٦٤ثم توليتم من . . . . . {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مّن بَعْدِ ذالِكَ } : أي أعرضتم عن الميثاق والعمل بما فيه ، وأصل التولي : أن يكون بالجسم ، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات ، اتساعاً ومجازاً . ودخول ثم مشعر بالمهلة ، ومن تشعر بابتداء الغاية . لكن بين الجملتين كلام محذوف ، التقدير ، واللّه أعلم : فأخذتم ما آتيناكم ، وذكرتم ما فيه ، وعملتم بمقتضاه . فلا بدّ من ارتكاب مجاز في مدلول من ، وأنه لسرعة التولي منهم واجتماعهم عليه ، كأنه ما تخلل بين ما أمروا به وبين التولي شيء . وقد علم أنهم بعدما قبلوا التوراة ، تولوا عنها بأمور ، فحرّفوها ، وتركوا العمل بها ، وقتلوا الأنبياء ، وكفروا باللّه ، وعصوا أمره . ومن ذلك ما اختص به بعضهم ، وما عمله أوائلهم ، وما عمله أواخرهم . ولم يزالوا في التيه ، مع مشاهدتهم الأعاجيب ، يخالفون موسى ، ويظاهرون بالمعاصي في سكرهم ، حتى خسف ببعضهم ، وأحرقت النار بعضهم ، وعوقبوا بالطاعون ، وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرأون بها ، ثم فعل ساحروهمم ما لا خفاء به ، حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس ، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله ، والقرآن ، وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة . فالجملة معروفة ، وذلك إخبار من اللّه عن أسلافهم . فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وحالهم في كتابه ما ذكر . والإشارة بذلك في قوله :{ مِن بَعْدِ ذالِكَ } إلى قبول ما أوتوه ، أو إلى أخذ الميثاق والوفاء به ، ورفع الجبل ، أو خروج موسى من بينهم ، أو الإيمان ، أقوال . {فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } ، الفضل : الإسلام ، والرحمة : القرآن ، قاله أبو العالية . أو الفضل : قبول التوبة ، والرحمة : العفو عن الزلة ، أو الفضل : التوفيق للتوبة ، والرحمة : القبول . أو الفضل والرحمة ، فأخبر اللّه عنهم . أو الفضل والرحمة : بعثة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإدراكهم لمدته . وعلى هذا القول يكون من تلوين الخطاب ، إذ صار هذا عائداً على الحاضرين . والأقوال قبله تدل على أن المخاطب به من سلف ، لأنه جاء في سياق قصتهم . وفضل اللّه على مذهب البصريين مرفوع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : موجود ، وما يشبهه مما يليق بالموضع . وعليكم : متعلق بفضل ، أو معمول له ، فلا يكون في موضع الخبر . والتقدير : { فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } موجودان ، { لَكُنتُم } : جواب لولا . والأكثر أنه إذا كان مثبتاً تدخله اللام ، ولم يجىء في القرآن مثبتاً إلا باللام ، إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى :{ وَهَمَّ بِهَا } ، جواب : لولا قدم فإنه لا لام معه . وقد جاء في كلام العرب بغير لام ، وبعض النحويين يخص ذلك بالشعر ، قال الشاعر : لولا الحياء ولولا الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري وقد جاء في كلامهم بعد اللام ، قد ، قال الشاعر : لولا الأمير ولولا حق طاعته لقد شربت دماً أحلى من العسل وقد جاء في كلامهم أيضاً حذف اللام وإبقاء قد نحو : لولا زيد قد أكرمتك .{ مّنَ الْخَاسِرِينَ } : تقدّم أن الخسران : هو النقصان ، ومعناه من الهالكين في الدنيا والأخرى . ويحتمل أن يكون كان هنا بمعنى : صار . قال القشيري : أخذ سبحانه ميثاق المكلفين ، ولكنّ قوماً أجابوه طوعاً ، لأنه تعرّف إليهم ، فوحدوه ، وقوماً أجابوه كرهاً ، لأنه ستر عليهم ، فجحدوه . ولا حجة أقوى من عيان ما رفع فوقهم من الطور ، ولكن عدموا نور البصيرة ، فلم ينفعهم عيان البصر . قال تعالى :{ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } ،أي رجعتم إلى العصيان ، بعد مشاهدتكم الإيمان بالعيان ، ولولا حكمه بإمهاله ، وحكمه بإفضاله ، لعاجلكم بالعقوبة ، ولحلّ بكم عظيم المصيبة . وقال بعض أهل اللطائف : كانت نفوس بني إسرائيل ، من ظلمات عصيانها ، تخبط في عشواء حالكة الجلباب ، وتخطر ، من غلوائها وعلوّها ، في حلتي كبر وإعجاب . فلما أمروا بأخذ التوراة ، ورأوا ما فيها من أثقال التكاليف ، ثارت نفوسهم الآبية ، فرفع اللّه عليهم الجبل ، فوجدوه أثقل مما كلفوه ، فهان عليهم حمل التوراة معما فيها من التكليف والنصب ، إذ ذاك أهون من الهلاك ، قال الشاعر : إلى اللّه يدعى بالبراهين من أبى فإن لم يجب نادته بيض الصوارم |
﴿ ٦٤ ﴾