٢٢الذي جعل لكم . . . . . والموصول الثاني في قوله : { الَّذِى جَعَلَ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للّه أَندَاداً } ، وهو ضعيف لوجهين : أحدهما : أن صلة الذي وما عطف عليها قد مضيا ، فلا ينابسب دخول الفاء في الخبر . الثاني : أن ذلك لا يتمشى إلا على مذهب أبي الحسن ، لأن من الروابط عنده تكرار المبتدأ بمعناه ، فالذي مبتدأ ، و { فَلاَ تَجْعَلُواْ للّه أَندَاداً } جملة خبرية ، والرابط لفظ اللّه من للّه كأنه قيل :{ فَلاَ تَجْعَلُواْ للّه أَندَاداً } ، وهذا من تكرار المبتدأ بمعناه . ولا نعرف إجازة ذلك إلا عن أبي الحسن . أجاز أن تقول : زيد قام أبو عمرو ، وإذا كان أبو عمرو كنية لزيد ، ونص سيبويه على منع ذلك . وأما نصبه فيجوز أن يكون على القطع ، إذ هو وصف مدح ، كما ذكرنا ، ويجوز أن يكون وصفاً لما كان له وصفاً الذي خلقكم ، وهو ربكم ، قالوا : ويجوز نصبه على أن يكون نعتاً لقوله :{ الَّذِى خَلَقَكُمْ } ، فيكون نعتاً للنعت ونعت النعت مما يحيل تكرار النعوت . والذي نختاره أن النعت لا ينعت ، بل النعوت كلها راجعة إلى منعوت واحد ، إلا إن كان ذلك النعت لا يمكن تبعيته للمنعوت ، فيكون إذ ذاك نعتاً للنعت الأول ، نحو قولك : يا أيها الفارس ذو الجمة . وأجاز أبو محمد مكي نصبه بإضمار أعني ، وما قبله ليس بملتبس ، فيحتاج إلى مفسر له بإضمار أعني ، وأجاز أيضاً نصبه بتتقون ، وهو إعراب غث ينزه القرآن عن مثله . وإنما أتى بقوله الذي دون واو لتكون هذه الصفة وما قبلها راجعين إلى موصوف واحد ، إذ لو كانت بالواو لأوهم ذلك موصوفاً آخر ، لأن العطف أصله المغايرة . وجعل : بمعنى صيَّر ، لذلك نصبت الأرض . وفراشاً ، ولكم متعلق بجعل ، وأجاز بعضهم أن ينتصب فراشاً وبناء على الحال ، على أن يكون جعل بمعنى خلق ، فيتعدى إلى واحد ، وغاير اللفظ كما غاير في قوله : { خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } ، ولأنه قصد إلى ذكر جملتين ، فغاير بين اللفظين لأن التكرار ليس في الفصاحة ، كاختلاف اللفظ والمدلول واحد . وأدغم أبو عمرو لام جعل في لام لكم ، والألف واللام في الأرض يجوز أن تكون للجنس الخاص ، فيكون المراد أرضاً مخصوصة ، وهي كل ما تمهد واستوى من الأرض وصلح أن يكون فراشاً . ويجوز أن تكون لاستغراق الجنس ، ويكون المراد بالفراش مكان الاستقرار واللبث لكل حيوان . فالوهد مستقر بني آدم وغيرهم من الحيوانات ، والجبال والحزون مستقر لبعض الآدميين بيوتاً أو حصوناً ومنازل ، أو لبعض الحيوانات وحشاً وطيراً يفترشون منها أوكاراً ، ويكون الامتنان على هذا مشتملاً على كل من جعل الأرض له قراراً . وغلب خطاب من يعقل على من لا يعقل ، أو يكون خطاب الامتنان وقع على من يعقل ، لأن ما عداهم من الحيوانات معد لمنافعهم ومصالحهم ، فخلقها من جملة المنة على من يعقل . وقرأ يزيد الشامي : بساطاً ، وطلحة : مهاداً . والفراش ، والمهاد ، والبساط ، والقرار ، والوطاء نظائر . وقد استدل بعض المنجمين بقوله :{ جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً } على أن الأرض مبسوطة لا كروية ، وبأنها لو كانت كروية ما استقر ماء البحار فيها . أما استدلاله بالآية فلا حجة له في ذلك ، لأن الآية لا تدل على أن الأرض مسطحة ولا كروية ، إنما دلت على أن الناس يفترشونها كما يتقلبون بالمفارش ، سواء كانت على شكل السطح أو على شكل الكرة ، وأمكن الافتراش فيها لتباعد أقطارها واتساع جرمها . قال الزمخشري : وإذا كان يعني الافتراش سهلاً في الجبل ، وهو وتد من أوتاد الأرض ، فهو أسهل في الأرض ذات الطول والعرض . وأما استدلاله باستقرار ماء البحار فيها فليس بصحيح ، قالوا : لأنه يجوز أن تكون كروية ويكون في جزء منها منسطح يصلح للاستقرار ، وماء البحر متماسك بأمر اللّه تعالى لا بمقتضى الهيئة ، انتهى قولهم . ويجوز أن يكون بعض الشكل الكروي مقراً للماء إذا كان الشكل ثابتاً غير دائر ، أما إذا كان دائراً فيستحيل عادة قراره في مكان واحد من ذلك الشكل الكروي . وهذه مسألة يتكلم عليها في علم الهيئة . وقوله تعالى :{ وَالسَّمَاء بِنَاء هُوَ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } ، شبهت بالقبة المبنية على الأرض ، ويقال لسقف البيت بناء ، والسماء للأرض كالسقف ، روي هذا عن ابن عباس وجماعة . وقيل : سماها بناء ، لأن سماء البيت يجوز أن يكون بناء غير بناء ، كالخيام والمضارب والقباب ، لكن البناء أبلغ في الإحكام وأتقن في الصنعة وأمنع لوصول الأذى إلى من تحته ، فوصف السماء بالأبلغ والأتقن والأمنع ، ونبه بذلك على إظهار قدرته وعظيم حكمته ، إذ المعلوم أن كل بناء مرتفع لا يتهيأ إلا بأساس مستقر على الأرض أو بعمد وأطناب مركوزة فيها ، والسماء في غاية ما يكون من العظم ، وهي سبع طباق بعضها فوق بعض ، وعليها من أثقال الأفلاك وأجناس الأملاك وأجرام الكواكب التي لا يعبر عن عظمها ولا يحصي عددها ، وهي مع ذلك بغير أساس يمسكها ولا عمد تقلها ولا أطناب تشدها ، وهي لو كانت بعمد وأساس كانت من أعظم المخلوقات وأحكم المبدعات ، فكيف وهي عارية عن ذلك ممسكة بالقدرة الإلهية : { إِنَّ اللّه يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ} وقيل : سميت بناء لتماسكها كما يتماسك البناء بعضه ببعض . وأنزل من السماء : يجوز أن يراد به السحاب ، ويجوز أن يراد به السماء المعروفة . فعلى الأول الجامع بينهما هو القدر المشترك من السمو ، ولا يجوز الإضمار لأنه غير الأول ، وعلى الثاني فحسن الإظهار دون الإضمار هنا كون السماء الأولى في ضمن جملة ، والثانية جملة صالحة بنفسها أن تكون صلة تامة لولا عطفها ، ومن متعلقة بأنزل وهي لابتداء الغاية ، ويحتمل أن تتعلق بمحذوف على أن تكون في موضع الحال من ماء ، لأنه لو تأخر لكان نعتاً فلما تقدم انتصب على الحال ، ومعناها إذ ذاك التبعيض ، ويكون في الكلام مضاف محذوف أي من مياه السماء ونكر . ماء لأن المنزل لم يكن عاماً فتدخل عليه الألف واللام وإنما هو ما صدق عليه الاسم . فأخرج به : والهاء في به عائدة إلى الماء ، والباء معناها السببية . فالماء سبب للخروج ، كما أن ماء الفحل سبب في خلق الولد ، وهذه السببية مجاز ، إذ الباري تعالى قادر على أن ينشىء الأجناس ، وقد أنشأ من غير مادة ولا سبب ، ولكنه تعالى لما أوجد خلقه في بعض الأشياء عند أمر ما ، أجرى ذلك الأمر مجرى السبب لا أنه سبب حقيقي . وللّه تعالى في إنشاء الأمور منتقلة من حال إلى حال حكم يستنصر بها ، لم يكن في إنشائها دفعة واحدة من غير انتقال أطوار ، لأن في كل طور مشاهدة أمر من عجيب التنقل وغريب التدريج تزيد المتأمل تعظيماً للباري . من الثمرات : من للتبعيض ، والألف واللام في الثمرات لتعريف الجنس وجمع لاختلاف أنواعه ، ولا ضرورة تدعو إلى ارتكاب أن الثمرات من باب الجموع التي يتفاوت بعضها موضع بعض لالتقائهما في الجمعية ، نحو :{ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ } ، و { ثَلَاثَةَ قُرُوء } ، فقامت الثمرات مقام الثمر أو الثمار على ما ذهب إليه الزمخشري ، لأن هذا من الجمع المحلى بالألف واللام ، فهو وإن كان جمع قلة ، فإن الألف واللام التي للعموم تنقله من الاختصاص لجمع القلة للعموم ، فلا فرق بين الثمرات والثمار ، إذ الألف واللام للاستغراق فيهما ، ولذلك رد المحققون على من نقد على حسان قوله : لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما بأن هذا جمع قلة ، فكان ينبغي على زعمه أن يقول : الجفان وسيوفنا ، وهو نقد غير صحيح لما ذكرناه من أن الاستغراق ينقله ، وأبعد من جعل من زائدة ، وجعل الألف واللام للاستغراق لوجهين : أحدهما : زيادة من في الواجب ، وقيل معرفة ، وهذا لا يقول به أحد من البصريين والكوفيين إلا الأخفش . والثاني : أنه يلزم منه أن يكون جميع الثمرات التي أخرجها رزقاً لنا ، وكم من شجرة أثمرت شيئاً لا يمكن أن يكون رزقاً لنا ، وإن كانت للتبعيض كان بعض الثمار رزقاً لنا وبعضها لا يكون رزقاً لنا ، وهو الواقع . وناسب في الآية تنكير الماء وكون من دالة على التبعيض وتنكير الرزق ، إذ المعنى : وأنزل من السماء بعض الماء فأخرج به بعض الثمرات بعض رزق لكم ، إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات ، إنما ذلك بعض رزقهم ، ومن الثمرات يحتمل أن يكون في موضع المفعول به بأخرج ، ويكون على هذا رزقاً منصوباً على الحال إن أُريد به المرزوق كالطحن والرعي ، أو مفعولاً من أجله إن أريد به المصدر ، وشروط المفعول له فيه موجودة ، ويحتمل أن يكون متعلقاً بأخرج ، ويكون رزقاً مفعولاً بأخرج . وقرأ ابن السميفع : من الثمرة على التوحيد ، يريد به الجمع كقولهم : فلان أدركت ثمرة بستانه ، يريدون ثماره . وقولهم : للقصيدة كلمة ، وللقرية مدرة ، لا يريدون بذلك الإفراد . ولكم : إن أريد بالرزق المصدر كانت الكاف مفعولاً به واللام منوية لتعدّي المصدر إليه نحو : ضربت ابني تأديباً له ، أي تأديبه ، وإن أريد به المرزوق كان في موضع الصفة فتتعلق اللام بمحذوف ، أي كائناً لكم ، ويحتمل أن تكون لكم متعلقاً بأخرج ، أي فأخرج لكم به من الثمرات رزقاً . وانتهى عند قوله : رزقاً لكم ذكر خمسة أنواع من الدلائل : اثنين من الأنفس خلقهم وخلق من قبلهم ، وثلاثة من غير الأنفس كون الأرض فراشاً وكون السماء بناءً ، والحاصل من مجموعهما تقدم خلق الإنسان لأنه أقرب إلى معرفته ، وثنّى بخلق الآباء ، وثلث بالأرض لأنها أقرب إليه من السماء ، وقدّم السماء على نزول المطر وإخراج الثمرات ، لأن هذا كالأمر المتولد بين السماء والأرض والأثر متأخر عن المؤثر . وقيل : قدم المكلفين لأن خلقهم أحياء قادرين أصل لجميع النعم . وأما خلق السماء والأرض والماء والثمر ، فإنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة والعقل . وقد اختلف أيهما أفضل ، ومن قال السماء أفضل قال : لأنها متعبد الملائكة وما فيها من بقعة عصى اللّه فيه ، ولأن آدم لما عصاه قال : لا تسكن جواري ، ولتقديم السماء على الأرض في أكثر الآيات ، ولأن فيها العرش والكرسي واللوح المحفوظ والقلم ، وأنها قبلة الدعاء . ومن قال الأرض أفضل قال : لأن اللّه وصف منها بقاعاً بالبركة ، ولأن الأنبياء مخلوقون منها ، ولأنها مسجد وطهور . {فَلاَ تَجْعَلُواْ للّه أَندَاداً } ظاهره أنه نهى عن اتخاذ الأنداد ، وسموا أنداداً على جهة المجاز من حيث أشركوهم معه تعالى في التسمية بالإلهية ، والعبادة صورة لا حقيقة لأنهم لم يكونوا يعبدونهم لذواتهم بل للتقرب إلى اللّه تعالى ، وكانوا يسمون اللّه إله الآلهة ورب الأرباب ، ومن شابه شيئاً في وصف مّا قيل : هو مثله وشبهه ونده في ذلك الوصف دون بقية أوصافه ، والنهي عن اتخاذ الأنداد بصورة الجمع هو على حسب الواقع لأنهم لم يتخذوا له تعالى نداً واحداً ، وإنما جعلوا له أنداداً كثيرة ، فجاء النهي على ما كانوا اتخذوه ، ولذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل : أرباً واحداً أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور وقرأ زيد بن علي بن محمد بن السميفع : نداً على التوحيد ، وهو مفرد في سياق النهي ، فالمراد به العموم ، إذ ليس المعنى : فلا تجعلوا للّه نداً واحداً بل أنداداً ، وهذا النهي متعلق في بالأمر قوله :{ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } ،أي فوحدوه وأخلصوا له العبادة ، لأن أصل العبادة هو التوحيد . قال الزمخشري : متعلق بلعل ، على أن ينتصب تجعلوا انتصاب فأطَّلِعَ في قوله : { لَّعَلّى أَبْلُغُ الاْسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى } ، في رواية حفص عن عاصم ، أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه ، انتهى كلامه . فعلى هذا لا تكون لا ناهية بل نافية ، وتجعلوا منصوب على جواب الترجي ، وهو لا يجوز على مذهب البصريين ، إنما ذهب إلى جواز ذلك الكوفيون ، أجروا لعل مجرى هل . فكما أن الاستفهام ينصب الفعل في جوابه فكذلك الترجي . فهذا التخريج الذي أخرجه الزمخشري لا يجوز على مذهب البصريين ، وفي كلامه تعليق لعلكم تتقون بخلقكم ، ألا ترى إلى تقديره أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه ؟ فلا تشبهوه بخلقه ، وهو جار على ما مر من مذهبه الاعتزالي ، ويجوز أن يكون متعلقاً بالذي إذا جعلته خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية ، فلا تجعلوا له أنداداً . والظاهر في هذا القول هو ما قدمناه أولاً من تعلقه بقوله :{ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } : جملة حالية ، وفيها من التحريك إلى ترك الأنداد وإفراد اللّه بالوحدانية ما لا يخفى ، أي أنتم من ذوي العلم والتمييز بين الحقائق والإدراك للطائف الأشياء والاستخراج لغوامض الدلائل ، في الرتبة التي لا تليق لمن تحلى بها أن يجعل للّه نداً وهو خلقه . إذ ذاك فعل من كان أجهل العالم وأبعدهم عن الفطنة وأكثرهم تجويزاً للمستحيلات . ومفعول تعلمون متروك لأن المقصود إثبات أنهم من أهل العلم والمعرفة . والتمييز تخصيص العلم بشيء ، قال معناه ابن قتيبة ، لأنه فسر تعلمون بمعنى تعقلون ، وقيل : هو محذوف اختصاراً تقديره : وأنتم تعلمون أنه خلق السموات وأنزل الماء ، وفعل ما شرحه في هذه الآيات . ومعنى هذا مروي عن ابن عباس وقتادة ومقاتل ، أو أنتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابيكم التوراة والإنجيل . وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس ، أو أنه لا ند له ، قاله مجاهد ، أو أنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه ، ذكره علي بن عبيد اللّه ، أو وأنتم تعلمون أنها حجارة ، قاله أبو محمد بن الخشاب ، أو وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت ، أو وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله كقوله :{ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء } ؟ قالهما الزمخشري والمخاطب بقوله : فلا تجعلوا ظاهره أنه للناس المأمورين باعبدوا ربكم ، وقد تقدمت أقاويل السلف في ذلك . قال ابن فورك : ويحتمل أن يكون الخطاب للمؤمنين ، المعنى : فلا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا للّه أنداداً بعد علمكم أن العلم هو نفي الجهل بأن اللّه واحد . قال أبو محمد بن عطية ، هذه الآية تعطي أن اللّه تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق ، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا ، فقد أخذ بطرف من جعل نداً ، انتهى . وقول أبي محمد يعطي أن اللّه أغنى الإنسان ، خطأ في التركيب ، لأن أعطى لا تنوب أنّ ومعمولاها مناب مفعوليها ، بخلاف ظن ، فإنها تنوب مناب مفعوليها ، ولذلك ذكر في علم العربية . قال بعض المفسرين : اختص تعالى بهذه المخلوقات وهي : الخلقة البشرية ، والبنيتان الأرضية والسماوية ، لأنها محل الاعتبار ومسرح الإبصار ومواطن المنافع الدنيوية والأخروية ، وبها يقوم الدليل على وجود الصانع وقدرته وحكمته وحياته وإرادته ، وغير ذلك من صفاته الذاتية والفعلية ، وانفراده بخلقها وأحكامها ، وقدم الخلقة البشرية ، وإن كانت للعالم الأصغر ، لما فيها من بدائع الصنعة ما لا يعبر عنه وصف لسان ولا يحيط بكنهه فكرجنان ، وظهور حسن الصنعة في الأشياء اللطيفة الجرم أعظم منه في الأجرام العظام ، ولأن اعتبار الإنسان بنفسه في تقلب أحواله أقرب إلى ذهنه . قال تعالى : { وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } ،أو لأن العرب عادتها تقديم الأهم عندها والمعتنى به ، قال : وهو تعالى بإصلاح حال البنية البشرية أكثر اهتماماً من غيرها من المخلوقات ، لأنها أشرف مخلوقاته وأكرمها عليه . قال تعالى :{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىءادَمَ } الآية ، ولأنه تعالى خلق هذه الأشياء منافع لبني آدم وأعدها نعماً يمتن بها عليهم ، وذكر المنعم عليه يتقدم على ذكر النعمة . ثم إنه تعالى لما عرفهم أنه خالقهم أخبرهم أنه جعل لهم مكاناً يستقرون عليه ، إذ كانت حكمته اقتضت ذلك ، فيستقرون فيه جلوساً ونوماً وتصرفاً في معايشهم ، وجعل منه سهلاً للقرار والزرع ، ووعراً للاعتصام ، وجبالاً لسكون الأرض من الاضطراب . ثم لما منّ عليهم بالمستقر أخبرهم بجعل ما يقيهم ويظلهم ، وجعله كالخيمة المضروبة عليهم ، وأشهدهم فيها من غرائب الحكمة بأن أمسكها فوقهم بلا عمد ولا طنب لتهتدي عقولهم ، أنها ليست مما يدخل تحت مقدور البشر ، ثم نبههم على النعمة العظمى ، وهي إنزال المطر الذي هو مادة الحياة وسبب اهتزاز الأرض بالنبات ، وأجناس الثمرات . وقدم ذكر الأرض على السماء ، وإن كانت أعظم في القدرة وأمكن في الحكمة ، وأتم في النعمة وأكبر في المقدار ، لأن السقف والبنيان ، فيما يعهد ، لا بد له من أساس وعمد مستقر على الأرض ، فبدأ بذكرها ، إذ على متنها يوضع الأساس وتستقر القواعد ، إذ لا ينبغي ذكر السقف أولاً قبل ذكر الأرض التي تستقر عليها قواعده ، أو لأن الأرض خلقها متقدم على خلق السماء ، فإنه تعالى خلق الأرض ومهد رواسيها قبل خلق السماء . قال تعالى :{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ } إلى آخر الآيات ، أو لأن ذلك من باب الترقي بذكر الأدنى إلى ذكر الأعلى . وقد تضمنت هاتان الآيتان من بدائع الصنعة ، ودقائق الحكمة ، وظهور البراهين ، ما اقتضى تعالى أنه المنفرد بالإيجاد ، المتكفل للعباد ، دون غيره من الأنداد ، التي لا تخلق ولا ترزق ولا لها نفع ولا ضر ، ألا للّه الخلق والأمر . قال بعض أصحاب الإشارات : لما امتن تعالى عليهم بأنه خلقهم والذين من قبهلم ، ضرب لهم مثلاً يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم ، وأنهم وإن كانوا متوالدين بين ذكر وأنثى ، مخلوقين { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى } ، هو تعالى خالقهم على الحقيقة ، ومصوّرهم في الأرحام كيف يشاء ، ومخرجهم طفلاً ، ومربيهم بما يصلحهم من غذاء وشراب ولباس ، إلى غير ذلك من المنافع التي تدعو حاجتهم إليها فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الزوج ، وهي أيضاً تسمى فراشاً ، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها ، وضرب الماء النازل من السماء مثلاً للنطفة التي تنزل من صلب الأب ، وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات بالولد الذي يخرج من بطن الأم ، يؤنس تعالى بذلك عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق ، ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه ، كما أنه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها ، ومخرج أشجارها من بطن الأرض ، فإذا أوضح ذلك لهم أفردوه بالإلهية ، وخصوه بالعبادة ، وحصلت لهم الهداية . |
﴿ ٢٢ ﴾