١١٧

بديع السماوات والأرض . . . . .

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } : لما ذكر أنه مالك لجميع من في السموات والأرض ، وأنهم كلّ قانتون له ، وهم المظروف للسموات والأرض ، ذكر الظرفين وخصهما بالبداعة ، لأنهما أعظم ما نشاهده من المخلوقات . وارتفاع بديع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وهو من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل . فالمجرور مشبه بالمفعول ، وأصله الأول بديع سمواته ، ثم شبه الوصف فأضمر فيه ، فنصب السموات ، ثم جر من نصب . وفيه أيضاً ضمير يعود على اللّه تعالى ، ويكون المعنى في الأصل أنه تعالى بدعت

سمواته ، أي جاءت في الخلق على شكل مبتدع لم يسبق نظيره . وهذا الوجه ابتدأ به الزمخشري ، إلا أنه قال : وبديع السموات من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، وهذا ليس عندنا . كذلك بل من إضافة الصفة المشبهة إلى منصوبها . والصفة عندنا لا تكون مشبهة حتى تنصب أو تخفض ،

وأما إذا رفعت ما بعدها فليس عندنا صفة مشبهة ، لأن عمل الرفع في الفاعل يستوي فيه الصفات المتعدية وغير المتعدية . فإذا قلنا : زيد قائم أبوه ، فقائم رافع للأب على حدّ رفع ضارب له . إذا

قلت : زيد ضارب أبوه عمراً ، لا تقول : إن قائماً هنا من حيث عمل الرفع شبه بضارب ، وإذا كان كذلك ، فإضافة اسم الفاعل إلى مرفوعه لا يجوز لما تقرّر في علم العربية ، إلا إن أخذنا كلام الزمخشري على التجوّز فيمكن ، ويكون المعنى من إضافة الصفة المشبهة إلى ما كان فاعلاً بها قبل أن يشبه .

وحكى الزمخشري وجهاً ثانياً قال :

وقيل البديع بمعنى المبدع ، كما أن السميع في قول عمرو :

أمن ريحانة الداعي السميع

بمعنى : المسمع ، وفيه نظر . انتهى كلامه . وهذا الوجه لم يذكر ابن عطية غيره ، قال : وبديع مصروف من مبدع ، كبصير من مبصر ، ومنه قول عمرو بن معدى كرب : أمن ريحانة الداعي السمي

ع يؤرّقني وأصحابي هجوع

يريد : المسمع والمبدع والمنشىء ، ومنه أصحاب البدع ، ومنه قول عمر بن الخطاب في صلاة رمضان : نعمت البدعة هذه ، انتهى . والنظر الذي ذكره الزمخشري ، واللّه أعلم ، أن فعيلاً بمعنى مفعل لا ينقاس مع أن بيت عمرو محتمل للتأويل . وعلى هذا الوجه يكون من باب إضافة اسم الفاعل لمفعوله .

وقرأ المنصور : بديع بالنصب على المدح ، وقرىء بالجرّ على أنه بدل من الضمير في له .

{وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } : لما ذكر ما دل على الاختراع ، ذكر ما يدل على طواعية المخترع وسرعة تكوينه . ومعنى قضى هنا : أراد ، أي إذا أراد إنشاء أمر واختراعه .

قال ابن عطية : وقضى : معناه قدر ، وقد يجيء بمعنى : أمضى . ويتجه في هذه الآية المعنيان . فعلى مذهب أهل السنة : قدر في الأزل وأمضى فيه ، وعلى مذهب المعتزلة : أمضى عند الخلق والإيجاد . والأمر : واحد الأمور ، وليس هنا مصدر أمر يأمر . والمعتقد في هذه الآية أن اللّه لم يزل آمراً للمعدومات بشرط وجودها ، قادراً مع تأخر المقدورات ، عالماً مع تأخر وقوع المعلومات . وكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات ، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن ، وكلّ ما استند إلى اللّه من قدرة وعلم فهو قديم لم يزل . انتهى ما نقلناه هنا من كلامه . وقال المهدوي :{ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا } ،أي أتقنه وأحكمه وفرغ منه . ومعنى : فإنما يقول له كن فيكون ، يقول من أجله .

وقيل : قال له كن ، وهو معدوم ، لأنه بمنزلة الموجود ، إذ هو عنده معلوم . قال الطبري : أمره للشيء بكن لا يتقدّم الوجود ولا يتأخر عنه ، فلا يكون الشيء مأموراً بالوجود إلا وهو موجود

بالأمر ، ولا موجوداً بالأمر إلا وهو مأمور بالوجود . قال : ونظيره قيام الأموات من قبورهم لا يتقدّم دعاء اللّه ولا يتأخر عنه ، كما قال : { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الاْرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} فالهاء في له تعود على الأمر ، أو على القضاء الذي دلّ عليه قضى ، أو على المراد الذي دلّ عليه الكلام . انتهى ما نقلناه من كتابه . وقال مكي : معنى الآية أنه عالم بما سيكون وما هو كائن ، فقوله : كن ، إنما هو للموجود في علمه ليخرجه إلى العيان لنا . انتهى كلامه .

وقال الزمخشري : كن فيكون ، من كان التامة ، أي أحدث فيحدث ، وهذا مجاز من الكلام وتمثيل ولا قول ، ثم كما لا قول في قوله :

إذ قالت الأنساع للبطن ألحق

وإنما المعنى : ما قضاه من الأمور وأراد كونه ، فإنما يتكوّن ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف . كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل ، لا يتوقف ولا يمتنع ، ولا يكون منه الإباء . أكد بهذا استبعاد الولادة ، لأن من كان بهذه الصفة من القدرة ، كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها . انتهى كلامه . وقال السجاوندي : كن على التمثيل لنفاذ الأمر ، قال : فقالت له العينان سمعاً وطاعة

وإلا فالمعدوم كيف يخاطب أو علامة للملائكة بحدوث الموجود ، أو على تقدير ما تصوّر كونه في علمه ، أو مخصوص في تحويل الموجود من حال إلى حال ، ولو كان كن مخلوقاً ، لاحتاج إلى أخرى ولا يتناهي ، فدكل على أن القرآن غير مخلوق . انتهى كلامه . قال المهدوي : وفي هذه الآية دليل على أن كلام اللّه غير مخلوق ، لأنه لو كان مخلوقاً لكان قائلاً له : كن ، ولكان قائلاً : لكن كن ، حتى ينتهي ذلك إلى ما لا يتناهى ، وذلك مستحيل مع ما يؤدّي إليه ذلك من أنه لا يوجد من اللّه فعل ألبتة ، إذ لا بد أن يوجد قبله أفعال ، هي أقاويل لا غاية لها ، وذلك مستحيل . ولا يجوز أن يحمل على المجاز ، إذ ذلك إنما يكون في الجمادات ، ولا يكون فيمن يصح منه القول إلا بدليل . ويقوي ذلك أن المصدر فيه الذي هو قولنا من قوله :{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ، وكد بمصدر آخر ، وهو أن نقول ، وأهل العربية مجمعون ، على أنهم إذا أكدوا الفعل بالمصدر كان حقيقة ، ولذلك جاء قوله :{ وَكَلَّمَ اللّه مُوسَى تَكْلِيماً } ، إذ كان اللّه تعالى متولي تكليمه . وقد قيل : إن معنى فإنما يقول له كن فيكون بكونه . انتهى كلام المهدوي . وقال في المنتخب : كن فيكون ليس المراد أنه تعالى يقول كن ، فحينئد يكون ذلك الشيء ، فإن ذلك فاسد من وجوه ، فلا بد من تأويله ، وفيه وجوه :

الأول : وهو الأقوى ، أن المراد نفاذ سرعة قدرة اللّه في تكوين الأشياء ، وإنما يخلقها لا لفكرة ، ونظيرة { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}

الثاني : أنها علامة يعقلها الملائكة ، إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً ، قاله أبو الهذيل .

الثالث : أنه جاء للموجودين الذين قال لهم :{ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } ، ومن جرى مجراهم ، وهو قول الأصم .

الرابع : أنه أمر للأحياء بالموت ، وللموتى بالحياة ، والكل ضعيف ، والقوي هو الأول . انتهى كلامه .

هذا ما نقلناه من كلام أهل التفسير في الآية . وظاهر الآية يدل على أن اللّه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له : كن ،

تبينه الآية الأخرى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ، وقوله :{ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} لكن دليل العقل صد عن اعتقاد مخاطبة المعدوم ، وصد عن أن يكون اللّه تعالى محلاً للحوادث ، لأن لفظة كن محدثة ، ومن يعقل مدلول اللفظ . وكونه يسبق بعض حروفه بعضاً ، لم يدخله شك في حدوثه ، وإذا كان كذلك ، فلا خطاب ولا قول لفظياً ، وإنما ذلك عبارة عن سرعة الإيجاد وعدم اعتياصه ، فهو من مجاز التمثيل ، وكأنه قدر أن المعدوم موجود يقبل الأمر ويمتثله بسرعة ، بحيث لا يتأخر عن امتثال ما أمر به .

وقرأ الجمهور : فيكون بالرفع ، ووجه على أنه على الاستئناف ، أي فهو يكون ، وعزى إلى سيبويه . وقال غيره : فيكون عطف على يقول ، واختاره الطبري وقرّره . و

قال ابن عطية : وهو خطأ من جهة المعنى ، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين حادث ، وقد انتهى ما رده به ابن عطية . ومعنى رده : أن الأمر عنده قد تم ، والتكوين حادث ، وقد نسق عليه بالفاء ، فهو معه ، أي يعتقبه ، فلا يصح ذلك ، لأن القديم لا يعتقبه الحادث . وتقرير الطبري له هو ما تقدم في أوائل الكلام على هذه المسألة ، من أن الأمر لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه . وما رده به ابن عطية لا يتم إلا بأن تحمل الآية على أن ثم قولاً وأمراً قديماً . أما إذا كان ذلك على جهة المجاز ، ومن باب التمثيل ، فيجوز أن يعطف على نقول .

وقرأ ابن عامر : فيكون بالنصب ، وفي آل عمران :{ كُنْ فَيَكُونُ } ونعلمه ، وفي النحل ، وفي مريم ، وفي يس ، وفي المؤمن . ووافقه الكسائي في النحل ويس ، ولم يختلف في { كُنْ فَيَكُونُ } الحق في آل عمران .{ وَكُنْ فَيَكُونُ } قوله الحق في الأنعام أنه بالرفع ، ووجه النصب أنه جواب على لفظ كن ، لأنه جاء بلفظ الأمر ، فشبه بالأمر الحقيقي . ولا يصح نصبه على جواب الأمر الحقيقي ، لأن ذلك إنما يكون على فعلين ينتظم منهما شرط وجزاء نحوه : ائتني فأكرمك ، إذ المعنى : إن تأتني أكرمك . وهنا لا ينتظم ذلك ، إذ يصير المعنى : إن يكن يكن ، فلا بد من اختلاف بين الشرط والجزاء ، إما بالنسبة إلى الفاعل ،

وإما بالنسبة إلى الفعل في نفسه ، أو في شيء من متعلقاته .

وحكى ابن عطية ، عن أحمد بن موسى ، في قراءة ابن عامر : أنها لحن ، وهذا قول خطأ ، لأن هذه القراءة في السبعة ، فهي قراءة متواترة ، ثم هي بعد قراءة ابن عامر ، وهو رجل عربي ، لم يكن ليلحن . وقراءة الكسائي في بعض المواضع ، وهو إمام الكوفيين في علم العربية ، فالقول بأنها لحن ، من أقبح الخطأ المؤثم الذي يجر قائله إلى الكفر ، إذ هو طعن على ما علم نقله بالتواتر من كتاب اللّه تعالى .

﴿ ١١٧