٤١وآمنوا بما أنزلت . . . . . {وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ } : ظاهره أنه أمر لبني إسرائيل ، لأن المأمورين قبل هم ، وهذا معطوف على ما قبله ، فظاهره اتحاد المأمور . وقيل : أنزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه ، علماء اليهود ورؤسائهم ، والظاهر الأول ، ويندرج فيه كعب ومن معه . وما في قوله : { بِمَا أَنزَلْتُ } موصولة ، أي بالذي أنزلت ، والعائد محذوف تقديره : أنزلته ، وشروط جواز الحذف فيه موجودة ، والذي أنزل تعالى هو القرآن ، والذي معهم هو التوراة والإنجيل . وقال قتادة : المراد { بِمَا أَنزَلْتُ } : من كتاب ورسول تجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، وأبعد من جعل ما مصدرية ، وأن التقدير : وآمنوا بإنزالي لما معكم من التوراة ، فتكون اللام في لما من تمام المصدر لا من تمام .{ مُصَدّقاً} وعلى القول الأول يكون { لّمَا مَعَكُمْ } من تمام { مُصَدّقاً } ، واللام على كلا التقديرين في لما مقوية للتعدية ، كهي في قوله تعالى :{ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} وإعراب مصدقاً على قول من جعل ما مصدرية حال من ما في قوله :{ لّمَا مَعَكُمْ} ولا نقول : يبعد ذلك لدخول حرف الجر على ذي الحال ، لأن حرف الجر كما ذكرناه هو مقوّ للتعدية ، فهو كالحرف الزائد ، وصار نظير : زيد ضارب ، مجردة لهند ، التقدير : ضارب هنداً مجردة ، ثم تقدمت هذه الحال ، وهذا جائز عندنا ، ويبعد أن يكون حالاً من المصدر المقدر لوجهين : أحدهما : الفصل بين المصدر ومعموله الحال المصدر . والوجه الثاني : أنه يبعد وصف الإنزال بالتصديق إلا أن يتجوّز به ، ويراد به المنزل ، وعلى هذا التقدير لا يكون لما معكم من تمامه ، لأنه إذا أريد به المنزل لا يكون متعدياً للمفعول . والظاهر أن مصدقاً حال من الضمير العائد على الموصول المحذوف ، وهي حال مؤكدة ، والعامل فيها أنزلت . وقيل : حال من ما في قوله : بما أنزلت ، وهي حال مؤكدة أيضاً . {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } : أفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة غير صفة ، فإنه يبقى مفرداً مذكراً ، والنكرة تطابق ما قبلها ، فإن كان مفرداً كان مفرداً ، وإن كان تثنية كان تثنية ، وإن كان جمعاً كان جمعاً ، فتقول : زيد أفضل رجل ، وهند أفضل امرأة ، والزيدان أفضل رجلين ، والزيدون أفضل رجال . ولا تخلو تلك النكرة المضاف إليها أفعل التفضيل من أن تكون صفة أو غير صفة ، فإن كانت غير صفة فالمطابقة كما ذكرنا . وأجاز أبو العباس : إخوتك أفضل رجل ، بالإفراد ، ومنع ذلك الجمهور . وإن كانت صفة ، وقد تقدم أفعل التفضيل جمع جازت المطابقة وجاز الإفراد ، قال الشاعر : أنشده الفراء : وإذا هم طعموا فألأم طاعم وإذا هم جاعوا فشرّ جياع فأفرد بقوله : طاعم ، وجمع بقوله : جياع . وإذا أفردت النكرة الصفة ، وقبل أفعل التفضيل جمع ، فهو عند النحويين متأوّل ، قال الفراء : تقديره من طعم ، وقال غيره : يقدر وصفاً لمفرد يؤدي معنى جمع ، كأنه قال : فألأم طاعم ، وحذف الموصوف ، وقامت الصفة مقامه ، فيكون ما أضيف إليه في التقدير وفق ما تقدمه . وقال بعض الناس : يكون التجوز في الجمع ، فإذا قيل مثلاً الزيدون أفضل عالم ، فالمعنى : كل واحد من الزيدين أفضل عالم . وهذه النكرة أصلها عند سيبويه التعريف والجمع ، فاختصروا الألف واللام وبناء الجمع . وعند الكوفيين أن أفعل التفضيل هو النكرة في المعنى ، فإذا قلت : أبوك أفضل عالم ، فتقديره : عندهم أبوك الأفضل العالم ، وأضيف أفضل إلى ما هو هو في المعنى . وجميع أحكام أفعل التفضيل مستوفاة في كتب النحو . وعلى ما قررناه تأولوا أول كافر بمن كفر ، أو أول حزب كفر ، أو لا يكن كل واحد منكم أول كافر . والنهي عن أن تكونوا أول كافر به لا يدل ذلك على إباحة الكفر لهم ثانياً أو آخراً ، فمفهوم الصفة هنا غير مراد . ولما أشكلت الأولية هنا زعم بعضهم أن أول صلة يعني زائدة ، والتقدير : ولا تكونوا كافرين به ، وهذا ضعيف جداً . وزعم بعضهم أن ثم محذوفاً معطوفاً تقديره : ولا تكونوا أوّل كافر به ولا آخر كافر ، وجعل ذلك مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه ، وخص الأولية بالذكر لأنها أفحش ، لما فيها من الابتداء بها ، وهذا شبيه بقول الشاعر : من أناس ليس في أخلاقهم عاجل الفحش ولا سوء جزع لا يريد أن فيهم فحشاً آجلاً ، بل أراد لافحش عندهم ، لا عاجلاً ، ولا آجلاً ، وتأوله بعضهم على حذف مضاف ، أي : ولا تكونوا مثل أول كافر به ، أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكوراً في التوراة موصوفاً مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له ، وبعضهم على صفة محذوفة ، أي أول كافر به من أهل الكتاب ، إذ هم منظور إليهم في هذا مظنون بهم علم ، وبعضهم على حذف صلة يصح بها المعنى ، التقدير : ولا تكونوا أول كافر به مع المعرفة ، لأن كفر قريش كان مع الجهل ، وهذا القول شبيه بالذي قبله . وبعضهم قدر صلة غير هذه ، أي ولا تكونوا أول كافر به عند سماعكم لذكره ، بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه . وقيل : ذكر الأولية تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول مؤمن به ، لمعرفتهم به وبصفته ، ولأنهم كانوا هم المبشرين بزمانه والمستفتحين على الذين كفروا به ، فلما بعث كان أمرهم على العكس ، قال تعالى : { فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } ، وقال القشيري : لا تسنوا الكفر سنة ، فإن وزر المبتدئين فيما يسنون أعظم من وزر المقتدين فيما يتبعون . والضمير في به عائد على الموصول في بما أنزلت ، وهو القرآن ، قاله ابن جريج ، أو على محد صلى اللّه عليه وسلم ، ودل عليه المعنى ، لأن ذكر المنزل يدل على ذكر المنزل عليه ، قاله أبو العالية ، أو على النعمة على معنى الإحسان ، ولذلك ذكر الضمير ، قاله الزجاج ، أو على الموصول في لما معكم ، لأنهم إذا كفروا بما يصدقه ، فقد كفروا به ، والأرجح الأول ، لأنه أقرب ، وهو منطوق به مقصود للحديث عنه ، بخلاف الأقوال الثلاثة . {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} الاشتراء هنا مجاز يراد به الاستبدال ، كما قال : كما اشترى المسلم إذ تنصرا وقال آخر : فإني شريت الحلم بعدك بالجهل ولما كان المعنى على الاستبدال ، جاز أن تدخل الباء على الآيات ، وإن كان القياس أن تدخل على ما كان ثمناً ، لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشترى به ، لكن لما دخل الكلام على معنى الاستبدال جاز ذلك ، لأن معنى الاستبدال يكون المنصوب فيه هو الحاصل ، وما دخلت عليه الباء هو الزائل ، بخلاف ما يظن بعض الناس أن قولك : بدلت أو أبدلت درهماً بدينار معناه : أخذت الدينار بدلاً عن الدرهم ، والمعنى ، واللّه أعلم : ولا تستبدلوا بآياتي العظيمة أشياء حقيرة خسيسة . ولو أدخل الباء على الثمن دون الآيات لانعكس هذا المعنى ، إذ كان يصير المعنى : أنهم هم بذلوا ثمناً قليلاً وأخذوا الآيات . قال المهدوي : ودخول الباء على الآيات كدخولها على الثمن ، وكذلك كلّ ما لا عين فيه ، وإذا كان في الكلام دنانير أو دراهم دخلت الباء على الثمن ، قاله الفراء . انتهى كلام المهدوي ومعناه : أنه إذا لم يكن دنانير ولا دراهم في البيع صح أن يكون كل واحد من المبذول ثمناً ومثمناً ، لكن يختلف دخول الباء بالنسبة لمن نسب الشراء إلى نفسه من المتعاقدين جعل ما حصل هو المثمن ، فلا تدخل عليه الباء ، وجعل ما بذل هو الثمن فأدخل عليه الباء ، ونفس الآيات لا يشترى بها ، فاحتيج إلى حذف مضاف ، فقيل تقديره : بتعليم آياتي ، قاله أبو العالية ، وقيل : بتغيير آياتي ، قاله الحسن . وقيل : بكتمان آياتي ، قاله السدي . وقيل : لا يحتاج إلى حذف مضاف ، بل كنى بالآيات عن الأوامر والنواهي . وعلى الأقوال الثلاثة التي قبل هذا القول تكون الآيات ، ما أنزل من الكتب ، أو القرآن ، أو ما أوضح من الحجج والبراهين ، أو الآيات المنزلة عليهم في التوراة والإنجيل المتضمنة الأمر بالإيمان برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وعلى الأقاويل في ذلك المضاف المقدر ، والقول بعدها اختلفوا في المعنى بقوله : ثمناً قليلاً . فمن قال : إن المضاف هو التعليم ، قال : الثمن القليل هو الأجرة على التعليم ، وكان ذلك ممنوعاً منه في شريعتم ، أو الراتب المرصد لهم على التعليم ، فنهوا هنه ، ومن قال : هو التغيير ، قال الثمن القليل هو الرّياسة التي كانت في قومهم خافوا فواتها لو صاروا أتباعاً لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ومن جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي ، جعل الثمن القليل هو ما يحصل لهم من شهوات الدنيا التي اشتغلو بها عن إيقاع ما أمراللّه به واجتناب ما نهى عنه ، ووصف الثمن بالقليل ، لأن ما حصل عوضاً عن آيات اللّه كائناً ما كان لا يكون إلا قليلاً ، وإن بلغ ما بلغ ، كما قال تعالى : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ } ، فليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف التي تخصص النكرات ، بل من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات ، إذ لا يكون إلا قليلاً . ويحتمل أن يكون ثم معطوف تقديره : ثمناً قليلاً ولا كثيراً ، فحذف لدلالة المعنى عليه . وقد استدل بعض أهل العلم بقوله :{ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً } على نع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب اللّه والعلم . وقد روي في ذلك أحاديث لا تصح ، وقد صح أنهم قالوا : يا رسول اللّه ، إنا نأخذ على كتاب اللّه أجراً ، فقال : { إن خير ما أخذتم عليه أجراً كتاب اللّه} . وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم ، وإنما نقل عن الزهري وأبي حنيفة الكراهة ، لكون ذلك عبادة بدنية ، ولا دليل لذلك الذاهب في الآية ، وقد مرّ تفسيرها . {وَإِيَّاىَ فَاتَّقُونِ } : الكلام عليه إعراباً ، كالكلام على قوله :{ وَإِيَّاىَ فَارْهَبُونِ } ، ويقرب معنى التقوى من معنى الرهبة . قال صاحب المنتخب : والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف ، وأمّا الاتقاء فإنه يحتاج إليه عند الجرم بحصول ما يتقي منه ، فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم ، ثم أمرهم بالتقوى لأن تعين العقاب قائم ، انتهى كلامه . ومعنى جواز العقاب هناك وتعيينه هنا : أن ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعهد ظاهره أنه من المعاصي التي تجوز العقاب ، إذ يجوز أن يقع العفو عن ذلك ، وترك الإيمان بما أنزل اللّه تعالى ، وشراء الثمن اليسير بآيات اللّه من المعاصي التي تحتم العقاب وتعينه ، إذ لا يجوز أن يقع العفو عن ذلك ، فقيل في ذلك :{ فَارْهَبُونِ } ، وقيل في هذا :{ فَاتَّقُونِ } ،أي اتخذوا وقاية من عذاب اللّه إن لم تمتثلوا ما أمرتكم به . والأحسن أن لا يقيد ارهبون واثقون بشيء ، بل ذلك أمر بخوف اللّه واتقائه ، ولكن يدخل فيه ما سيق الأمر عقيبه دخولاً واضحاً ، فكان المعنى : ارهبون ، إن لم تذكروا نعمتي ولم توفوا بعهدي ، واتقون ، إن لم تؤمنوا بما أنزلت وإن اشترتيتم بآياتي ثمناً قليلاً . |
﴿ ٤١ ﴾