام أكثرت به الإمام الإلمام ، وعلام أطلت معه الاستعلام ، أشنف المسامع بما تحسد عليه العيون ، وأذيل في تطلاب ذلك المال المصون ، وأرتع في رياض وارفة الظلال ، وأكرع في حياض صافية السلسال ، وأقتبس بها من أنوارهم ، وأقتطف من أزهارهم ، وأبتلج من صحفاتهم ، وأتأرج من نفحاتهم ، وألقط من نثارهم ، وأضبط من فضالة إيثارهم ، وأقيد من شورادهم ، وأنتقي من فرائدهم ، فجعلت العلم والنهار ، سحيري ، وبالليل سميري ، زمان غيري يقصر ساريه على الصبا ، ويهب للّهو ولا كهبوب الصبا ، ويرفل في مطارف اللّهو ، ويتقمص أردية الزهو ، وبؤثر مسراتك الأشباح ، على لذات الأرواح ، ويقطع نفائس الأوقات ، في خسائس الشهوات ، من مطعم شهي ، ومشرب روي ، وملبس بهي ، ومركب خطي ، ومفرش وطي ، ومنصب سني ، وأنا أتوسد أبواب العلماء ، وأتقصد أماثل الفهماء ، وأسهر في حنادس الظلام ، وأصبر على شظف الأيام ، وأوثر العلم على الأهل والمال والولد ، وأرتحل من بلد إلى بلد ، حتى ألقيت بمصر عصا التسيار ، وقلت : ما بعد عبادان من دار ، هذه مشارق الأرض ومغاربها ، وبها طوالع شموسها وغواربها ، بيضة الإسلام ، ومستقر الأعلام ، فأقمت بها المعرفة أبديها ، وعارفة علم أسديها ، وثأي أرأبه ، وفاضل أصحبه ، وبها صنفت تصانيفي ، وألفت تآليفي ، ومن بركاتها على تصنيفي لهذا الكتاب ، المقرب من رب الأرباب ، الْمَرْجُوِّ أن يكون نوراً يسعى بين يدي ، وستراً من النار يضفو علي ، فما لمخلوق بتأليفة قصدت ، ولا غير وجه اللّه به أردت ، جعلت كتاب اللّه والتدبير لمعانية أنيسي ، إذ هو أفضل مؤانس ، وسميري إذا أخلو لكتب ظلم الحنادس :

نعم السمير كتاب اللّه إن له

حلاوة هي أحلى من جنى الضرب

به فنون المعاني قد جمعن فما

يقتن من عجب إلا إلى عجب

أمر ، ونهي ، وأمثال ، وموعظة

وحكمة أودعت في أفصح الكتب

لطائف يجتليها كل ذي بصر

وروضة يجتنيها كل ذي أدب

منهجه في تأليف هذا الكتاب

وترتيبي في هذا الكتاب

أني أبتدئ أولاً بالكلام على مفردات الآية التي أفسرها لفظة فيما يحتاج إليه من اللغة والأحكام النحوية التي لتلك اللفظة قبل التركيب ، وإذا كان للكملة معنيان أو معان ذكرت ذلك في أول موضع فيه تلك الكلمة لينظر ما يناسب لها من تلك المعاني في كل موضع تقع فيه فيحمل عليه .

ثم أشرع في تفسير الآية ذاكراً سبب نزولها إذا كان لها سبب ، ونسخها ، ومناسبتها وارتباطها بما قبلها ، حاشداً فيها القراءات شاذها ومستعملها ، ذاكراً توجيه ذلك في علم العربية ، ناقلاً أقاويل السلف الخلف في فهم معانيها ، متكلماً على جليها وخفيها بحيث إني لا أغادر منها كلمة وإن اشتهرت حتى أتكلم عليها مبدياً ما فيها من غوامض الإعراب ، ودقائق الآداب من بديع وبيان ، مجتهداً أني لا أكرر الكلام في لفظ سبق ، ولا في جملة تقدم الكلام عليها ، ولا في آية فسرت ، بل أذكر في كثير منها الحوالة على الموضع الذي تلكم فيها على تلك اللفظة أو الجملة أو الآية ، وإن عرض تكرير فبمزيده فائدة ، ناقلاً الفقهاء الأربعة وغيرهم في الأحكام الشرعية مما فيه تعلق باللفظ القرآني ، محيلاً على الدلائل التي في كتب الفقه ، وكذلك ما نذكره من القواعد النحوية أحيل في تقررها والاستدلال عليها على كتب النحو ، وربما أذكر الدليل إذا كان الحكم غريباً أو خلاف مشهور ما قال معظم الناس ، بادئا بمقتضى الدليل وما دل عليه ظاهر اللفظ ، مرجحاً له لذلك ما لم يصد عن الظاهر ما يجب إخراجه به عنه ، منكباً في الأعراب عن الوجوه التي تنزه القرآن عنها ، مبيناً أنها مما يجب أن يعدل عنه ، وأنه ينبغي أن يحمل على أحسن إعراب وأحسن تركيب إذ كلام اللّه تعالى أفصح الكلام فلا يجوز فيه جميع ما يجوزه النحاة في شعر  الشماخ و  الطرماح وغيرهما من سلوك التقادير البعيدة ، والتراكيب القلقة ، والمجازات المعقدة ، ثم أختتتم الكلام في جملة من الآيات التي فسرتها إفراداً وتركيباً بما ذكروا فيها من علم البيان والبديع ملخصاً ، ثم أتبع آخر الآيات بكلام منثور ، أشرح به مضمون تلك الآيات ، على ما أختاره من تلك المعاني جملها في أحسن تلخيص ، وقد ينجر معها ذكر معان لم تتقدم في التفسير ، وصار ذلك أنموذجاً لمن يريد أن يسلك ذلك فيما بقي من سائر القرآن ، وستقف على هذا المنهج

الذي سلكته إن شاء اللّه تعالى ، وربما ألممت بشيء من كلام الصوفية مما فيه بعض مناسبة لمدلول اللفظ ، وتجنبت كثيراً من أقاويلهم ومعانيهم التي يحملونها الألفاظ . وتركت أقوال الملحدين الباطنية المخرجين الألفاظ القريبة عن مدلولاتها في اللغة إلى هذيان افتروه على اللّه تعالى ، وعلى علي كرم اللّه وجهه ، وعلى ذريته ، ويسمونه علم التأويل ، وقد وقفت على تفسير لبعض رؤوسهم ، وهو تفسير عجيب يذكر فيه أقاويل السلف مزدرياً عليهم ، وذاكراً أنه ما جهل مقالاتهم ، ثم يفسر هو الآية على شيء لا يكاد يخطر في ذهن عاقل ، ويزعم أن ذلك هو المراد من هذه الآية ، وهذه الطائفة لا يلتفت إليها ، وقد رد أئمة المسلمين عليهم أقاويلهم وذلك مقرر في علم أصول الدين ، نسأل اللّه السلامة في عقولنا وأدياننا وأبداننا ، وكثيراً ما يشحن المفسرون تفاسيرهم من ذلك الإعراب ، بعلل النحو ، ودلائل أصول الفقة ، ودلائل أصول الدين ، وكل هذا مقرر في تآليف هذه العلوم ، وإنما يؤخذ ذلك مسلماً في علم التفسير دون استدلال عليه ، وكذلك أيضاً ذكروا ما لا يصح من أسباب نزول ، وأحاديث في الفضائل ، وحكايات لا تناسب ، وتواريخ إسرائيلية ، ولا ينبغي ذكر هذا في علم التفسير ، ومن أحاط بمعرفة مدلول الكلمة وأحكامها قبل التركيب ، وعلم كيفية تركيبها في تلك اللغة ، وارتقى إلى تمييز حسن تركيبها وقبحه ، فلن يحتاج في فهم ما تركب من تلك الألفاظ إلى مفهم ولا معلم ، وإنما تفاوت الناس في إدراك هذا الذي ذكرناه ، فلذلك اختلفت أفهامهم ، وتباينت أقوالهم ، وقد جرينا الكلام يوماً مع بعض من عاصرنا ، فكان يزعم أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني تراكبيه ، بالإسناد إلى  مجاهد و  طاوس و  عكرمة وأضرابهم ، وأن فهم الآيات متوقف على ذلك ، والعجب له أنه يرى أقوال هؤلاء كثير ة الاختلاف ، متباينة الأوصاف ، متعارضة ينقض بعضها بعضاً ، ونظير ما ذكره هذا المعاصر أنه لو تعلم أحدنا مثلاً لغة الترك إفراداً وتركيباً حتى صار يتكلم بتلك اللغة ، ويتصرف فيها نثراً ونظماً ، ويعرض ما تعلمه على كلامهم فيجده مطابقاً للغتهم ، قد شارك فيها فصحاءهم ، ثم جاءه كتاب بلسان الترك ، فيحجم عن تدبره وعن فهم ما تضمنه من المعاني ، حتى يسأل عن ذلك  سنقرأ التركي  أو سنجراً ، ترى مثل هذا يعد من العقلاء ، وكان هذا المعاصر يزعم أن كل آية نثل فيها التفسير خلف عن سلف بالسند إلى أن وصل ذلك إلى الصحابة ، ومن كلامه أن الصحابة سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن تفسيرها هذا وهم العرب الفصحاء الذين نزل القرآن بلسانهم ، وقد روي : عن  علي كرم اللّه وجهه ، وقد سئل هل خصكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  بشيء ؟ فقال : ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة ، أو فهماً يؤتاه الرجل في كتابه ، وقول هذا المعاصر يخالف قول علي رضي اللّه عنه ، وعلى قول هذا المعاصر يكون ما استخرجه الناس بعد التابعين من علوم التفسير ومعانيه ودقائقة وإظهارا ما احتوى عليه من علم الفصاحة والبيان والإعجاز لا يكون تفسيراً ، حتى ينقل بالسند إلى مجاهد ونحوه وهذا كلام ساقط .

العلوم التي يحتاج إليها المفسر

وإذ قد جر الكلام إلى هذا فلنذكر ما يحتاج إليه علم التفسير من العلوم على الاختصار وننبه على أحسن موضوعات التي في تلك العلوم المحتاج إليها فيه فنقول :

النظر في تفسير كتاب اللّه تعالى يكون من وجوه :

الوجه الأول : علم اللغة أسماً وفعلاً وحرفاً ، الحروف لقلتها تكلم على معانيها النحاة فيؤخذ ذلك من كتبهم ، أما الأسماء والأفعال فيؤخذ ذلك من كتب اللغة ، وأكثر الموضوعات في علم اللغة كتاب  ابن سيده ، فإن الحافظ أبا محمد  علي بن أحمد الفارسي ذكر أنه في مائة سفر بدأ فيه بالفك وختم بالذرة ، ومن الكتب المطولة فيه كتاب  الأزهري ، و  الموعب لابن التياني ، وَالْمُحْكَمُ لِابْنِ سِيدَهْ، وَكِتَابُ الْجَامِعِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ التَّمِيمِيِّ الْقَيْرَوَانِيِّ، عُرِفَ بِالْقَزَّازِ، والصحاح للجوهري ، و  البارع لأبي على لقالي ، و  مجمع البحرين للصاغاني ، وقد حفظت في صغرى في علم اللغة كتاب الفصيح لأبي العباس أحمد بن يحيى الشيباني ، و  اللغات المحتوي عليها دواوين مشاهير العرب الستة :  امرئ القيس،  النابغة ، و  علقمة ، و  زهير ، و  طرفة ، و  عنترة ، وديوان  الأفوه الأودي

لحفظي عن ظهر قلب لهذه الدواوين ، وحفظت كثيراً من اللغات المحتوي عليها نحو الثلث من كتاب الحماسة ، واللغات التي تضمنها قصائد مختارة من شعر  حبيب بن أوس لحفظي ذلك ، ومن الموضوعات في الأفعال كتاب ابن القوطية ، وكتاب  ابن طريف ، وكتاب  السرقنطي المنبوز بالحمار ، ومن أجمعها كتاب  ابن القطاع.

الوجه الثاني : معرفة الأحكام التي للكلم العربية من جهة إفرادها ومن جهة تركيبها ويؤخذ ذلك من علم النحو ، وأحسن موضوع فيه وأجله كتاب  أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر سيبويه - رحمه اللّه تعالى - ، وأحسن ما وضعه المتأخرون من المختصرات ، وأجمعه للأحكام كتاب  تسهيل الفوائد لأبي عبد اللّه محمد بن مالك الجياني الطائي مقيم دمشق ، وأحسن ما وضع في التصريف كتاب  الممتع لأبي الحسن  علي بن مؤمن بن عصفور الحضرمي الإشبيلي رحمه اللّه تعالى ، وقد أخذت هذا الفن عن أستاذنا الأوحد العلامة أبي جعفر  أحمد بن

إبراهيم بن الزبير الثقفي في كتاب  سيبويه وغيره .

الوجه الثالث : كون اللفظ أو التركيب أحسن وأفصح ، ويؤخذ ذلك من علم البيان والبديع وقد صنف الناس في ذلك تصانيف كثيرة ، وأجمعها ما جمعه شيخنا الأديب الصالح أبو عبد اللّه  محمد بن سليمان النقيب ، وذلك في مجلدين قدمهما أمام كتابه في التفسير ، وما وضعه شيخنا الأديب الحافظ المتبحر أبو الحسن  حازم بن محمد بن حازم الأندلسي الأنصاري القرطاجني مقيم تونس المسمى  منهاج البلغاء وسراج الأدباء ، وقد أخذت جملة من هذا الفن عن أستاذنا أبي جعفر بن الزبير رحمه اللّه تعالى :

الوجه الرابع : تعيين مبهم ، وتبيين مجمل ، وسبب نزول ونسخ ، ويؤخذ ذلك من النقل الصحيح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذلك من علم الحديث ، وقد تضمنت الكتب والأمهات التي سمعناها ورويناه ذلك  كالصحيحين ، و  الجامع للترمذي ، و  سنن أبي داود ، و  سنن النسائي ، و  سنن ابن ماجة ، و  سنن الشافعي ، و  مسند الدارمي ، و  مسند الطيالسي ، و  مسند الشافعي ، و  سن الدار قطني ، و  معجم الطبراني الكبير ، و  المعجم الصغير له ، و  مستخرج أبي نعيم على مسلم وغير ذلك .

الوجه الخامس : معرفة الإجمال والتبيين ، والعموم والخصوص ، والإطلاق والتقييد ، ودلالة الأمر والنهي وما أشبه هذا ، ويختص أكثر هذا الوجه بجزء الأحكام من القرآن ، ويؤخذ هنا

من أصول الفقه ، ومعظمه هو في الحقيقة راجع لعلم اللغة ، إذ هو شيء يتكلم فيه على أوضاع العرب ، ولكن تكلم فيه غير اللغويين أو النحويين ومزجوه بأشياء من حجج العقول ، ومن أجمع ما في هذا الفن كتاب المحصول لأبي عبد اللّه محمد بن عمر الرازي ، وقد بحثت في هذا الفن في كتاب  الإشارة لأبي الوليد الباجي على الشيخ الأصولي الأديب  أبي الحسن فضل بن إبراهيم المعافري ، الإمام بجامع  غرناطة والخطيب به ، وعلى الأستاذ العلامة  أبي جعفر بن الزبير في كتاب  الإشارة وفي شرحها له وذلك بالأندلسي ، وبحثت أيضاً في هذا الفن على الشيخ  علم الدين عبد الكريم بن علي بن عمر الأنصاري المعروف بابن بنت العراقي في مختصره الذي اختصره من كتاب المحصول ، وعلى الشيخ  علاء الدين علي بن محمد بن عبد الرحمن بن خطاب الباجي في  مختصره الذي اختصره من كتاب  محصول ، وعلى الشيخ شمس الدين  محمد بن محمود الأصبهاني صاحب  شرح المحصول بحثت عليه في كتاب  القواعد من تأليفه رحمه اللّه تعالى .

الوجه السادس : الكلام فيما يجوز على اللّه تعالى وما يجب له وما يستحيل عليه ، والنظر في النبوة ويختص هذا الوجه بالآيات التي تضمنت النظر في الباري تعالى ، وفي الأنبياء ، وإعجاز القرآن ، ويؤخذ هذا من علم الكلام ، وقد صنف علماء الإسلام من سائر الطوائف في هذا كتباً كثيرة ، وهو علم إذ المزلة فيه والعياذ باللّه مفض إلى الخسران في الدنيا والآخرة ، وقد سمعت منه مسائل تبحث على الشيخ شمس الدسن الأصفهاني وغيره .

الوجه السابع : اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص ، أو تغيير حركة أو إتيان بلفظ بدل لفظ ، وذلك بتواتر وآحاد ويؤخذ هذا الوجه من علم القرآن ، وقد صنف علماؤنا في ذلك كتباً لا تكاد تحصى ، وأحسن الموضوعات في القراءات السبع : كتاب  الإقناع  لأبي جعفر بن الباذش ، وفي القراءات العشر كتاب  المصباح لأبي الكرم

الشهرزوري ، وقد قرأت القرآن بقراءة السبعة بجزيرة الأندلس على الخطيب أبي جعفر  أحمد بن علي بن محمد الرعيني عرف بابن الطباع بغرناطة ، وعلى الخطيب أبي محمد  وعبد الحق بن علي بن عبد لاله الأنصاري الوادي تشبتي  بمطحشارش ، من حضرة غرناطة وعلى غيرها بالأندلس ، وقرأت القرآن بالقراءات الثمان بثغر  الإسكندرية على الشيخ الصالح رشيد الدين أبي محمد عبد النصير بن علي بن يحيى الهمداني عرف بابن المربوطي ، وقرأت القرآن بالقراءات السبع بمصر حرسها اللّه تعالى الشيخ المسند العدل فخر الدين أبي الطاهر إسماعيل بن هبة اللّه بن علي المليجي ، وأنشأت في هذا العلم كتاب  عقد اللآليء قصيداً في عروض قصيد  الشاطبي ، ورويه يشتمل على ألف بيت وأربعة وأربعين بيتاً ، صرحت فيها بأسامي القراء من غير رمز ولا لغز ولا حوشي لغة ، وأنشأته من كتب تسعة كما

قلت :

تنظم هذا العقد من در تسعة

من الكتب فالتيسير عنوانه انجلى

بكاف لتجريد وهاد لتبصره

وإقناع تلخيصين مكملا

جنيت له أنسي لفظ لطيفة

وجانبت وحشياً كثيفاً معقلا

فهذه سبعة وجوه لا ينبغي أن يقدم على تفسير كتاب اللّه إلا من أحاط بجملة غالبها من كل وجه منها ، ومع ذلك فاعلم أنه لا يرتقي من علم التفسير ذروته ، ولا يمتطي منه صهوته ، إلا من كان متبحراً في علم اللسان ، مترقياً منه إلى رتبة الإحسان ، قد جبل طبعه على إنشاء النثر والنظم دون اكتساب ، وإبداء ما اخترعته فكرته السليمة في أبدع صورة وأجمل جلبات ، واستفرغ في ذلك زمانه النفيس ، وهجر الأهل والولد والأنيس ، ذلك الذي له في رياضه أصفى مرتع ، وفي حياضه أصفى مكرع ، يتنسم عرف أزاهر طال ما حجبتها الكمام . ويترشف كؤوس رحيق له المسلك ختام ، ويستوضح أنوار بدور سترتها كثائف الغمام ، ويستفتح أبواب مواهب الملك العلام ، يدرك إعجازك القرآن بالوجدان لا يالتقليد ، وينفتح له ما استغلق إذ بيده الإقليد ،

وأما من اقتصر على غير هذا من العلوم ، أو قصر في إنشاء المنثور والمنظوم ، فإنه بمعزل عن فهم غوامض الكتاب ، وعن إدراك لطائف ما تضمنه من العجب العجاب ، وحظه من علم التفسير إنما هو نقل أسطار ، وتكرار محفوظ على مر الأعصار ، ولبتاين أهل الإسلام في إدراك فصاحة وتوقل في معارف الآداب وقوانينها ، أدرك بالوجدان أن القرآن أتى في غاية من الفصاحة لا يوصل إليها ، ونهاية من البلاغة لا يمكن أن يحام عليها ، فمارضته عنده غير ممكنة للبشر ، ولا داخلة تحت القدر ، ومن لم يدرك هذا المدرك ، ولا سلك هذا المسلك ، رأى أنه من نمط كلام العرب ، وإن مثله مقدور لمنشىء الخطب ، فإعجازه عنده

إنما هو بصرف اللّه تعالى إياهم عن معارضته ومناضلته ، وإن كانوا قادرين على مماثلته ، والقائلون بأن الإعجاز وقع بالصرف هم من نقصان الفطرة الإنسانية في رتبة بعض النساء حين رأت زوجها يطأ جارية فعاتبته فأخبر أنه ما وطئها ، فقالت له إن كنت صادقاً فاقرا شيئاً من القرآن ، فأنشدها بيت شعر قاله ذكر اللّه فيه ورسوله فصدقته ، فلم تزرق من الرزق ما تفرق به بين كلام الخلق وكلام الحق .

وحكى لنا أستاذنا العلامة  أبو جعفر - رحمه اللّه تعالى - عن بعض من كان له معرفة بالعلوم القديمة ، ومعرفة بكثير من العلوم الإسلامية ، أنه كان يقول له يا أبا جعفر لا أدرك فرقاً بين القرآن وبين غيره من الكلام ، فهذا الرجل وأمثاله من علماء المسلمين يكون من الطائفة الذين يقولون بأن الإعجاز وقع بالصرفة ، وكان بعض شيوخنا من له تحقق بالمعقول ، وتصرف في كثير من المنقول ، إذا أراد أن يكتب فقرأ فصيحة أتى لبعض تلامذته وكلفة أن ينشئها له ، وكان بعض شيوخنا ممن له التبحر في علم لغة العرب إذا أسقط من بيت الشعر كلمة ، أو ربع البيت ، وكان المعين بدون ما أسقط لا يدرك ما أسقط من ذلك ، وأين هذا في الإدراك من آخر إذا حركت له مسكناً أو سكنت له محركاً في بيت أدرك ذلك بالطبع ، وقال إن هذا البيت مكسور ، ويدرك ذلك في أشعار العرب الفصحاء إذا كان فيه زحاف ما ، وإن كان جائزاً في كلام العرب ، لكن يجد مثل هذا طبعه ينبو عنه ويقلق لسماعه هذا وإن كان لا يفهم معنى البيت لكونه حوشء اللغات ، أو منطويا على حوشي ، فهذه كلها من مواهب اللّه تعالى لا تؤخذ باكتساب ، لكن الاكتساب يقويها وليس العرب متساوين في الفصاحة ، ولا في إدراك المعاني ولا في نظم الشعر ، بل فيهم من يكسر الوزن ومن لا ينظم ولا بيتاً واحداً ، ومن هو مقل من النظم ، وطباعهم كطباع سائر الأمم في ذلك ، حتى فحول شعرائهم يتفاوتون في الفصاحة ، وينفتح الشاعر منهم القصيدة حولاً حتى يسمى قصائد الحوليات فهم مختلفون في ذلك ، وكذلك كان بعض الكفار حين سمع القرآن أدرك إعجازه للوقت ، فوفق وأسلم ، وآخر أدرك إعجازه فكفر ، ولج في عناده بغيا أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء من عباده  [ البقرة : ٩٠ ] ، فنسبه تارة إلى الشعر وتارة إلى الكهانة والسحر ، وآخر لم يدرك إعجاز القرى ن كتلك المرأة العربية التي قدمنا ذكرها ، وكحال أكثر الناس فإنهم لا يدركون إعجاز القرآن من جهة الفصاحة ، ممن أدرك إعجازه فوق وأسلم بأول سماع سمعه  أبو ذر إعجازه وكفر عناداً  عتبة بن ربيعة ، وكان من عقلاء الكفار حتى كان يتوهم  أمية بن الصلت أنه هو يعني عتبة يكون النبي المنبعث في  قريش ، فلما بعث اللّه محمدً صلى اللّه عليه وسلم حسده عتبة ، وأضرابه مع علمهم بصدقة وأن ما جاء به معجز ، وكذلك  الوليد بن المغيرة ، روى عنه أنه قال لبني مخزوم : واللّه لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ، ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلى ، ومع هذا الاعتراف غلب عليه الحسد والأشر ، حتى قال ما حكى اللّه عنه { إن هذا إلا سحر يؤثر عن هذا إلا قول البشر } [ المدثر : ٢٥ ] وممن

لم يدرك إعجازه أو أدرك وعاند وعارض مسيلمة الكذاب ، أتى بكلمات زعم أنها أوحيت إليه انتهت في الفهاهة والعي والغثاثة بحيث صارت هزأة للسامع ، وكذلك  أبو الطيب المتنبي وقد ذكر القاضي أبو بكر محمد بن أبي الطيب الباقلاني في كتاب  الانتصار في إعجاز القرآن شيئاً من كلام أبي الطيب مما هو كفر ، وذكر لنا قاضي القضاة أبو الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري أن أبا الطيب أدعى النبوة ، واتبعه ناس من عبس وكلب وأنه اختلق شيئاً ادعى أنه أوحي إليه به سوراً سماها العبر ، وإن شعره لا يناسبها لجودة أكثرة ورداءتها كلها أو كلاما هذا معناه ، وإنما أتينا بهذه الجملة من الكلام ليعلم أن أذهان الناس مختلفة في الإدراك على ما شاء اللّه تعالى وأعطى كل أحد .

ولنبين .

الشروط الواجب توافرها في المفسر

إن علم التفسير ليس متوقفاً على علم النحو فقط كما يظنه بعض الناس ، بل أكثر العربية هم بمعزل عن التصرف في الفصاحة والتفنن في البلاغة ، ولذلك قلت تصانيفهم في علم التفسير ، وقل أن ترى نحوياً بارعاً في النظم والنثر ، كما قل أن ترى بارعاً في الفصاحة يتوغل في علم النحو ، وقد رأينا من ينسب للإمامة في علم النحو وهو لا يحسن أن ينطق بأبيات من أشعار العرب فضلاً عن أن يعرف مدلولها أو يتكلم على ما انطوت عليه من علم البلاغة والبيان فأنى لمثل هذا أن يتعاطى علم التفسير ، وللّه در أبي القاسم الزمخشري حيث قال في خطبة كتابه في  التفسير ما نصه .

إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح ، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح ، عن غرائب نكت يلطف مسلكها ، ومستودعات أسرار يدق سلكها ، علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه ، وأجالة النظر فيه ، كل ذي علم ، كما ذكر الجاحظ في كتاب  نظم القرآن ، فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام ، والمتكلم وإن بز أهل الدنيا في صناعة الكلام ، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه ، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه ، لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق ، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق ، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن ، وهما المعاني وعلم البيان ، وتمهل في ارتيادهما آونة ، وتعب في التنقير عنهما أزمنة ، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة اللّه ، وحرص على استيضاح معجزة رسول اللّه ، بعد أن يكون آخذاً من سائر العلوم بحظ ، جامعاً بين أمرين تحقيق وحفظ ، كثير المطالعات ، طويل المراجعات ، قد رجع زماناً ورجع إليه ، ورد ورد عليه ، فارساً في علم الإعراب ، مقدماً في جملة الكتاب ، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها ، مشتعل القريحة وقادها ، يقظان

النفس دراً كالمجة وإن لطف شأنها ، منتبهاً على الرمزة وإن خفي مكانها ، لا كزاً جاسياً ، ولا غليظاً جافياً ، متصرفاً ذا درية بأساليب النظم والنثر ، مرتاضاً غير ريض بتلقيح نبات الفكر ، قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف ، وكيف نظم ويرصف ، طالما دفع إلى مضايقه ، ووقع في مداحضة ومزالقه ، انتهى كلام  الزمخشري في وصف متعاطي تفسير القرآن ، وأنت ترى هذا الكلام وما احتوى عليه من الترصيف الذي يبهر بجنسه الأدباء ، ويقهر بفصاحته البلغاء ، وهو شاهد له بأهليته للنظر في تفسير القرآن ، واستخراج لطائف الفرقان . [ حديثه عن الزمخشري وابن عطية ]

وهذا  أبو القاسم محمود بن عمر المشرقي الخوارزمي الزمخشري ، و  أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي المغربي الغرناطي ، أجل من صنف في علم التفسير ، وأفضل من تعرض للتنقيح فيه والتحرير ، وقد اشتهرا ولا كاشتهار الشمس ، وخلدا في الأحياء وإن هدا في الرمس ، وكلامهما فيه يدل على تقديمها في علوم ، من منثور ومنظوم ، ومنقول ومفهوم ، وتقلب في فنون الآداب ، وتمكن من علمي المعاني والإعراب ، وفي خطبتي كتابيهما وفي غضون كتاب  الزمخشري ما يدل على أنهما فارسا ميدان ، وممارسا فصاحة وبيان ، وللزمخشري تصانيف غير تفسيره ، منها  الفائض في لغات الحديث ، و  مختلف الأسماء ومؤتلفها ، و  ربيع الأبرار ، و  الرائض في الفرائض ، و  المفصل وغير ذلك ، وقد ذكر الوزير أبو نصر الفتح بن خاقان الأشبيلي في كتابه المسمى  قلائد العقيان ومحاسن الأعيان أبا محمد بن عطية فقال فيه : نبعة روح العلا ، ومحرز ملابس الثنا ، فذ الجلالة ، وواحد العصر والأصالة ، وقار كما رسا الهضب وأدب كما اطرد السلسل العذب ، أثره في كل معرفة علم في رأسه نار ، وطوالعه في آفاقها صبح ونهار ، وقد أثبت من نظمه ما ينفخ عبيراً ، ويتضح منيراً ، وأورد له نثراً كما نظم قلائد ، ونظماً تزدان بمثله أجياد الولائد ، من ألفاظ عذبة تستنزل برقتها العصم ومعان مبتكرة تفحم الألد الخصم ، أبقت له ذكراً مخلداً على جبين الدهر ، وعرفاً أرجاً كتضوع الزهر ، ولما كان

كتاباهما في التفسير قد أنجدا وأغارا ، وأشرقا في سماء هذا العلم وأنارا ، وتنزلا من الكتب التفسيرية منزلة الإنسانية من العين ، والذهب الا بريز من العين ، ويتيمة الدر من اللالي ، وليلة القدر من الليالي ، فعكف الناس شرقا وغربا عليهما ، وثنوا أعنه الاعتناء إليهما ، وكان فيهما على جلالتهما مجال لانتقاد ذوي التبريز ، ومسرح للتخييل فيهما والتمييز ، ثنيت إليهما عنان الانتقاد ، وحللت ما تخيل الناس فيهما من الإعتقاد ، أنهما في التفسير الغاية التي لا تدرك ، والمسلك الوعر الذي لا يكاد يسلك ، وعرضتهما على محك النظر ، وأرويت فيهما نار الفكر ، حتى خلص دسيسهما ، وبرز نفيسهما ، وسيرى ذلك من هو للنظر أهل ، واجتمع فيه إنصاف وعدل ، فإنه يتعجب من التولج على الضراغم ، والتحرز لأشبالها والأنف راغم ، إذ هذان الرجلان هما فارسا علم التفسير ، وممارسا تحريره والتحبير ، نشراه نشراً ، وطار لهما به ذكراً ، وكانا متعاصرين في الحياة ، متقاربين في الممات { ولد أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الزمخشري }  بزمخشر قرية من قرى خوارزم يوم الأربعاء السابع عشر لرجب سنة سبع وستين وأربعمائة { وتوفي بكركانج } قصبة  خوارزم ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة { وولد أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن تمام بن عبد الرؤوف بن عبد اللّه بن تمام بن عطية المحاربي من أهل غرناطة } سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وتوفي بلورقة في الخامس والعشرين لرمضان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة هكذا ذكره القاضي ابن أبي جمرة في وفاة ابن عطية وقال الحافظ أبو القاسم بن بشكوال : توفي يعني  ابن عطية سنة اثنين وأربعين وخمسمائة ، وكتاب ابن عطية أنقل وأجمع وأخلص ، وكتاب الزمخشري ألخص وأغوص ، إلا أن الزمخشري قائل بالطفرة ، ومقتصر من الذؤابة على الوفرة ، فربما سنح له آبي المقادة فأعجزه اعتياصه ، ولم يمكنه لتأنيه اقتناصه ، فتركه عقلاً لمن يصطاده ، وغفلاً لمن يرتاده ، وربما ناقض هذا المنزع فثنى العنان إلى الواضح ، والسهل اللائح ، وأجال فيه كلاماً ، ورمى نحو غرضه سهاماً ، هذا مع ما في كتابه من نصره مذهبه ، وتقحم مرتكبه ، وتجشم حمل كتاب اللّه عز وجل عليه ، ونسبه ذلك إليه ، فمغتفر إساءته لإحسانه ، ومصفوح عن سقطه في بعض لإصابته في أكثر تبيانه . فما كان في كتابي هذا من تفسير الزمخشري رحمه اللّه تعالى فأخبرني به أستاذنا العلامة أبو

جعفر  أحمد بن إبراهيم بن الزبير قراءة مني عليه فيه ، وإجازة أيام كنت أبحث معه في كتاب سيبويه ، عن القاضي  ابن الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني عن  أبي طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر الخشوعي ح وأخبرني به عالياً  أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي عرف بابن البخاري في كتابه إلي من  دمشق عن  أبي طاهر الخشوعي وهو آخر من حدث عنه عن  الزمخشري ، وما كان في هذا الكتاب من تفسير  ابن عطية فأخبرني به القاضي الإمام  أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي ، قراءة مني عليه لبعضه ، ومناولة عن الحافظ  أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي ، قال أخبرنا أبو  القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللّه الأنصاري ، يعرف بابن حبيش ، قال أخبرنا به مصنفه قراءة عليه لجميعة ، وأخبرني به عالياً القاضي الأصولي المتكلم  أبو الحسن محمد بن القاضي الأصولي المتكلم  أبي عامر يحيى بن عبد الرحمن الأشعري نسباً ، ومذهباً إجازه كتبها لي بخطه  بغرناطة عن أبي الحسن علي بن أحمد بن علي الغافقي الشقوري بقرطبة ، وهو آخر من حدث عن  ابن عطية وهو آخر من روى عنه ، واعتمدت في أكثر نقول كتابي هذا على كتاب  التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير من جمع شيخنا الصالح القدوة الأديب  جمال الدين أبي عبد اللّه محمد بن سليمان بن حسن بن حسين المقدسي عرف  بابن النقيب - رحمه اللّه تعالى - إذ هو أكبر كتاب رأيناه صنف في علم التفسير ، يبلغ في العدد مائة سفر أو يكاد إلا أنه كثير التكرير ، قليل التحرير ، مفرط الإسهاب لم يعد جامعه من نسخ كتب في كتابه كذلك كان فيه بحال التهذيب ومراد الترتيب ، وهذا الكتاب روايتي بالإجازة من

جامعه رحمه اللّه تعالى ، وقد شاهدناه غير مرة حين جمعه يقول للناسخ اقرا علي فيقرأ عليه فيقول اكتب من كذا إلى كذا ، وينقل ما في كتب التفسير التي اعتمدها ، ويعزو أكثر المواضع ما ينقل منها إلى مصنف ذلك الكتاب ، وكان فيه فضيلة أدب وله نثر ونظم متوسط رحمه اللّه تعالى ورضي عنه { وقد تقدم أني قرأت كتاب اللّه تعالى على جماعة من المقرئين رحمهم اللّه تعالى } وأنا الآن أسند قراءتي القرآن ، من بعض الطرق وأذكر شيئاً مما ورد في القرآن وفضائله وتفسيره على سبيل الاختصار فأقول ، قرأت القرآن برواية  ورش وهي الرواية التي ننشأ عليها ببلادنا ونتعلمها أولاً في المكتب ، على المسند المعمر العدل أبي طاهر إسماعيل بن هبة اله بن علي المليجي بمصر ، وقرأتها على أبي الجود غياث بن فارس بن مكي المنذري بمصر ، وقرأتها على  أبي الفتوح ناصر بن الحسن بن إسماعيل الزيدي  بمصر ، وقرأتها على  أبي الحسن يحيى بن علي بن أبي الفرج الخشاب  بمصر ، وقرأتها علي ابن الحسن أحمد بن سعيد بن نفيس بمصر ، وقرأتها على  ابن عدي عبد العزيز بن علي بن محمد عرف بابن الإمام  بمصر ، وقرأتها على  أبي بكر بن عبد اللّه بن مالك بن سيف  بمصر ، وقرأتها على  أبي يعقوب بن يوسف بن عمرو بن سيار ويقال يسار الأزرق  بمصر ، وقرأتها على  أبي عمر وعثمان بن سعيد بن عدي الملقب بورش  بمصر ، وقرأتها على  أبي عبد الرحمن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم يمدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

{ ، وقرأ  نافع على  أبي جعفر يزيد بن القعقاع بمدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم } ،

وقرأ  يزيد على عبد اللّه بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي بمدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

{ ، وقرأ  عبد اللّه على  أبي المنذر أبي بن كعب بمدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم } ،

وقرأ  أبي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  ، هذا إسناد صحيح دائر بين مصري ومدني فمن شيخي إلى ورش مصريون ، ومن نافع إلى من بعده مدنيون ،  { ومثل هذا الإسناد عزيز الوجود بيني وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  ثلاثة عشرة رجلاً } ، وهذا من أعلي الأسانيد التي وقعت لي وقد وقع لي في بعض القراءات أن بيني وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  اثني عشر رجلاً ، وذلك في قراءة  عاصم وهي القراءة التي ينشأ عليها أهل العراق ، وهو إسناد أعلى ما وقع لأمثالنا ، وقرأت القرآن على  أبي الطاهر بن المليجي ، قال قرأت على  أبي الجود ، قال : قرأت على  أبي الفتوح الزيدي ، قال : قرأت على  أبي الحسن علي بن أحمد الأبهري ، قال : قرأت على  أبي محمد يحيى بن محمد بن قيس الأنصاري العليمي الكوفي ، قال قرأت على  أبي بكر بن عياش ، قال : قرأت على  عاصم ،

وقرأ  عاصم على  أبي عبد الرحمن عبد اللّه بن حبيب السلمي على  أبي بن كعب و  عثمان بن عفان و  علي بن أبي طالب و  عبد اللّه بن مسعود و  زيد بن ثابت ،

وقرأ هؤلاء الخمسة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  ؟

]ذكر فضائل القرآن [

{وأما ما ورد في القرآن وفضائله } فقد صنف الناس في ذلك  كأبي عبيد القاسم بن سلام وغيره .

{ ومما روي } أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  قال : إنه ستكون فتن كقطع الليل المظلم ، قيل : فما النجاة منها يا رسول اللّه ؟

قال : كتاب اللّه تعالى ، فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بنيكم ، وهو فصل ليس بالهزل ، من تركه تجبراً قصمه اللّه تعالى ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله اللّه تعالى ، وهو حبل اللّه المتين ، ونوره المبين ، والذكر الحكيم ، والصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تتشعب معه الآراء ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يمله الأتقياء ، من علم علمه سبق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن عصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم ، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن .

وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  : اتلوا هذا القرآن ، فإن اللّه تعالى يأجركم بالحرف عشر حسنات ، أما إني لا أقول ألم حرف ، ولكن الألف حرف ، واللام حرف ، والميم حرف .

وروي عنه صلى اللّه عليه وسلم  أنه قال في آخر خطبة خطبها وهو مريض : أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين ، إنه لن تعمى أبصاركم ، ولن تضل قلوبكم ، ولن تزل أقدامكم ، ولن تقصر أيديكم ، كتاب اللّه سبب بينكم وبينه ، طرفه بيده وطرفه بأيديكم ، فاعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه ، وأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، ألا وأهل بيتي وعترتي وهو الثقل الآخر ، فلا تسبوهم فتهلكوا .

وروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  أنه قال : من قرأ القرآن فرأى أن أحداً أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر ما عظم اللّه .

وعنه صلى اللّه عليه وسلم  أنه قال : ما من شفيع أفضل عند اللّه من القرآن لا نبي ولا ملك ، وعنه صلى اللّه عليه وسلم  أفضل عبادة أمتي القرآن ، وعنه صلى اللّه عليه وسلم  أنه قال : أشرف أمتي حملة القرآن .

وعنه صلى اللّه عليه وسلم  أنه قال : من قرأ مائة آية كتب من الفانتين ، ومن قرأ مائتي آية لم يكن من الغافلين ، ومن قرأ

ثلاثمائة آية لم يحاجه القرآن ، وعنه صلى اللّه عليه وسلم  أنه قال : القرآن شافع مشفع ، وما حل مصدق ، من شفع له القرآن نجا ، ومن محل به القرآن يوم القيامة أكبه اللّه لوجهه في النار ، وأحق من شفع له القرآن أهله وحملته ، وأولى من محل به القرآن من عدل عنه وضيعه .

وعنه صلى اللّه عليه وسلم  أنه قال : إن أصغر البيوت بيت صفر من كتاب اللّه تعالى .

وعنه صلى اللّه عليه وسلم  أنه قال : إن الذي يتعاهد القرآن ويشتد عليه له أجران ، والذي يقرأه وهو خفيف عليه مع السفرة الكرام البررة ، وعنه صلى اللّه عليه وسلم  أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه ، وقال قوم من الأنصار للنبي صلى اللّه عليه وسلم  : أم تر يا رسول اللّه  ثابت بن قيس لم تزل داره البارحة تزهر وحولها أمثال المصابيح ، فقال لهم فلعله قرأ سورة البقرة . فسئل  ثابت بن قيس فقال قرأت سورة البقرة ، وقد خرج البخاري في تنزيل الملائكة في الظلمة لصوت  أسيد بن حضير بقراءة سورة البقرة ، وقال  عقبة بن عامر عهد إلينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  في حجة الوداع فقال عليكم بالقرآن .

وسئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { عن أحسن الناس قراءة أو صوتاً بالقرآن ، فقال الذي إذا سمعته رأيته يخشى اللّه تعالى}.

]الترغيب في تفسير القرآن [

{ وأما ما ورد في تفسيره } فروى ابن عباس أن رجلاً سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم . فقال : أي علم القرآن أفضل ؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم  عربيته فالتمسوها في الشعر.

وقال أيضاً صلى اللّه عليه وسلم  : أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه ، فإن اللّه تعالى يحب أن يعرف ، وقد فسرت الحكمة من قوله تعالى { ومن يؤت الحمكة } [ البقرة : ٢٦٩ ] ، بأنها تفسير القرآن ، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة ، وقال  الحسن : أهلكتم العجمة يقرأ أحدهم الآية فيعيا بوجوهما حتى يفترى

على اللّه بها . وقال  ابن عباس : الذي يقرأ ولا يفسر كالأعرابي الذي يهذ الشعر ، ووصف علي  جابر بن عبد اللّه لكونه يعرف تفسير قوله تعالى { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } [ القصص ٨٥ ] ، ورحل  مسروق إلى  البصرة في تفسير آية فقيل له الذي يفسرها رجع إلى  الشام فتجهز ورحل إليه حتى علم تفسيرها ، وقال  مجاهد : أحب الخلق إلى اللّه تعالى أعلمهم بما أنزل .

{ وما روى } عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  من كونه لا يفسر من كتاب اللّه إلا أبا بعدد ، علمه إياهن جبرائيل عليه السلام محمول ذلك على مغيبات القرآن وتفسيره لمجمله ونحوه مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من اللّه تعالى .

{ وما روى } عنه صلى اللّه عليه وسلم  من قوله { من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ } محمول على من تسور على تفسيره برأيه دون النظر في أقوال العلماء ، وقوانين العلوم ، كالنحو واللغة والأصول وليس من اجتهد ففسر على قوانين العلم والنظر بداخل في ذلك الحديث ، ولا هو يفسر برأيه ، ولا يوصف بالخطا .

]المفسرون من الصحابة [

والمنقول عنه الكلام في تفسير القرآن من الصحابة جماعة ، منهم  علي بن أبي طالب ، و  عبد اللّه بن مسعود ، و  أبي بن كعب ، و  زيد بن ثابت ، و  عبد اللّه بن عمرو بن العاص ، فهؤلاء مشاهير من أخذ عنه التفسير من الصحابة رضي اللّه عنه تعالى عنهم ، وقد نقل عن غير هؤلاء غير ما شيء من التفسير .

] المفسرون من التابعين [

{ ومن المتكلمين } في التفسير من التابعين ،  الحسن بن أبي الحسن ، و  مجاهد بن جبر،

و  سعيد بن جبير ، و  علقمة ، و  الضحاك بن مزاحم ، و  السدي و  وأبو صالح ، وكان  الشعبي يطعن على  السدي و  أبي صالح ، لأنه كان يراهما مقصرين في النظر .

]منهج التفسير في العصور المتقدمة له والمتأخرة [

ثم تتابع الناس في التفسير وألفوا فيه التأليف ، وكانت تآليف المتقدمين أكثرها إنما هي شرح لغة ، ونقل سبب ، ونسخ ، وقصص ، لأنهم كانوا قريبي عهد بالعرب ، وبلسان العرب ، فلما فسد اللسان وكثرت العجم ، ودخل في دين الإسلام أنواع الأمم المختلفو الألسنة ، والناقصو الإدراك احتاج المتأخرون إلى إظهار ما انطوى عليه كتاب اللّه تعالى من غرائب التركيب ، وانتزاع المعاني وإبراز النكت البيانية ، حتى يدرك ذلك من لم تكن في طبعه ، ويكتسها من لم تكن نشأته عليها ، ولا عنصره يحركه إليها ، بخلاف الصحابة والتابعين من العرب ، فإن ذلك كان مركوزاً في طباعهم يدركون تلك المعاني كلها من غير موقف ولا معلم ، لأن ذلك لسانهم وخطتهم وبيانهم ، على أنهم كانوا يتفاوتون أيضاً في الفصاحة وفي البيان ، ألا ترى إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم  حين سمع كلام  عمرو بن الأهتم في  الزبرقان : إن من البيان لسحراً ، وقد أشرنا فيما تقدم إلى تفاوت العرب في الفصاحة .

]تعريف علم التفسير لغة واصطلاحاً [

وقد أن نشرع فيما قصدنا وننجز ما به وعدنا ونبدأ برسم لعلم التفسير فإني لم أقف لأحد من علماء التفسير على اسم له .

فنقول :

التفسير في اللغة : الاستبانة والكشف ، قال :  ابن دريد ومنه يقال للماء الذي ينظر فيه الطبيب تفسرة ، وكانه تسمية بالمصدر ، لأن مصدر فعل جاء أيضاً على تفعله نحو جرب تجربة وكرم تكرمة ، وإن كان القياس في الصحيح من فعل التفعيل ، كقوله تعالى { وأحسن تفسيراً } ، وينطلق أيضاً التفسير على التعرية للانطلاق ، قال  ثعلب تقول : فسرت الفرس عريته ، لينطلق في حضره ، وهو راجع لمعنى الكشف ، فكأنه كشف ظهره لهذا الذي يريده منه من الجري .

وأما الرسم في الاصطلاح : فنقول : التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك .

فقولنا : علم هو جنس يشمل سائر العلوم ، وقولنا : يبحث فيه عن كيفية النظق بألفاظ القرآن هذا هو علم القراءات ، وقولنا : ومدلولاتها أي مدلولات تلك الألفاظ وهذا هو علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم ، وقولنا : وأحكامها الإفرادية ، والتركيبية هذا يشمل علم التصريف وعلم الإعراب وعلم البيان وعلم البديع ومعانيها التي تحمل بها حالة التركيب شمل بقوله التي تحمل عليها ما لا دلالة عليه بالحقيقة وما دلالته عليه بالمجاز ، فإن التركيب قد يقضي بظاهره شيئاً ويصد عن الحمل على الظاهر صاد فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على الظاهر وهو المجاز ، وقولنا وتتمات لذلك ، هو معرفة النسخ ، وسبب النزول وقصة توضح بعض ما انبهم في القرآن ونحو ذلك .

توجد صفحة فارغة

سورة الفاتحة

١

{بسم اللّه الرحمن الرحيم } باء الجر تأتي لمعان : للإلصاق والاستعانة والقسم والسبب والحال والظرفية والنقل . والإلصاق : حقيقة مسحت برأسي ومجازا مررت بزيد . والاستعانة : ذبحت بالسكين . والسبب : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا النساء} والقسم : باللّه لقد قام . والحال : جاء زيد بثيابه . والظرفية : زيد بالبصرة . والنقل : قمت بزيد . وتأتي زائدة للتوكيد : شربن بماء البحر . والبدل : فليت لي بهم قوما أي بدلهم . والمقابلة : اشتريت الفرس بألف . والمجاوزة : تشقق السماء بالغمام الفرقان أي عن الغمام . والاستعلاء : من أن تأمنه بقنطار آل عمران . وكنى بعضهم عن الحال بالمصاحبة وزاد فيها كونها للتعليل . وكنى عن الاستعانة بالسبب وعن الحال بمعنى مع بموافقة معنى اللام . ويقال اسم بكسر همزة الوصل وضمها وسمي كهدي والبصري يقول : مادته سين وميم وواو والكوفي يقول : واو وسين وميم والأرجح الأول .

والاستدلال في كتاب النحو : أل للعهد في شخص أو جنس وللحضور وللمح الصفة وللغلبة وموصولة . فللعهد في شخص : جاء الغلام وفي جنس : اسقى الماء وللحضور : خرجت فإذا الأسد وللمح : الحارث وللغلبة : الدبران . وزائدة لازمة وغير لازمة فاللازمة : كالآن وغير اللازمة : باعد أم العمر من

أسيرها وهل هي مركبة من حرفين أم هي حرف واحد ؟ وإذا كانت من حرفين فهل الهمزة زائدة أم لا ؟ مذاهب . واللّه أعلم لا يطلق إلا على المعبود بحق مرتجل غير مشتق عند الأكثرين

وقيل مشتق ومادته قيل : لام وياء وهاء من لاه يليه ارتفع . قيل : ولذلك سميت الشمس إلاهه بكسر الهمزة وفتحها

وقيل : لام وواو وهاء من لاه يلوه لوها احتجب أو استنار ووزنه إذ ذاك فعل أو فعل

وقيل : الألف زائدة ومادته همزة ولام من أله أي فزع قاله ابن إسحاق أو أله تحير قاله أبو عمر وأله عبد قاله النضر أو أله سكن قاله المبرد . وعلى هذه الأقاويل فحذفت الهمزة اعتباطا كما قيل في ناس أصله أناس أو حذفت للنقل ولزم مع الإدغام وكلا القولين شاذ .

وقيل : مادته واو ولام وهاء من وله أي طرب وأبدلت الهمزة فيه من الواو نحو أشاح قاله الخليل و القناد وهو ضعيف للزوم البدل . وقولهم في الجمع آلهة وتكون فعالا بمعنى مفعول كالكتاب يراد به المكتوب . وأل في اللّه إذا قلنا أصله الإلاه قالوا للغلبة إذ الإله ينطلق على المعبود بحق وباطل واللّه لا ينطلق إلا على المعبود بالحق فصار كالنجم للثريا . وأورد عليه بأنه ليس كالنجم لأنه بعد الحذف والنقل أو الإدغام لم يطلق على كل إله ثم غلب على المعبود بحق ووزنه على أن أصله فعال فحذفت همزته عال . وإذا قلنا بالأقاويل السابقة فأل فيه زائدة لازمة وشذ حذفها في قولهم لاه أبوك شذوذ حذف الألف في أقبل سيل . أقبل جاء من عند اللّه . وزعم بعضهم أن أل في اللّه من نفس الكلمة ووصلت الهمزة لكثرة الاستعمال وهو اختيار أبي بكر بن العربي و السهيلي وهو خطأ لأن وزنه إذ ذاك يكون فعالا وامتناع تنوينه لا موجب له فدل على أن أل حرف داخل على الكلمة سقط لأجلها التنوين . وينفرد هذا الإسم بأحكام ذكرت في علم النحو ومن غريب ما قيل : إن أصله لاها بالسريانية فعرب قال :

كحلفة من أبي رباح

يسمعها لاهه الكبار

قال أبو يزيد البلخي : هو أعجمي فإن اليهود والنصارى يقولون لاها وأخذت العرب هذه اللفظة وغيروها فقالوا اللّه . ومن غريب ما قيل في اللّه أنه صفة وليس اسم ذات لأن اسم الذات يعرف به المسمى واللّه تعالى لا يدرك حسا ولا بديهة ولا تعرف ذاته باسمه بل إنما يعرف بصفاته فجعله اسما للذات لا فائدة في ذلك . وكان العلم قائما مقام الإشارة وهي ممتنعة في حق اللّه تعالى وحذفت الألف الأخيرة من اللّه لئلا يشكل بخط اللاه اسم الفاعل من لها يلهو

وقيل طرحت تخفيفا

وقيل هي لغة فاستعملت في الخط .

{الرحمن } : فعلان من الرحمة وأصل بنائه من اللازم من المبالغة وشذ من المتعدي وأل فيه للغلبة كهي في الصعق فهو وصف لم يستعمل في غير اللّه كما لم يستعمل اسمه في غيره وسمعنا مناقبه قالوا : رحمن الدنيا والآخرة ووصف غير اللّه به من تعنت الملحدين وإذا قلت اللّه رحمن ففي صرفه قولان ليسند أحدهما إلى أصل عام وهو أن أصل الإسم الصرف والآخر إلى أصل خاص وهو أن أصل فعلان المنع لغلبته فيه . ومن غريب ما قيل فيه إنه أعجمي بالخاء المعجمة فعرب بالحاء قاله ثعلب .

{الرحيم } : فعيل محول من فاعل للمبالغة وهو أحد الأمثلة الخمسة وهي : فعال وفعول ومفعال وفعيل وفعل وزاد بعضهم فعيلا فيها : نحو سكير ولها باب معقود في النحو

وقيل : وجاء رحيم بمعنى مرحوم قال العملس بن عقيل : فأما إذا عضت بك الأرض عضة

فإنك معطوف عليك رحيم

قال علي وابن عباس و علي بن الحسين وقتادة وأبو العالية وعطاء وابن جبير ومحمد بن يحيى بن حبان وجعفر الصادق الفاتحة مكية ويؤيده { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم الحجر} والحجر مكية بإجماع . وفي حديث أبي : إنها السبع المثاني والسبع الطوال أنزلت بعد الحجر بمدة ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة وما حفظ أنه كانت في الإسلام صلاة بغير { الحمد للّه رب العالمين الفاتحة} وقال أبو هريرة وعطاء بن يسار ومجاهد وسواد بن زياد والزهري وعبد اللّه بن عبيد بن عمير : هي مدنية

وقيل إنها مكية مدنية .

الباء في بسم اللّه للاستعانة نحو كتبت بالقلم وموضعها نصب أي بدأت وهو قول الكوفيين وكذا كل فاعل بدىء في فعله بالتسمية

كان مضمر الأبد أو قدره الزمخشري فعلا غير بدأت وجعله متأخرا قال : تقديره بسم اللّه أقرأ أو أتلو إذ الذي يجيء بعد التسمية مقروء والتقديم على العامل عنده يوجب الاختصاص وليس كما زعم . قال سيبويه : وقد تكلم على ضربت زيدا ما نصه : وإذا قدمت الإسم فهو عربي جيد كما كان ذلك يعني تأخيره عربيا جيدا وذلك قولك زيدا ضربت . والاهتمام والعناية هنا في التقديم والتأخير سواء مثله في ضرب زيد عمرا وضرب زيدا عمرو انتهى .

وقيل موضع اسم رفع التقدير ابتدائي ثابت أو مستقر باسم اللّه وهو قول البصريين وأي التقديرين أرجح يرجح الأول لأن الأصل في العمل للفعل أو الثاني لبقاء أحد جزأي الإسناد .

والإسم هو اللفظ الدال بالوضع على موجود في العيان إن كان محسوسا وفي الأذهان إن كان معقولا من غير تعرض ببنيته للزمان ومدلوله هو المسمى ولذلك قال سيبويه{ فالكل اسم وفعل وحرف } والتسمية جعل ذلك اللفظ دليلا على ذلك المعنى فقد اتضحت المباينة بين الإسم والمسمى والتسمية . فإذا أسندت حكما إلى اسم فتارة يكون إسناده إليه حقيقة نحو : زيد اسم ابنك وتارة لا يصح الإسناد إليه مجازا وهو أن تطلق الإسم وتريد به مدلوله وهو المسمى نحوقوله تعالى : { تبارك اسم ربك الرحمن }{ وسبح اسم ربك الأعلى }{ وما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم يوسف} والعجب من اختلاف الناس هل الإسم هو عين المسمى أو غيره وقد صنف في ذلك الغزالي وابن السيد والسهيلي وغيرهم وذكروا احتجاج كل من القولين وأطالوا في ذلك . وقد تأول السهيلي رحمه اللّهقوله تعالى :{ سبح اسم ربك الأعلى } بأنه أقحم الإسم تنبيها على أن المعنى سبح ربك واذكر ربك بقلبك ولسانك حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان لأن الذكر بالقلب متعلقة المسمى المدلول عليه بالإسم والذكر باللسان متعلقة اللفظ .

وقوله تعالى :{ ما تعبدون من دونه إلا أسماء } بأنها أسماء كاذبة غير واقعة على حقيقة فكأنهم لم يعبدوا إلا الأسماء التي اخترعوها وهذا من المجاز البديع . وحذفت

الألف من بسم هنا في الخط تخفيفا لكثرة الاستعمال فلو كتبت باسم القاهر أو باسم القادر . فقال الكسائي والأخفش : تحذف الألف . وقال الفراء : لا تحذف إلا مع { بسم اللّه الرحمن الرحيم } لأن الاستعمال إنما كثر فيه فأما في غيره من أسماء اللّه تعالى فلا خلاف في ثبوت الألف .

والرحمن صفة للّه عند الجماعة . وذهب الأعلم وغيره إلى أنه بدل وزعم أن الرحمن علم وإن كان مشتقا من الرحمة لكنه ليس بمنزلة الرحيم ولا الراحم بل هو مثل الدبران وإن كان مشتقا من دبر صيغ للعلمية فجاء على بناء لا يكون في النعوت قال : ويدل على علميته ووروده غير تابع لاسم قبله

قال تعالى :{ الرحمن على العرش استوى }{ طه الرحمن علم القرآن الرحمن } وإذا ثبتت العلمية امتنع النعت فتعين البدل . قال أبو زيد السهيلي : البدل فيه عندي ممتنع وكذلك عطف بيان لأن الإسم الأول لا يفتقر إلى تبيين لأنه أعرف الأعلام كلها وأبينها ألا تراهم قالوا : وما الرحمن الفرقان ولم يقولوا : وما اللّه فهو وصف يراد به الثناء وإن كان يجري مجرى الإعلام .

{الرحمن الرحيم } قيل دلالتهما واحدة نحو ندمان ونديم

وقيل معناهما مختلف فالرحمن أكثر مبالغة وكان القياس الترقي كما تقول : عالم نحرير وشجاع باسل لكن أردف الرحمن الذي يتناول جلائل النعم وأصولها بالرحيم ليكون كالتتمة والرديف ليتناول ما دق منها ولطف واختاره الزمخشري .

وقيل الرحيم أكثر مبالغة والذي يظهر أن جهة المبالغة مختلفة فلذلك جمع بينهما فلا يكون من باب التوكيد . فمبالغة فعلان مثل غضبان وسكران من حيث الامتلاء والغلبة ومبالغة فعيل من حيث التكرار والوقوع بمحال الرحمة ولذلك لا يتعدى فعلان ويتعدى فعيل . تقول زيد رحيم المساكين كما تعدى فاعلا قالوا زيد حفيظ علمك وعلم غيرك حكاه ابن سيده عن العرب . ومن رأى أنهما بمعنى واحد ولم يذهب إلى توكيد أحدهما بالآخر احتاج أنه يخص كل واحد بشيء وإن كان أصل الموضوع عنده واحدا ليخرج بذلك عن التأكيد فقال مجاهد : رحمن الدنيا ورحيم الآخرة . وروى ابن مسعود وأبو سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : الرحمن رحمن الدنيا والرحيم رحيم الآخرة . وإذا صح هذا التفسير وجب المصير إليه . وقال القرطبي : رحمن الآخرة ورحيم الدنيا . وقال الضحاك : لأهل السماء والأرض . وقال عكرمة : برحمة واحدة وبمائة رحمة . وقال المزني : بنعمة الدنيا والدين . وقال العزرمي : الرحمن بجميع خلقه في الأمطار ونعم الحواس والنعم العامة

الرحيم بالمؤمنين في الهداية لهم واللطف بهم وقال المحاسبي : برحمة النفوس ورحمة القلوب . وقال يحيى بن معاذ : لمصالح المعاد والمعاش . وقال الصادق : خاص اللفظ بصيغة عامة في الرزق وعام اللفظ بصيغة خاصة في مغفرة المؤمن . وقال ثعلب : الرحمن أمدح والرحيم ألطف

وقيل : الرحمن المنعم بما لا يتصور جنسه من العباد والرحيم المنعم بما يتصور جنسه من العباد . وقال أبو علي الفارسي : الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به اللّه والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين كما

قال تعالى :{ وكان بالمؤمنين رحيما الأحزاب} ووصف اللّه تعالى بالرحمة مجاز عن إنعامة على عباده ألا ترى أن الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم إحسانه فتكون الرحمة إذ ذاك صفة فعل ؟ وقال قوم : هي إرادة الخير لمن أراد اللّه تعالى به ذلك فتكون على هذا صفة ذات وينبني على هذا الخلاف خلاف أخر وهو أن صفات اللّه تعالى الذاتية والفعلية أهي قديمة أم صفات الذات قديمة وصفات الفعل محدثة قولان ؟

وأما الرحمة التي من العباد فقيل هي رقة تحدث في القلب

وقيل هي قصد الخير أو دفع الشر لأن الإنسان قد يدفع الشر عمن لا يرق عليه ويوصل الخير إلى من لا يرق عليه .

وفي البسملة من ضروب البلاغة نوعان :

أحدهما : الحذف وهو ما يتعلق به الباء في بسم وقد مر ذكره والحذف قيل لتخفيف اللفظ كقولهم بالرفاء والبنين باليمن والبركة فقلت إلى الطعام وقوله تعالى في تسع آيات أي أعرست وهلموا واذهب قال أبو القاسم السهيلي : وليس كما زعموا إذ لو كان كذلك كان إظهاره وإضماره في كل ما يحذف تخفيفا ولكن في حذفه فائدة وذلك أنه موطن ينبغي أن لا يقدم فيه سوى ذكر اللّه تعالى فلو ذكر الفعل وهو لا يستغني عن فاعله لم يكن ذكر اللّه مقدما وكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى كما تقول في الصلاة اللّه أكبر ومعناه من كل شيء ولكن يحذف ليكون اللفظ في اللسان مطابقا لمقصود القلب وهو أن لا يكون في القلب ذكر إلا اللّه عز وجل . ومن الحذف أيضا حذف الألف في بسم اللّه وفي الرحمن في الخط وذلك لكثرة الاستعمال .

النوع

الثاني : التكرار في الوصف ويكون إما لتعظيم الموصوف أو للتأكيد ليتقرر في النفس . وقد تعرض المفسرون في كتبهم لحكم التسمية في الصلاة وذكروا اختلاف العلماء في ذلك وأطالوا التفاريع في ذلك وكذلك فعلوا في غير ما آية وموضوع هذا كتب الفقه وكذلك تكلم بعضهم على التعوذ وعلى حكمه وليس من القرآن بإجماع . ونحن في كتابنا هذا لا نتعرض لحكم شرعي إلا إذا كان لفظ القرآن يدل على ذلك الحكم أو يمكن استنباطه منه بوجه من وجوه الاستنباطات . واختلف في وصل الرحيم بالحمد فقرأ قوم من الكوفيين بسكون الميم ويقفون عليها ويبتدئون بهمزة مقطوعة والجمهور على جر الميم ووصل الألف من الحمد .

وحكى الكسائي عن بعض العرب

أنه يقرأ الرحيم الحمد بفتح الميم وصلة الألف كأنك سكنت الميم وقطعت الألف ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت ولم ترو هذه قراءة عن أحد

٢

الحمد للّه رب العالمين .

{الحمد } الثناء على الجميل من نعمة أو غيرها باللسان وحده ونقيضه الذم وليس مقلوب مدح خلافا لابن الأنباري إذ هما في التصريفات متساويان وإذ قد يتعلق المدح بالجماد فتمدح جوهرة ولا يقال تحمد والحمد والشكر بمعنى واحد أو الحمد أعم والشكر ثناء على اللّه تعالى بأفعاله والحمد ثناء بأوصافه ثلاثة أقوال أصحها أنه أعم فالحامد قسمان : شاكر ومثن بالصفات .

{للّه} اللام : للملك وشبهه وللتمليك وشبهه وللاستحقاق وللنسب وللتعليل وللتبليغ وللتعجب وللتبيين وللصيرورة وللظرفية بمعنى في أو عند أو بعد وللإنتهاء وللإستعلاء مثل : ذلك المال لزيد أدوم لك ما تدوم لي ووهبت لك دينارا { جعل لكم من أنفسكم أزواجا } الجلباب للجارية لزيد عم { لتحكم بين الناس النساء } قلت لك وللّه عينا من رأى من تفوق { هيت لك يوسف }{ ليكون لهم عدوا وحزنا القصص }{ القسط ليوم القيامة } كتب لخمس خلون لدلوك الشمس { سقناه لبلد ميت }{ يخرون للاذقان الإسراء}

{رب العالمين } الرب : السيد والمالك والثابت والمعبود والمصلح وزاد بعضهم بمعنى الصاحب مستدلا بقوله : فدنا له رب الكلاب بكفه

بيض رهاف ريشهن مقزع

وبعضهم بمعنى الخالق العالم لا مفرد له كالأنام واشتقاقه من العلم أو العلامة ومدلوله كل ذي روح قاله ابن عباس أو الناس قاله البجلي أو الإنس والجن والملائكة قاله أيضا ابن عباس أو الإنس والجن والملائكة والشياطين قاله أبو عبيدة والفراء أو الثقلان قاله ابن عطية أو بنو آدم قاله أبو معاذ أو أهل الجنة والنار قاله الصادق أو المرتزقون قاله عبد الرحمن بن زيد أو كل مصنوع قاله الحسن وقتادة أو الروحانيون قاله بعضهم ونقل عن المتقدمين أعداد مختلفة في العالمين وفي مقارها اللّه أعلم بالصحيح .

والجمهور قرأوا بضم دال الحمد وأتبع إبراهيم بن أبي عبلة ميمه لام الجر لضمة الدال كما أتبع الحسن وزيد بن علي كسرة الدال لكسرة اللام وهي أغرب لأن فيه إتباع حركة معرب لحركة غير إعراب والأول بالعكس . وفي قراءة الحسن احتمال أن يكون الإتباع في مرفوع أو منصوب ويكون الإعراب إذ ذاك على التقديرين مقدرا منه من ظهوره شغل الكلمة بحركة الإتباع كما في المحكى والمدغم .

وقرأ هارون العتكي ورؤبة وسفيان بن عيينة الحمد بالنصب . والحمد مصدر معرف بأل إما للعهد أي الحمد المعروف بينكم للّه أو لتعريف الماهية كالدينار خير من الدرهم أي أي : دينار كان فهو خير من أي درهم كان فيستلزم إذ ذاك الأحمدة كلها أو لتعريف الجنس فيدل على استغراق الأحمدة كلها بالمطابقة . والأصل في الحمد لا يجمع لأنه مصدر .

وحكى ابن الأعرابي : جمعه على أحمد كأنه راعى فيه جامعه اختلاف الأنواع قال : وأبلج محمود الثناء خصصته

بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي

وقراءة الرفع أمكن في المعنى ولهذا أجمع عليها السبعة لأنها تدل على ثبوت الحمد واستقراره للّه تعالى فيكون قد أخبر بأن الحمد مستقر للّه تعالى أي حمده وحمد غيره . ومعنى اللام في للّه الاستحقاق ومن نصب فلا بد من عامل تقديره أحمد اللّه أو حمدت اللّه فيتخصص الحمد بتخصيص فاعله وأشعر بالتجدد والحدوث ويكون في حالة النصب من المصادر التي حذفت أفعالها وأقيمت مقامها وذلك في الأخبار نحو شكرا لا كفرا . وقدر بعضهم العامل للنصب فعلا غيره مشتق من الحمد أي أقول الحمد للّه أو الزموا الحمد للّه كما حذفوه من نحو اللّهم ضبعا وذئبا والأول هو الصحيح لدلالة اللفظ عليه . وفي قراءة النصب اللام للتبيين كما قال أعني للّه ولا تكون مقوية للتعدية فيكون للّه في موضع نصب بالمصدر لامتناع عمله فيه . قالوا سقيا لزيد ولم يقولوا سقيا زيدا فيعملونه فيه فدل على أنه ليس من معمول المصدر بل صار على عامل آخر .

وقرأ زيد بن علي وطائفة { رب العالمين } بالنصب على المدح وهي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها وضعفت إذ ذاك . على أن الأهوازي حكى في قراءة زيد بن علي علي أنه قرأ { رب العالمين الرحمن الرحيم } بنصب الثلاثة فلا ضعف إذ ذاك وإنما تضعف قراءة نصب رب وخفض الصفات بعدها لأنهم نصوا أنه لا اتباع بعد القطع في النعوت لكن تخريجها على أن يكون الرحمن

بدلا ولا سيما على مذهب الأعلم إذ لا يجيز في الرحمن أن يكون صفة وحسن ذلك على مذهب غيره كونه وصفا خاصا وكون البدل على نية تكرار العامل فكأنه مستأنف من جملة أخرى فحسن النصب . وقول من زعم أنه نصب رب بفعل دل عليه الكلام قبله كأنه قيل نحمد اللّه رب العالمين ضعيف لأنه مراعاة التوهم وهو من خصائص العطف ولا ينقاس فيه . ومن زعم أنه نصبه على البدل فضعيف للفصل بقوله الرحمن الرحيم ورب مصدر وصف به على أحد وجوه الوصف بالمصدر أو اسم فاعل حذفت ألفة فأصله راب كما قالوا رجل بار وبر وأطلقوا الرب على اللّه وحده وفي غيره قيد بالإضافة نحو رب الدار . وأل في العالمين للاستغراق وجمع العالم شاذ لأنه اسم جمع وجمعه بالواو والنون أشذ للإخلال ببعض الشروط التي لهذا الجمع والذي أختاره أنه ينطلق على المكلفين لقوله تعالى : { إن فى ذلك لآيات للعالمين الروم } وقراءة حفص بكسر اللام توضح ذلك

٣

{الرحمن الرحيم } تقدم الكلام عليهما في البسملة وهما مع قوله { رب العالمين } صفات مدح لأن ما قبلهما علم لم يعرض في التسمية به اشتراك فيخصص وبدأ أولا بالوصف بالربوبية فإن كان الرب بمعنى السيد أو بمعنى المالك أو بمعنى المعبود كان صفة فعل للموصوف بها التصريف في المسود والمملوك والعابد بما أراد من الخير والشر فناسب ذلك الوصف بالرحمانية والرحيمية لينبسط أمل العبد في العفو إن زل ويقوى رجاؤه إن هفا ولا يصح أن يكون الرب بمعنى الثابت ولا بمعنى الصاحب لامتناع إضافته إلى العالمين وإن كان بمعنى المصلح كان الوصف بالرحمة مشعرا بقلة الإصلاح لأن الحامل للشخص على إصلاح حال الشخص رحمته له . ومضمون الجملة والوصف إن من كان موصوفا بالربوبية والرحمة للمربوبين كان مستحقا للحمد . وخفض الرحمن الرحيم الجمهور ونصبهما أبو العالية وابن السميفع وعيسى بن عمرو ورفعهما أبو رزين العقيلي والربيع بن خيثم وأبو عمران الجوني فالخفض على النعت

وقيل في الخفض إنه بدل أو عطف بيان وتقدم شيء من هذا . والنصب والرفع للقطع . وفي تكرار الرحمن الرحيم أن كانت التسمية آية من الفاتحة تنبيه على عظم قدر هاتين الصفتين وتأكيد أمرهما وجعل مكي تكرارها دليلا على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة قال : إذ لو كانت آية لكنا قد أتينا بآيتين متجاورتين بمعنى واحد وهذا لا يوجد إلا بفواصل تفصل بين الأولى والثانية . قال : والفصل بينهما بالحمد للّه رب العالمين كلا فصل قال : لأنه مؤخر يراد به التقديم تقديره الحمد للّه الرحمن الرحيم رب العالمين وإنما قلنا بالتقديم لأن مجاورة الرحمة بالحمد أولى ومجاورة الملك بالملك أولى . قال :

والتقديم والتأخير كثير في القرآن وكلام مكي مدخول من غير وجه ولولا جلالة قائلة نزهت كتابي هذا عن ذكره . والترتيب القرآني جاء في غاية الفصاحة لأنه تعالى وصف نفسه بصفة الربوبية وصفة الرحمة ثم ذكر شيئين أحدهما ملكه يوم الجزاء والثاني العبادة . فناسب الربوبية للملك والرحمة العبادة . فكان الأول للأول والثاني للثاني . وقد ذكر المفسرون في علم التفسير الوقف وقد اختلف في أقسامه فقيل تام وكاف وقبيح وغير ذلك . وقد صنف الناس في ذلك كتبا مرتبة على السور ككتاب أبي عمرو الداني وكتاب الكرماني وغيرهما ومن كان عنده حظ في علم العربية استغنى عن ذلك .

٤

{مالك } قرأ مالك على وزن فاعل بالخفض عاصم والكسائي وخلف في اختياره ويعقوب وهي قراءة العشرة إلا طلحة والزبير وقراءة كثير من الصحابة منهم : أبي وابن مسعود ومعاذ وابن عباس والتابعين منهم : قتادة و الأعمش .

وقرأ ملك على وزن فعل بالخفض باقي السبعة وزيد وأبو الدرداء وابن عمر والمسور وكثير من الصحابة والتابعين .

وقرأ ملك على وزن سهل أبو هريرة وعاصم الحجدري ورواها الجعفي

وعبد الوارث عن أبي عمرو وهي لغة بكر بن وائل .

وقرأ ملكي بإشباع كسرة الكاف أحمد بن صالح عن ورش عن نافع .

وقرأ ملك على وزن عجل أبو عثمان النهدي و الشعبي و عطية ونسبها ابن عطية إلى أبي حياة . وقال صاحب اللوامح : قرأ أنس بن مالك وأبو نوفل عمر بن مسلم بن أبي عدي ملك يوم الدين بنصب الكاف من غير ألف وجاء كذلك عن أبي حياة انتهى .

وقرأ كذلك إلا أنه رفع الكاف سعد بن أبي وقاص وعائشة ومورق العجلي .

وقرأ ملك فعلا ماضيا أبو حياة وأبو حنيفة وجبير بن مطعم وأبو عاصم عبيد بن عمير الليثي وأبو المحشر عاصم بن ميمون الجحدري فينصبون اليوم . وذكر ابن عطية أن هذه قراءة يحيى بن يعمر والحسن وعلي بن أبي طالب .

وقرأ مالك بنصب الكاف الأعمش وابن السميفع و عثمان بن أبي سليمان وعبد الملك قاضي الهند . وذكر ابن عطية أنها قراءة عمر بن عبد العزيز وأبي صالح السمان وأبي عبد الملك الشامي . وروى ابن أبي عاصم عن اليمان ملكا بالنصب والتنوين .

وقرأ مالك برفع الكاف والتنوين عون العقيلي ورويت عن خلف بن هشام وأبي عبيد وأبي حاتم وبنصب اليوم .

وقرأ مالك يوم بالرفع والإضافة أبو هريرة وأبو حياة وعمر بن عبد العزيز بخلاف عنه ونسبها صاحب اللوامح إلى أبي روح عون بن أبي شداد

العقيلي ساكن البصرة .

وقرأ مليك على وزن فعيل أبي وأبو هريرة وأبو رجاء العطاردي .

وقرأ مالك بالإمالة البليغة يحيى بن يعمر وأيوب السختياني وبين بين قتيبة بن مهران عن الكسائي . وجهل النقل أعني في قراءة الإمالة أبو علي الفارسي فقال : لم يمل أحد من القراء ألف مالك وذلك جائز إلا أنه لا يقرأ بما يجوز إلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض . وذكر أيضا أنه قرىء في الشاذ ملاك بالألف والتشديد للام وكسر الكاف . فهذه ثلاث عشرة قراءة بعضها راجع إلى الملك وبعضها إلى الملك قال اللغويون : وهما راجعان إلى الملك وهو الربط ومنه ملك العجين . وقال قيس بن الخطيم : ملكت بها كفى فانهرت فتقها

يرى قائما من دونها ما وراءها

والأملاك ربط عقد النكاح ومن ملح هذه المادة أن جميع تقاليبها الستة مستعملة في اللسان وكلها راجع إلى معنى القوة والشدة فبينها كلها قدر مشترك وهذا يسمى بالإشتقاق الأكبر ولم يذهب إليه غير أبي الفتح . وكان أبو علي الفارسي يأنس به في بعض المواضع وتلك التقاليب : ملك مكل كمكل لكم كمل كملم . وزعم الفخر الرازي أن تقليب كمكل مهمل وليس بصحيح بل هو مستعمل بدليل ما أنشد الفراء من قول الشاعر :

فلما رآني قد حممت ارتحاله

تملك لو يجدي عليه التلمك

والملك هو القهر والتسليط على من تتأتى منه الطاعة ويكون ذلك باستحقاق وبغير استحقاق . والملك هو القهر على من تتأتى منه الطاعة ومن لا تتأتى منه ويكون ذلك منه باستحقاق فبينهما عموم وخصوص من وجه . وقال الأخفش : يقال ملك من الملك بضم الميم ومالك من الملك بكسر الميم وفتحها وزعموا أن ضم الميم لغة في هذا المعنى . وروي عن بعض البغداديين لي في هذا الوادي ملك وملك بمعنى واحد .

{يوم } اليوم هو المدة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ويطلق على مطلق الوقت وتركيبه غريب أعني وجود مادة تكون فاء الكلمة فيها ياء وعينها واوا لم يأت من ذلك سوى يوم وتصاريفه ويوح اسم للشمس وبعضهم زعم أنه بوج بالباء والمعجمة بواحدة من أسفل .{ الدين } الجزاء دناهم كما دانوا قاله قتادة والحساب { ذلك الدين القيم الروم } قاله ابن عباس والقضاء { ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين اللّه النور } والطاعة في دين عمرو وحالت بيننا وبينك فدك قاله أبو الفضل والعادة كدينك من أم الحويرث قبلها من معلقة امرئ القيس وكنى بها هنا عن العمل قاله الفراء والملة { ورضيت لكم الأسلام دينا المائدة }{ إن الدين عند اللّه الإسلام آل عمران } والقهر ومنه المدين للعبد والمدينة للأمة قاله يمان بن رئاب . وقال أبو عمرو الزاهد : وإن أطاع وعصى وذل وعز وقهر وجار وملك .

وحكى أهل اللغة : دنته بفعله دينا بفتح الدال وكسرها جازيته .

وقيل : الدين المصدر والدين بالكسر الإسم والدين السياسة والديان السايس . قال ذو الإصبع عنه : ولا أنت دياني فتخزوني والدين الحال . قال النضر بن شميل : سألت أعرابيا عن شيء فقال : لو لقيتني على دين غير هذا لأخبرتك والدين الداء عن اللحياني وأنشد : يا دين قلبك من سلمى وقد دينا .

ومن قرأ بجر الكاف فعلى معنى الصفة فإن كان بلفظ ملك على فعل بكسر العين أو إسكانها أو مليك بمعناه فظاهر لأنه وصف معرفة بمعرفة وإن كان بلفظ مالك أو ملاك أو مليك محولين من مالك للمبالغة بالمعرفة ويدل عليه قراءة من قرأ ملك يوم الدين فعلا ماضيا وإن كان بمعنى الاستقبال وهو الظاهر لأن اليوم لم يوجد فهو مشكل لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فإنه تكون إضافته غير محضة فلا يتعرف بالإضافة وإن أضيف إلى معرفة فلا يكون إذ ذاك صفة لأن المعرفة لا توصف بالنكرة ولا بدل نكرة من معرفة لأن البدل بالصفات ضعيف .

وحل هذا الإشكال هو أن اسم الفاعل إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال جاز فيه وجهان : أحدهما ما قدمناه من أنه لا يتعرف بما أضيف إليه إذ يكون منويا فيه الانفصال من الإضافة ولأنه عمل النصب لفظا .

الثاني : أن يتعرف به إذا كان معرفة فيلحظ فيه أن الموصوف صار معروفا بهذا الوصف وكان تقييده بالزمان غير معتبر وهذا الوجه غريب النقل لا يعرفه إلا من له اطلاع على كتاب سيبويه وتنقيب عن لطائفه . قال سيبويه رحمه اللّه تعالى وزعم يونس والخليل أن الصفات المضافة التي صارت صفة للنكرة قد يجوز فيهن كلهن أن يكن معرفة وذلك معروف في كلام العرب انتهى . واستثنى من ذلك باب الصفة المشبهة فقط فإنه لا يتعرف بالإضافة نحو حسن الوجه . ومن رفع الكاف ونون أو لم ينون فعلى القطع إلى الرفع . ومن نصب فعلى القطع إلى النصب أو على النداء والقطع أغرب لتناسق الصفات إذ لم يخرج بالقطع عنها . ومن قرأ ملك فعلا ماضيا فجملة خبرية لا موضع لها من الإعراب ومن أشبع كسرة الكاف فقد قرأ بنادر أو بما ذكر أنه لا يجوز إلا في الشعر وإضافة الملك أو الملك إلى يوم الدين إنما هو من باب الاتساع إذ متعلقهما غير اليوم . والإضافة على معنى اللام لا على معنى في خلافا لمن أثبت الإضافة بمعنى في ويبحث في تقرير هذا في النحو وإذا كان من الملك كان من باب .

طباخ ساعات الكرى زاد الكسل .

وظاهر اللغة تغاير الملك والمالك كما تقدم

وقيل هما بمعنى واحد كالفره والفارة فإذا قلنا بالتغاير فقيل مالك أمدح لحسن إضافته إلى من لا تحسن إضافة الملك إليه نحو مالك الجن والإنس والملائكة والطير فهو أوسع لشمول العقلاء وغيرهم قال الشاعر : سبحان من عنت الوجوه لوجهه

ملك الملوك ومالك العفر

قاله الأخفش ولا يقال هنا ملك ولقولهم مالك الشيء لمن يملكه وقد يكون ملكا لا مالكا نحو ملك العرب والعجم قاله أبو حاتم ولزيادته في البناء والعرب تعظم بالزيادة في البناء وللزيادة في أجزاء الثاني لزيادة الحروف ولكثرة من عليها من القراء ولتمكن التصرف ببيع وهبة وتمليك ولإبقاء الملك في يد المالك إذا تصرف بجور أو اعتداء أو سرف ولتعينه في يوم القيامة ولعدم قدرة المملوك على انتزاعه من الملك ولكثرة رجائه في سيده بطلب ما يحتاج إليه ولوجوب خدمته عليه ولأن المالك يطمع فيه والملك يطمع فيك ولأن له رأفة ورحمة والملك له هيبة وسياسة .

وقيل ملك أمدح وأليق إن لم يوصف به اللّه تعالى لإشعاره بالكثرة ولتمدحه بمالك الملك ولم يقل مالك الملك ولتوافق الابتداء والاختتام في قوله { ملك الناس } والاختتام لا يكون إلا بأشرف الأسماء ولدخول المالك تحت حكم الملك ولوصف نفسه بالملك في مواضع ولعموم تصرفه فيمن حوته مملكته وقصر المالك على ملكه قاله أبو عبيدة ولعدم احتياج الملك إلى الإضافة أو مالك لا بد له من الإضافة إلى مملوك ولكنه أعظم الناس فكان أشرف من المالك .

قال أبو علي : حكى ابن السراج عمن اختار قراءة ملك كل شيء بقوله { رب العالمين } فقراءة مالك تقرير قال أبو علي ولا حجة في هذا لأن في التنزيل تقدم العام ثم ذكر الخاص منه { الخالق البارىء المصور الحشر } فالخالق يعم وذكر المصور لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجوه الحكمة ومنه { وبالأخرة هم يوقنون البقرة } بعد قوله { الذين يؤمنون بالغيب البقرة } وإنما كررها تعظيما لها وتنبيها على وجوب اعتقادها والرد على الكفرة الملحدين ومنه الرحمن الرحيم ذكر الرحمن الذي هو عام وذكر الرحيم بعده لتخصيص الرحمة بالمؤمنين في قوله وكان بالمؤمنينرحيما الأحزاب انتهى . و

قال ابن عطية : وأيضا فإن الرب يتصرف في كلام العرب بمعنى الملك كقوله :

ومن قبل ربيتني فصفت ربوب

وغير ذلك من الشواهد فتنعكس الحجة على من قرأ ملك . والمراد باليوم الذي أضيف إليه مالك أو ملك زمان ممتد إلى أن ينقضي الحساب ويستقر أهل الجنة فيها وأهل النار فيها ومتعلق المضاف إليه في الحقيقة هو الأمر كأنه قال مالك أو ملك الأمر في يوم الدين . لكنه لما كان اليوم ظرفا للأمر جاز أن يتسع فيتسلط عليه الملك أو المالك لأن الاستيلاء على الظرف استيلاء على المظروف . وفائدة تخصيص هذه الإضافة وإن كان اللّه تعالى مالك الأزمنة كلها والأمكنة ومن حلها والملك فيها التنبيه على عظم هذا اليوم بما يقع فيه من الأمور العظام والأهوال الجسام من قيامهم فيه للّه تعالى والاستشفاع لتعجيل الحساب والفصل بين المحسن والمسيء واستقرارهما فيما وعدهما اللّه تعالى به أو على أنه يوم يرجع فيه إلى اللّه جميع ما ملكه لعباده وخولهم فيه ويزول فيه ملك كل مالك

قال تعالى :{ وكلهم آتيه يوم القيامة فردا مريم }{ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة الكهف} قال ابن السراج : إن معنى { مالك يوم الدين } إنه يملك مجيئه ووقوعه فالإضافة إلى اليوم على قوله إضافة إلى المفعول به على الحقيقة وليس ظرفا اتسع فيه وما فسر به الدين من المعاني يصح إضافة اليوم إليه إلى معنى كل منها إلا الملة قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة وابن جريج وغيرهم : يوم الدين يوم الجزاء على الأعمال والحساب . قال أبو علي : ويدل على ذلك { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } غافر واليوم تجزون ما كنتم تعملون} وقال مجاهد : يوم الدين يوم الحساب مدينين محاسبين

وفي قوله :{ مالك يوم الدين } دلالة على إثبات المعاد والحشر والحساب ولما اتصف تعالى بالرحمة انبسط العبد وغلب عليه الرجاء فنبه بصفة الملك أو المالك ليكون من عمله على وجل وأن لعمله يوما تظهر له فيه ثمرته من خير وشر

٥

إياك نعبد وإياك نسعتين .

{إياك } إيا تلحقه ياء المتكلم وكاف المخاطب وهاء الغائب وفروعها فيكون ضمير نصب منفصلا لا اسما ظاهرا أضيف خلافا لزاعمه وهل الضمير هو مع لواحقه أو هو وحده ؟ واللواحق حروف أو هو واللواحق أسماء أضيف هو إليها أو اللواحق وحدها وإيا زائدة لتتصل بها الضمائر أقوال ذكرت في النحو .

وأما لغاته فبكسر الهمزة وتشديد الياء وبها

قرأ الجمهور وبفتح الهمزة وتشديد الياء وبها قرأ الفضل الرقاشي وبكسر الهمزة وتخفيف الياء وبها قرأ عمرو بن فائد عن أبي وبإبدال الهمزة المكسورة هاء وبإبدال الهمزة المفتوحة هاء وبذلك قرأ ابن السوار الغنوي وذهاب أبي عبيدة إلى أن إيا مشتق ضعيف وكان أبو عبيدة لا يحسن النحو وإن كان إماما في اللغات وأيام العرب . وإذا قيل بالاشتقاق فاشتقاقه من لفظ أو من قوله :

فإو لذكراها إذلا ما ذكرتها

فتكون من باب قوة أو من الآية فتكون عينها ياء كقوله :

لم يبق هذا الدهر من إيائه

قولان وهل وزنه إفعل وأصله إ أو وأو إ أو ي أو فعيل فأصله إويو أو إويي أو فعول وأصله إووو أو اويي أو فعلى فأصله أووى أواويا أقاويل كلها ضعيفة والكلام على تصاريفها حتى صارت إيا تذكر في علم النحو وإضافة إيا الظاهر نادر نحو : وإيا الشواب أو ضرورة نحو : دعني وإيا خالد واستعماله تحذيرا معروف فيتحمل ضميرا مرفوعا يجوز أن يتبع بالرفع نحو : إياك أنت نفسك .

{نعبد } العبادة : التذلل قاله الجمهور أو التجريد قاله ابن السكيت وتعديه بالتشديد مغاير لتعديه بالتخفيف نحو : عبدت الرجل ذللته وعبدت اللّه ذللت له .

وقرأ الحسن وأبو مجلز وأبو المتوكل : إياك يعبد بالياء مبنيا للمفعول وعن بعض أهل مكة نعبد بإسكان الدال .

وقرأ زيد بن علي ويحيى بن وثاب و عبيد بن عمير الليثي : نعبد بكسر النون .

{نستعين } الاستعانة طلب العون والطلب أحد معاني استفعل وهي اثنا عشر معنى وهي : الطلب والاتحاد والتحول وإلقاء الشيء بمعنى ما صيغ منه وعده كذلك ومطاوعة افعل وموافقته وموافقة تفعل وافتعل والفعل المجرد والاغناء عنه وعن فعل مثل ذلك استطعم واستعبده واستنسر واستعظمه واستحسنه وإن لم يكن كذلك واستشلى مطاوع اشلى واستبل موافق مطاوع ابل واستكبر موافق تكبر

واستعصم موافق اعتصم واستغنى موافق عني واستنكف واستحيا مغنيان عن المجرد واسترجع واستعان حلق عانته مغنيان عن فعل فاستعان طلب العون كاستغفر واستعظم . وقال صاحب اللوامح : وقد جاء فيه وياك أبدل الهمزة واوا فلا أدري أذلك عن الفراء أم عن العرب وهذا على العكس مما فروا إليه في نحو أشاح فيمن همز لأنهم فروا من الواو المكسورة إلى الهمزة واستثقالا للكسرة على الواو . وفي وياك فروا من الهمزة إلى الواو وعلى لغة من يستثقل الهمزة جملة لما فيها من شبه التهوع وبكون استفعل أيضا لموافقة تفاعل وفعل . حكى أبو الحسن بن سيده في المحكم : تماسكت بالشيء ومسكت به واستمسك به بمعنى واحد أي احتبست به قال

ويقال : مسكت بالشيء وأمسكت وتمسكت احتبست انتهى . فتكون معاني استفعل حينئذ أربعة عشر لزيادة موافقة تفاعل وتفعل . وفتح نون نستعين قرأ بها الجمهور وهي لغة الحجاز وهي الفصحى .

وقرأ عبيد بن عمير الليثي وزر بن حبيش ويحيى بن وثاب و النخعي و الأعمش بكسرها وهي لغة قيس وتميم وأسد وربيعة وكذلك حكم حرف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه . وقال أبو جعفر الطوسي : هي لغة هذيل وانقلاب الواو ألفا في استعان ومستعان وياء في نستعين ومستعين والحذف في الاستعانة مذكور في علم التصريف ويعدى استعان بنفسه وبالباء . إياك مفعول مقدم و الزمخشري يزعم أنه لا يقدم على العامل إلا للتخصيص فكأنه قال : ما نعبد إلا إياك وقد تقدم الرد عليه في تقديره بسم اللّه أتلو وذكرنا نص سيبويه هناك . فالتقديم عندنا إنما هو للاعتناء والاهتمام بالمفعول . وسب أعرابي آخر فأعرض عنه وقال : إياك أعني فقال له : وعنك أعرض فقدما الأهم وإياك التفات لأنه انتقال من الغيبة إذ لو جرى على نسق واحد لكان إياه . والانتقال من فنون البلاغة وهو الانتقال من الغيبة للخطاب أو التكلم ومن الخطاب للغيبة أو التكلم ومن التكلم للغيبة أو الخطاب . والغيبة تارة تكون بالظاهر وتارة بالمضمر وشرطه أن يكون المدلول واحدا . ألا ترى أن المخاطب بإياك هو اللّه تعالى ؟ وقالوا فائدة هذا الالتفات إظهار الملكة في الكلام والاقتدار على التصرف فيه . وقد ذكر بعضهم مزيدا على هذا وهو إظهار فائدة تخص كل موضع موضع ونتكلم على ذلك حيث يقع لنا منه شيء وفائدته في إياك نعبد أنه لما ذكر أن الحمد للّه المتصف بالربوبية والرحمة والملك والملك لليوم المذكور أقبل الحامد مخبرا بأثر ذكره الحمد المستقر له منه ومن غيره أنه وغيره يعبده ويخضع له . وكذلك أتى بالنون التي تكون له ولغيره فكما أن الحمد يستغرق الحامدين كذلك العبادة تستغرق المتكلم وغيره . ونظير هذا أنك تذكر شخصا متصفا بأوصاف جليلة مخبرا عنه أخبار الغائب ويكون ذلك الشخص حاضرا معك فتقول له : إياك أقصد فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ المقصود ما لا يكون في لفظ إياه ولأنه ذكر ذلك توطئة للدعاء في قوله اهدنا . ومن ذهب إلى أن ملك منادى فلا يكون إياك التفاتا لأنه خطاب بعد خطاب وإن كان يجوز بعد النداء الغيبة كما قال : يا دار مية بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأبد

ومن الخطاب بعد النداء :

ألا يا اسلمى يا دار مي على البلى

ولا زال منها بجرعائك القطر

ودعوى الزمخشري في أبيات امرىء القيس الثلاثة أن فيها ثلاثة التفاتات غير صحيح بل هما التفاتان :

الأول : خروج من الخطاب المفتتح به في قوله : تطاول ليلك بالاثمد

ونام الخلي ولم ترقد

إلى الغيبة في قوله : وبات وباتت له ليلة

كليلة ذي العائر الأرمد

الثاني : خروج من هذه الغيبة إلى المتكلم في قوله : وذلك من نبأ جاءني . وخبرته عن أبي الأسود وتأويل كلامه أنها ثلاث خطأ وتعيين . إن الأول هو الانتقال من الغيبة إلى الحضور أشد خطأ لأن هذا الالتفات هو من عوارض الألفاظ لا من التقادير المعنوية وإضمار قولوا قبل الحمد للّه وإضمارها أيضا قبل إياك لا يكون معه التفات وهو قول مرجوح . وقد عقد أرباب علم البديع للالتفات في كلامهم ومن أجلهم كلاما فيه ابن الأثير الجزري رحمه اللّه تعالى . وقراءة من قرأ إياك يعبد بالياء مبنيا للمفعول مشكلة لأن إياك ضمير نصب ولا ناصب له وتوجيهها إن فيها استعارة والتفاتا فالاستعارة إحلال الضمير المنصوب موضع الضمير المرفوع فكأنه قال أنت ثم التفت فأخبر عنه أخبار الغائب لما كان إياك هو الغائب من حيث المعنى فقال يعبد وغرابة هذا الالتفات كونه في جملة واحدة وهو ينظر إلى قول الشاعر : أأنت الهلالي الذي كنت مرة

سمعنا به والأرحبي المغلب

وإلى قول أبي كثير الهذلي : يا لهف نفسي كان جلدة خالد

وبياض وجهك للتراب الأعفر

وفسرت العبادة في إياك نعبد بأنها التذلل والخضوع وهو أصل موضوع اللغة أو الطاعة كقوله تعالى : { لا تعبد الشيطان} مريم أو التقرب بالطاعة أو الدعاء أن الذين يستكبرون عن عبادتي غافر أي عن دعائي أو التوحيد إلا ليعبدون الذاريات أي ليوحدون وكلها متقاربة المعنى . وقرنت الاستعانة بالعبادة للجمع بين ما يتقرب به العبد إلى اللّه تعالى وبين ما يطلبه من جهته . وقدمت العبادة على الاستعانة لتقديم

الوسيلة قبل طلب الحاجة لتحصل الإجابة ليها وأطلق العبادة والاستعانة ليتناول كل معبود به وكل مستعان عليه . وكرر إياك ليكون كل من العبادة والاستعانة سيقا في جملتين وكل منهما مقصودة وللتنصيص على طلب العون منه بخلاف لو كان إياك نعبد ونستعين فإنه كان يحتمل أن يكون إخبارا بطلب العون أي وليطلب العون من غير أن يعين ممن يطلب . .

ونقل عن المنتمين للصلاح تقييدات مختلفة في العبادة والاستعانة كقول بعضهم : إياك نعبد بالعلم وإياك نستعين عليه بالمعرفة وليس في اللفظ ما يدل على ذلك .

وفي قوله : نعبد قالوا رد على الجبرية وفي نستعين رد على القدرية ومقام العبادة شريف وقد جاء الأمر به في مواضع

قال تعالى : { واعبد ربك الحجر }{ اعبدوا ربكم البقرة } والكناية به عن أشرف المخلوقين صلى اللّه عليه وسلم.

قال تعالى :{ سبحان الذى أسرى بعبده الإسراء }{ وما أنزلنا على عبدنا الأنفال } وقال تعالى حكاية عن عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام قال :{ إنى عبد اللّه مريم } وقال تعالى وتقدس :{ لا إله إلا أنا فاعبدنى طه } فذكر العبادة عقيب التوحيد لأن التوحيد هو الأصل والعبادة فرعه . وقالوا في قوله : إياك . رد على الدهرية والمعطلة والمنكرين لوجود الصانع فإنه خطاب لموجود حاضر

٦

اهدنا الصراط المستقيم .

{اهدنا } الهداية : الإرشاد والدلالة والتقدم ومنه الهوادي أو التبيين {وأما ثمود فهديناهم فصلت } أو الإلهام { أعطى كل شيء خلقه ثم هدى طه }

قال المفسرون : معناه ألهم الحيوانات كلها إلى منافقها أو الدعاء ولكل قوم هاد الرعد أي داع والأصل في هدي أن يصل إلى تأتي معمولة باللام { يهدى للتى هو أقوم الإسراء } أو إلى { لتهدى إلى صراط مستقيم } ثم يتسع فيه فيعدى إليه بنفسه ومنه { اهدنا الصراط } ونا ضمير المتكلم ومعه غيره أو معظم نفسه . ويكون في موضع رفع ونصب وجر .

{الصراط } الطريق وأصله بالسين من السرط وهو الفم ومنه سمي الطريق لقما وبالسين على الأصل قرأ قنبل ورويس وإبدال سينه صادا هي الفصحى وهي لغة قريش وبها قرأ الجمهور وبها كتبت في الإمام وزايا لغة رواها الأصمعي عن أبي عمرو وأشمامها زايا لغة قيس وبه قرأ حمزة بخلاف وتفصيل عن رواته وقال أبو يعلى : وروي عن أبي عمرو والسين والصاد والمضارعة بين الزاي والصاد ورواه عنه العريان عن أبي سفيان وروى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأها بزاي خالصة . قال بعض اللغويين : ما حكاه الأصمعي في هذه القراءة خطأ منه إنما سمع أبا عمرو يقرؤها بالمضارعة فتوهمها زايا ولم يكن الأصمعي نحويا فيؤمن على هذا .

وحكى هذا الكلام أبو علي عن أبي بكر بن مجاهد وقال أبو جعفر الطوسي في تفسيره وهو إمام من أئمة الإمامية : الصراط

بالصاد لغة قريش وهي اللغة الجيدة وعامة العرب يجعلونها سينا والزاي لغة لعذرة وكعب وبني القين . وقال أبو بكر بن مجاهد وهذه القراءة تشير إلى أن قراءة من قرأ بين الزاي والصاد تكلف حرف بين حرفين وذلك صعب على اللسان وليس بحرف ينبني عليه الكلام ولا هو من حروف المعجم . ولست أدفع أنه من كلام فصحاء العرب إلا أن الصاد أفصح وأوسع ويذكر ويؤنث وتذكيره أكثر . وقال أبو جعفر الطوسي : أهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق والسبيل والزقاق والسوق وبنو تميم يذكرون هذا كله ويجمع في الكثرة على سرط نحو كتاب وكتب وفي القلة قياسه أسرطه نحو حمار وأحمره هذا إذا كان الصراط مذكرا

وأما إذا أنث فقياسه أفعل نحو ذراع وأذرع وشمال وأشمل .

وقرأ زيد بن علي و الضحاك و نصر بن علي عن الحسن : اهدنا صراطا مستقيما بالتنوين من غير لام التعريفكقوله : { وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم صراط اللّه}{ المستقيم } استقام : استفعل بمعنى الفعل المجرد من الزوائد وهذا أحد معاني استفعل وهو أن يكون بمعنى الفعل المجرد وهو قام والقيام هو الانتصاب والاستواء من غير اعوجاج .

٧

{صراط الذين } اسم موصول والأفصح كونه بالياء في أحواله الثلاثة وبعض العرب يجعله بالواو في حالة الرفع واستعماله بحذف النون جائز وخص بعضهم ذلك بالضرورة إلا أن كان لغير تخصيص فيجوز في غيرها وسمع حذف أل منه فقالوا : الذين وفيما تعرف به خلاف ذكر في النحو ويخص العقلاء بخلاف الذي فإنه ينطلق على ذي العلم وغيره .

{أنعمت } النعمة : لين العيش وخفضه ولذلك قيل للجنوب النعامي للين هبوبها وسميت النعامة للين سهمها : نعم إذا كان في نعمة وأنعمت عينه أي سررتها وأنعم عليه بالغ في التفضيل عليه أي والهمزة في أنعم بجعل الشيء صاحب ما صيغ منه إلا أنه ضمن معنى التفضل فعدى بعلى وأصله التعدية بنفسه . أنعمته أي جعلته صاحب نعمة وهذا أحد المعاني التي لأفعل وهي أربعة وعشرون معنى هذا أحدها . والتعدية والكثرة والصيرورة والإغاثة والتعريض والسلب وإصابة الشيء بمعنى ما صيغ منه وبلوغ عدد أو زمان أو مكان وموافقة ثلاثي وإغناء عنه ومطاوعة فعل وفعل والهجوم ونفي الغريزة والتسمية والدعاء والاستحقاق والوصول والاستقبال والمجيء بالشيء والتفرقة مثل ذلك أدنيته وأعجبني المكان وأغد البعير وأحليت فلانا وأقبلت فلانا واشتكيت الرجل وأحمدت فلانا وأعشرت الدراهم وأصبحنا وأشأم القوم وأحزنه بمعنى حزنه وأرقل وأقشع السحاب مطاوع قشع الريح السحاب وأفطر مطاوع فطرته وأطلعت عليهم وأستريح وأخطيته سميته مخطئا وأسقيته وأحصد الزرع وأغفلته وصلت غفلتي اليه وأففته استقبلته بأف هكذا مثل هذا . وذكر بعضهم أن أفعل فعل ومثل الاستقبال أيضا بقولهم : أسقيته أي استقبلته بقولك سقيا لك وكثرت جئت بالكثير وأشرقت الشمس أضاءت وشرقت طلعت . التاء المتصلة بأنعم ضمير المخاطب المذكر المفرد وهي حرف في أنت والضميران فهو مركب .

{عليهم } على :

حرف جر عند الأكثرين إلا إذا جرت بمن أو كانت في نحو هون عليك . ومذهب سيبويه أنها إذا جرت اسم ظرف ولذلك لم يعدها في حروف الجر ووافقه جماعة من متأخري أصحابنا ومعناها الاستعلاء حقيقة أو مجازا وزيد أن تكون بمعنى عن وبمعنى الباء وبمعنى في وللمصاحبة وللتعليل وبمعنى من وزائدة مثل ذلك { كل من عليها فان الرحمن }{ فضلنا بعضهم على بعض البقرة } بعد على كذا حقيق علي أن لا أقول على الأعراف {على ملك سليمان} البقرة {وأتى المال على حبه البقرة }{ ولتكبروا اللّه على ما هداكم البقرة }{ حافظون إلا على أزواجهم المعارج} أبى اللّه إلا أن سرحة مالك

على كل أفنان العضاه تروق

أي تروق كل أفنان العضاة . هم ضمير جمع غائب مذكر عاقل ويكون في موضع رفع ونصب وجر .

وحكى اللغويون في عليهم عشر لغات ضم الهاء وإسكان الميم وهي قراة حمزة . وكسرها وإسكان الميم وهي قراءة الجمهور . وكسر الهاء والميم وياء بعدها وهي قراءة الحسن . وزاد ابن مجاهد أنها قراءة عمر بن فائد وكذلك بغير ياء وهي قراءة عمرو بن فائد . وكسر الهاء وضم الميم وواو بعدها وهي قراءة ابن كثير و قالون بخلاف عنه . وكسر الهاء وضم الميم بغير واو وضم الهاء والميم وواو بعدها وهي قراءة الأعرج و الخفاف

عن أبي عمرو . وكذلك بدون واو وضم الهاء وكسر الميم بياء بعدها . كذلك بغير ياء . وقرىء بهما وتوضيح هذه القراءآت بالخط والشكل : عليهم عليهم عليهموا عليهم عليهمي عليهم عليهم عليهمي عليهم عليهموا . وملخصها ضم الهاء مع سكون الميم أو ضمها بإشباع أو دونه أو كسرها بإشباع أو دونه وكسر الهاء مع سكون الميم أو كسرها بإشباع أو دونه أو ضمها بإشباع أو دونه وتوجيه هذه القراءآت ذكر في النحو . اهدنا صورته صورة الأمر ومعناه الطلب والرغبة وقد ذكر الأصوليون لنحو هذه الصيغة خمسة عشر محملا وأصل هذه الصيغة أن تدل على الطلب لا على فور ولا تكرار ولا تحتم وهل معنى اهدنا ارشدنا أو وفقنا أو قدمنا أو ألهمنا أو بين لنا أو ثبتنا ؟ أقوال أكثرها عن ابن عباس وآخرها عن علي وأبي .

وقرأ ثابت البناني بصرنا الصراط ومعنى الصراط القرآن قاله علي وابن عباس : وذكر المهدوي أنه روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه فسره بكتاب اللّه أو الإيمان وتوابعه أو الإسلام وشرائعه أو السبيل المعتدل أو طريق النبي صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر وعمر قاله أبو العالية و الحسن أو طريق الحج قاله فضيل بن عياض أو السنن قاله عثمان أو طريق الجنة قاله سعيد بن جبير أو طريق السنة والجماعة قاله القشيري أو طريق الخوف والرجاء قاله الترمذي أو جسر جهنم قاله عمرو بن عبيد .

وروي عن المتصوفة فيقوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } أقوال منها : قول بعضهم :{ اهدنا الصراط المستقيم } بالغيبوبة عن الصراط لئلا يكون مربوطا بالصراط وقول الجنيد أن سؤال الهداية عند

الحيرة من أشهار الصفات الأزلية فسألوا الهداية إلى أوصاف العبودية لئلا يستغرقوا في الصفات الأزلية . وهذه الأقوال ينبو عنها اللفظ ولهم فيما يذكرون ذوق وإدراك لم نصل نحن إليه بعد . وقد شحنت التفاسير بأقوالهم ونحن نلم بشيء منها لئلا يظن أنا إنما تركنا ذكرها لكوننا لم نطلع عليها . وقد رد الفخر الرازي على من قال إن الصراط المستقيم هو القرآن أو الإسلام وشرائعه قال : لأن المراد صراط الذين أنعمت عليهم من المتقدمين ولم يكن لهم القرآن ولا الإسلام يعني بالإسلام هذه الملة الإسلامية المختصة بتكاليف لم تكن تقدمتها وهذه الرد لا يتأتى له إلا إذا صح أن الذين أنعم اللّه عليهم هم متقدمون وستأتي الأقاويل في تفسير الذين أنعم اللّه عليهم واتصال نا باهد مناسب لنعبد ونستعين لأنه لما أخبر المتكلم أنه هو ومن معه يعبدون اللّه ويستعينونه سأل له ولهم الهداية إلى الطريق الواضح لأنهم بالهداية إليه تصح منهم العبادة . ألا ترى أن من لم يهتد إلى السبيل الموصلة لمقصوده لا يصح له بلوغ مقصوده ؟

وقرأ الحسن والضحاك : صراطا مستقيما دون تعريف .

وقرأ جعفر الصادق : صراط مستقيم بالإضافة أي الدين المستقيم . فعلى قراءة الحسن و الضحاك يكون صراط الذين بدل معرفة من نكره كقوله تعالى : { وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم صراط اللّه الشورى } وعلى قراءة الصادق وقراءآت الجمهور تكون بدل معرفة من معرفة صراط الذين بدل شيء من شيء وهما بعين واحدة وجيء بها للبيان لأنه لما ذكر قبل { اهدنا الصراط المستقيم } كان فيه بعض إبهام فعينه بقوله :{ صراط الذين } ليكون المسؤول الهداية إليه قد جرى ذكره مرتين وصار بذلك البدل فيه حوالة على طريق من أنعم اللّه عليهم فيكون ذلك أثبت وأوكد وهذه هي فائدة نحو هذا البدل ولأنه على تكرار العامل فيصير في التقدير جملتين ولا يخفى ما في الجملتين من التأكيد فكأنهم كرروا طلب الهداية .

ومن غريب النقول أن الصراط الثاني ليس الأول بل هو غيره وكأنه قرىء فيه حرف العطف وفي تعيين ذلك اختلاف . قيل هو العلم باللّه والفهم عنه قاله جعفر بن محمد

وقيل التزام الفرائض واتباع السنن

وقيل هو موافقه الباطن للظاهر في إسباغ النعمة .

قال تعالى :{ وأسبغ عليكم نعمت ظاهرة وباطنة لقمان }

وقرأ : صراط من أنعمت عليهم ابن مسعود و عمر و ابن الزبير وزيد بن علي . والمنعم عليهم هنا الأنبياء أو الملائكة أو أمة موسى وعيسى الذين لم يغيروا أو النبي صلى اللّه عليه وسلم أو النبيون والصديقون والشهداء والصالحون أو المؤمنون قاله ابن عباس . أو الأنبياء والمؤمنون أو المسلمون قاله وكيع أقوال وعزا كثيرا منها إلى قائلها ابن عطية فقال : قال ابن عباس : والجمهور أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين انتزعوا ذلك من آية النساء .

وقال ابن عباس أيضا : هم المؤمنون . وقال الحسن : أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقالت فرقة : مؤمنو بني إسرائيل .

وقال ابن عباس : أصحاب موسى قبل أن يبدلوا . وقال قتادة : الأنبياء خاصة . وقال أبو العالية : محمد صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر وعمر انتهى . ملخصا ولم يقيد الأنعام ليعم جميع الأنعام أعني عوم البدل .

وقيل أنعم عليهم بخلقهم للسعادة

وقيل بأن نجاهم من الهلكة

وقيل بالهداية واتباع

الرسول وروي عن المتصوفة تقييدات كثيرة غير هذه وليس في اللفظ ما يدل على تعيين قيد . واختلف هل للّه نعمة على الكافر ؟ فأثبتها المعتزلة ونفاها غيرهم . وموضع عليهم نصب وكذا كل حرف جر تعلق بفعل أو ما جرى مجراه غير مبني للمفعول . وبناء أنعمت للفاعل استعطاف لقبول التوسل بالدعاء في الهداية وتحصيلها أي طلبنا منك الهداية إذ سبق إنعامك فمن إنعامك إجابة سؤالنا ورغبتنا كمثل أن تسأل من شخص قضاء حاجة وتذكره بأن من عادته الإحسان بقضاء الحوائج فيكون ذلك آكد في اقتضائها وأدعى إلى قضائها . وانقلاب الفاعل مع المضمر هي اللغة الشهرى ويجوز إقرارها معه على لغة ومضمون هذه الجملة طلب استمرار الهداية إلى طريق من أنعم اللّه عليهم لأن من صدر منه حمد اللّه وأخبر بأنه يعبده ويستعينه فقد حصلت له الهداية لكن يسأل دوامها واستمرارها.

{غير } مفرد مذكر دائما وإذا أريد به المؤنث جاز تذكير الفعل حملا على اللفظ وتأنيثه حملا على المعنى ومدلوله المخالفة بوجه ما وأصله الوصف ويستثنى به ويلزم الإضافة لفظا أو معنى وإدخال أل عليه خطأ ولا يتعرف وإن أضيف إلى معرفة . ومذهب ابن السراج أنه إذا كان المغاير واحدا تعرف بإضافته إليه وتقدم عن سيبويه أن كل ما إضافته غير محضة قد يقصد بها التعريف فتصير محضة فتتعرف إذ ذاك غير بما تضاف إليه إذا كان معرفة وتقرير هذا كله في كتب النحو . وزعم البيانيون أن غير أو مثلا في باب الإسناد إليهما مما يكاد يلزم تقديمه قالوا نحو قولك غيرك يخشى ظلمه ومثلك يكون للمكرمات ونحو ذلك مما لا يقصد فيه بمثل إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه ولكنهم يعنون أن كل من كان مثله في الصفة كان من مقتضى القياس وموجب العرف أن يفعل ما ذكر وقوله :

غيري بأكثر هذا الناس ينخدع

غرضه أنه ليس ممن ينخدع ويغتر وهذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدما نحو : يكون للمكرمات مثلك وينخدع بأكثر هذا الناس غيري فأنت ترى الكلام مقلوبا على جهته .

{المغضوب عليهم } الغضب : تغير الطبع لمكروه وقد يطلق على الإعراض لأنه من ثمرته . لا حرف يكون للنفي وللطلب وزائدا ولا يكون إسما خلافا للكوفيين .{ ولا الضالين } والضلال : الهلاك والخفاء ضل اللبن في الماء

وقيل أصله الغيبوبة في كتاب لا يضل ربي طه وضللت الشيء جهلت المكان الذي وضعته فيه وأضللت الشيء ضيعته وأضل أعمالهم محمد وضل غفل ونسي وأنا من الضالين الشعراء { أن تضل إحداهما البقرة } والضلال سلوك سبيل غير القصد ضل عن الطريق سلك غير جادتها والضلال الحيرة والتردد ومنه قيل لحجر أملس يردده الماء في الوادي ضلضلة وقد فسر الضلال في القرآن بعدم العلم بتفصيل الأمور وبالمحبة وسيأتي ذلك في مواضعه والجر في غير قراءة الجمهور . وروى الخليل عن ابن كثير النصب وهي قراءة عمر وابن مسعود و علي و عبد اللّه بن الزبير . فالجر على البدل من الذين عن أبي علي أو من الضمير في عليهم وكلاهما ضعيف لأن غير أصل وضعه الوصف والبدل بالوصف ضعيف أو على النعت عن سيبويه ويكون إذ ذاك غير تعرفت بما أضيفت إليه إذ هو معرفة على ما نقله سيبويه في أن كل ما أضافته غير محضة قد تتمحض فيتعرف إلا في الصفة المشبهة أو على ما ذهب إليه ابن السراج إذ وقعت غير على مخصوص لا شائع أو على أن الذين أريد بهم الجنس لا قوم بأعيانهم . قالوا كما وصفوا المعرف بال الجنسية بالجملة

وهذا هدم لما اعتزموا عليه من أن المعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة ولا أختار هذا المذهب وتقرير فساده في النحو والنصب على الحال من الضمير في عليهم وهو الوجه أو من الذين قاله المهدوي وغيره وهو خطأ لأن الحال من المضاف إليه الذي لا موضع له لا يجوز أو على الاستثناء قاله الأخفش و الزجاج وغيرهما وهو استثناء منقطع إذ لم يتناوله اللفظ السابق ومنعه الفراء من أجل لا في قوله { ولا الضالين } ولم يسوغ في النصب غير الحال قال لأن لا تزاد إلا إذا تقدم النفي نحو قول الشاعر : ما كان يرضى رسول اللّه فعلهم

والطيبان أبو بكر ولا عمر

ومن ذهب إلى الاستثناء جعل لا صلة أي زائدة مثلها في قوله تعالى :{ ما منعك أن لا تسجد الأعراف } وقول الراجز :

فما ألوم البيض ألا تسخرا

وقول الأحوص : ويلجئني في اللّهو أن لا أحبه

واللّهو داع دائب غير غافل

قال الطبري أي أن تسخر وأن أحبه وقال غيره معناه إرادة أن لا أحبه فلا فيه متمكنة يعني في كونها نافية لا زائدة واستدلوا أيضا على زيادتها ببيت أنشده المفسرون وهو : أبى جوده لا البخل واستعجلت به

نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله

وزعموا أن لا زائدة والبخل مفعول بأبي أي أبى جوده البخل ولا دليل في ذلك بل الأظهر أن لا مفعول بأبي وأن لفظة لا لا تتعلق بها وصار إسنادا لفظيا ولذلك قال : واستعجلت به نعم فجعل نعم فاعلة بقوله استعجلت وهو إسناد لفظي والبخل بدل من لا أو مفعول من أجله

وقيل انتصب غير بإضمار أعني وعزى إلى الخليل وهذا تقدير سهل وعليهم في موضع رفع بالمغضوب على أنه مفعول لم يسم فاعله وفي إقامة الجار والمجرور مقام الفاعل إذا حذف خلاف ذكر في النحو . ومن دقائق مسائلة مسألة يغني فيها عن خبر المبتدأ ذكرت في النحو و لافي قوله : { ولا الضالين } لتأكيد معنى النفي لأن غير فيه النفي كأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين وعين دخولها العطف على قوله المغضوب عليهم لمناسبة غير ولئلا يتوهم بتركها عطف الضالين على الذين .

وقرأ عمر وأبي وغير الضالين وروي عنهما في الراء في الحرفين النصب والخفض ويدل على أن المغضوب عليهم هم غير الضالين والتأكيد فيها أبعد والتأكيد في لا أقرب ولتقارب معنى غير من معنى لا أتى الزمخشري بمسألة ليبين بها تقاربهما فقال : وتقول أنا زيدا غير ضارب مع امتناع قولك أنا زيدا مثل ضارب لأنه بمنزلة قولك أنا زيدا لا ضارب يريد أن العامل إذا كان مجرورا بالإضافة فمعموله لا يجوز أن يتقدم عليه ولا على المضاف لكنهم تسمحوا في العامل المضاف إليه غير فأجازوا تقديم معموله على غير إجراء لغير مجرى لا فكما أنه لا يجوز تقديم معمول ما بعدها عليها فكذلك غير . وأوردها الزمخشري على أنها مسألة مقررة مفروغ منها ليقوي بها التناسب بين غير ولا إذ لم يذكر فيها خلافا . وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري مذهب ضعيف جدا بناه على جواز أنا زيدا لا ضارب وفي تقديم معمول ما بعد لا عليها ثلاثة مذاهب ذكرت في النحو وكون اللفظ يقارب اللفظ في المعنى لا يقضى له بأن يجري أحكامه عليه ولا يثبت تركيب إلا بسماع من العرب ولم يسمع أنا زيدا غير ضارب وقد ذكر أصحابنا قول من ذهب إلى جواز ذلك وردوه وقدر بعضهم في غير المغضوب محذوفا قال التقدير غير صراط المغضوب عليهم وأطلق هذا

التقدير فلم يقيده بجر غير ولا نصبه ، وهذا لا يتأتى إلا بنصب غير ، فيكون صفة لقوله الصراط ، وهو ضعيف لتقدم البدل على الوصف ، والأصل العكس ، أو صفة للبدل ، وهو صراط الذين ، أو بدلاً من الصراط ، أو من صراط الذين ، وفيه تكرار الإبدال ، وهي مسألة لم أقف على كلام أحد فيها ، إلا أنهم ذكروا ذلك في بدل النداء ، أو حالاً من الصراط الأول أو الثاني .

وقرأ أيوب السختياني : ولا الضألين ، بإبدال الألف همزة فراراً من التقاء الساكنين .

وحكى أبو زيد دأبة وشأبة في كتاب الهمز ، وجاءت منه ألفاظ ، ومع ذلك فلا ينقاس هذا الإبدال لأنه لم يكثر كثرة توجب القياس ، نص على أنه لا ينقاس النحويون ، قال أبو زيد : سمعت عمرو بن عبيد يقرأ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن ، فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة . قال أبو الفتح : وعلى هذه اللغة قول كثير :

إذا ما العوالي بالعبيط احمأرت

وقول الآخر : وللأرض إما سودها فتجلت

بياضاً

وإما بيضها فادهأمت

وعلى ما قال أبو الفتح إنها لغة ، ينبغي أن ينقاس ذلك ، وجعل الإنعام في صلة الذين ، والغضب في صلة أل ، لأن صلة الذين تكون فعلاً فيتعين زمانه ، وصلة أل تكون اسماً فينبهم زمانه ، والمقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام اللّه عليه وتحقق ذلك ، وكذلك أتى بالفعل ماضياً وأتى بالإسم في صلة أن ليشمل سائر الأزمان ، وبناه للمفعول ، لأن من طلب منه الهداية ونسب الأنعام إليه لا يناسب نسبة الغضب إليه ، لأنه مقام تلطف وترفق وتذلل لطلب الإحسان ، فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام ، وليكون المغضوب توطئة لختم السورة بالضالين لعطف موصول على موصول مثله لتوافق آخر الآي . والمراد بالإنعام ، الإنعام الديني ، والمغضوب عليهم والضالين عام في كل من غضب عليه وضل .

وقيل المغضوب عليهم : اليهود ، والضالّون النصارى ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وابن زيد . وروي هذا عن عدي بن حاتم ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وإذا صح هذا وجب المصير إليه ،

وقيل اليهود والمشركون ،

وقيل غير ذلك . وقد روي في كتب التفسير في الغضب والضلال قيود من المتصوفة لا يدل اللفظ عليها ، كقول بعضهم غير المغضوب عليهم ، بترك حسن الأدب في أوقات القيام بخدمته ، ولا الضالين ، برؤية ذلك ،

وقيل غير هذا . والغضب من اللّه تعالى إرادة الانتقام من العاصي لأنه عالم بالعبد قبل خلقه وقبل صدور المعصية منه ، فيكون من صفات الذات أو إحلال العقوبة به ، فيكون من صفات الأفعال ، وقدم الغضب على الضلال ، وإن كان الغضب من نتيجة الضلال ضل عن الحق فغضب عليه لمجاورة الأنعام ، ومناسبة ذكره قرينة ، لأن الإنعام يقابل بالانتقام ، ولا يقابل الضلال الإنعام فالإنعام إيصال الخير إلى المنعم عليه ، والانتقام إيصال الشر إلى المغضوب عليه ، فبينهما تطابق معنوي ، وفيه أيضاً تناسب التسجيع ، لأن قوله ولا الضالين ، تمام السورة ، فناسب أواخر الآي ، ولو تأخر الغضب ، ومتعلقه لما ناسب أواخر الآي . وكان العطف بالواو الجامعة التي لا دلالة فيها على التقديم والتأخير لحصول هذا المعنى من مغايرة جمع الوصفين ، الغضب عليه ، والضلال لمن أنعم اللّه عليه ، وإن فسر اليهود والنصارى . فالتقديم إما للزمان أو لشدة العداوة ، لأن اليهود أقدم وأشد عداوة من النصارى .

وقد أنجر في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلا من كان توغل في فهم لسان العرب ، ورزق الحظ الوافر من علم الأدب ، وكان عالماً بافتنان الكلام ، قادراً على إنشاء النثار البديع والنظام .

وأما من لا اطلاع له على كلام العرب ، وجسا طبعه حتى عن الفقرة الواحدة من الأدب ، فسمعه عن هذا الفن مسدود ، وذهنه بمعزل عن هذا المقصود . قالوا : وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع : .

النوع

الأول : حسن الافتتاح وبراعة المطلع ، فإن كان أولها بسم اللّه الرحمن الرحيم ، على قول من عدها منها ، فناهيك بذلك حسناً إذ كان مطلعها ، مفتتحاً باسم اللّه ، وإن كان أولها الحمد للّه ، فحمد اللّه والثناء عليه بما هو أهله ، ووصفه بماله من الصفات العلية أحسن ما افتتح به الكلام ، وقدم بين يدي النثر والنظام ، وقد تكرر الافتتاح بالحمد في كثير من السور ، والمطالع تنقسم إلى حسن وقبيح ، والحسن إلى ظاهر وخفي على ما قسم في علم البديع . النوع

الثاني : المبالغة في الثناء ، وذلك لعموم أل في الحمد على التفسير الذي مر . النوع

الثالث : تلوين الخطاب على قول بعضهم ، فإنه ذكر أن الحمد للّه صيغته صيغة الخبر ، ومعناه الأمر ،كقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ومعناه النهي . النوع

الرابع : الاختصاص باللام التي في للّه ، إذ دلت على أن جميع المحامد مختصة به ، إذ هو مستحق لها وبالإضافة في ملك يوم الدين لزوال الأملاك والممالك عن سواه في ذلك اليوم ، وتفرده فيه بالملك والملك ،

قال تعالى :{ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } ، ولأنه لا مجازى في ذلك اليوم على الأعمال سواه . النوع

الخامس : الحذف ، وهو على قراءة من نصب الحمد ظاهر ، وتقدم ، هل يقدر من لفظ الحمد أو من غير لفظه ؟ قال بعضهم ؟ ومنه حذف العامل الذي هو في الحقيقة خبر عن الحمد ، وهو الذي يقدر بكائن أو مستقر ، قال : ومنه حذف صراط من قوله غير المغضوب ، التقدير غير صراط المغضوب عليهم ، وغير صراط الضالين ، وحذف سورة إن قدرنا العامل في الحمد إذا نصبناه ، إذكروا أو اقرؤا ، فتقديره اقرؤوا سورة الحمد ،

وأما من قيد الرحمن ، والرحيم ، ونعبد ، ونستعين ، وأنعمت ، والمغضوب عليهم ، والضالين ، فيكون عنده في سورة محذوفات كثيرة .

النوع

السادس : التقديم والتأخير ، وهو في قوله نعبد ، ونستعين ، والمغضوب عليهم ، والضالين ، وتقدم الكلام على ذلك . النوع

السابع : التفسير ، ويسمى التصريح بعد الإبهام ، وذلك في بدل صراط الذين من الصراط المستقيم . النوع

الثامن : الالتفات ، وهو في إياك نعبد وإياك نستعين ، اهدنا . النوع

التاسع : طلب الشيء ، وليس المراد حصوله بل دوامه ، وذلك في اهدنا . النوع

العاشر : سرد الصفات لبيان خصوصية في الموصوف أو مدح أو ذم . النوع الحادي عشر : التسجيع ، وفي هذه السورة من التسجيع المتوازي ، وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين في الوزن والروي ، قوله تعالى : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } ،

وقوله تعالى :{ نَسْتَعِينُ وَلاَ الضَّالّينَ } ، انقضى كلامنا على تفسير الفاتحة .

وكره الحسن أن يقال لها أم الكتاب ، وكره ابن سيرين أن يقال لها أم القرآن ، وجوزه الجمهور . والإجماع على أنها سبع آيات إلا ما شذ فيه من لا يعتبر خلافه . عند الجمهور المكيون والكوفيون { بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } آية ، ولم يعدوا { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، وسائر العادين ، ومنهم كثير من قراء مكة والكوفة لم يعدوها آية ، وعدوا { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } آية ، وشذ عمرو بن عبيد ، فجعل آية { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، فهي على عدة ثمان آيات ، وشذ حسين الجعفي ، فزعم أنها ست آيات .

قال ابن عطية : وقول اللّه تعالى :{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي } هو الفصل في ذلك . ولم يختلفوا في أن البسملة في أول كل سورة ليست آية ، وشذ ابن المبارك فقال : إنها آية في كل سورة ، ولا أدري ما الملحوظ في مقدار الآية حتى نعرف الآية من غير الآية .

وذكر المفسرون عدد حروف الفاتحة ، وذكروا سبب نزولها ما لا يعد سبب نزول . وذكروا أحاديث في فضل بسم اللّه الرحمن الرحيم ، اللّه أعلم بها ، وذكروا للتسمية أيضاً نزول ما لا يعد سبباً ، وذكروا أن الفاتحة تسمى الحمد ، وفاتحة الكتاب ، وأم الكتاب ، والسبع المثاني ، والواقية ، والكافية ، والشفاء ، والشافية ، والرقية ، والكنز ، والأساس ، والنور ، وسورة الصلاة ، وسورة تعليم المسألة ، وسورة المناجاة ، وسورة التفويض . وذكروا أن ما ورد من الأحاديث في فضل الفاتحة ، والكلام على هذا كله من باب التذييلات ، لا أن ذلك من علم التفسير إلا ما كان من تعيين مبهم أو سبب نزول أو نسخ بما صح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فذلك يضطر إليه علم التفسير . وكذلك تكلموا على آمين ولغاتها ، والاختلاف في مدلولها ، وحكمها في الصلاة ، وليست من القرآن ، فلذلك أضربنا عن الكلام عليها صفحاً ، كما تركنا الكلام على الاستعاذة في أول الكتاب ، وقد أطال المفسرون كتبهم بأشياء خارجة عن علم التفسير حذفناها من كتابنا هذا ، إذا كان مقصودنا ما أشرنا إليه في الخطبة ، واللّه تعالى أعلم .

﴿ ٠