١٦٧وقال الذين اتبعوا . . . . . {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَنقِمُ مِنَّا } ، المعنى : أنهم تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا اللّه ويتبرؤوا منهم في الآخرة إذا حشروا جميعاً ، مثل ما تبرأ المتبوعون أولاً منهم . ولو : هنا للتمني . قيل : وليست التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، ولذلك جاء جوابها بالفاء في قوله :{ فَنَتَبَرَّأَ } ، كما جاء جواب ليت في قوله :{ مَوَدَّةٌ يالَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ } ، وكما جاء في قول الشاعر : فلو نبش المقابر عن كليب فتخبر بالذنائب أي زير والصحيح أن لو هذه هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، وأشربت معنى التمني ، ولذلك جاء بعد هذا البيت جوابها ، وهو قوله : بيوم الشعثمين لقر عينا وكيف لقاء من تحت القبور وأن مفتوحة بعد لو ، كما فتحت بعد ليت في نحو قوله : يا ليت أنا ضمنا سفينه حتى يعود البحر كينونه وينبغي أن يستثنى من المواضع التي تنتصب بإضمار أن بعد الجواب بالفاء ، وأنها إذا سقطت الفاء ، انجزم الفعل هذا الموضع ، لأن النحويين إنما استثنوا جواب النفي فقط ، فينبغي أن يستثنى هذا الموضع أيضاً ، لأنه لم يسمع الجزم في الفعل الواقع جواباً للو التي أشربت معنى التمني إذا حذفت الفاء . والسبب في ذلك أن كونها مشربة معنى التمني ، ليس أصلها ، وإنما ذلك بالجمل على حرف التمني الذي هو ليت . والجزم في جواب ليت بعد حذف الفاء ، إنما هو لتضمنها معنى الشرط ، أو دلالتها على كونه محذوفاً بعدها ، على اختلاف القولين ، فصارت لو فرع فرع ، فضعف ذلك فيها . والكاف في كما : في موضع نصب ، إما نعتاً لمصدر محذوف ، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف على القولين السابقين ، في غير ما موضع من هذا الكتاب . وما في كما : مصدرية ، التقدير : تبرؤوا مثل تبرئهم ، أو فنتبرأه ، أي فنتبرأ التبرؤ مشابهاً لتبرئهم . و قال ابن عطية : الكاف من قوله : كما في موضع نصب على النعت ، إما لمصدر ، أو لحال ، تقديرها : متبرئين . كما انتهى كلامه . أما قوله على النعت ، إما لمصدر ، فهو كلام واضح ، وهو الإعراب المشهور في مثل هذا . وأما قوله : أو لحال ، تقديرها : متبرئين كما ، فغير واضح ، لأنا لو صرحنا بهذه الحال ، لما كان كما منصوباً على النعت لمتبرئين ، لأن الكاف الداخلة على ما المصدرية هي من صفات الفعل ، لا من صفات الفاعل . وإذا كان كذلك ، لم ينتصب على النعت للحال ، لأن الحال هنا من صفات الفاعل ، ولا حاجة لتقدير هذه الحال ، لأنها إذ ذاك تكون حالاً مؤكدة ، ولا نرتكب كون الحال مؤكدة إلا إذا كانت ملفوظاً بها . أما أن تقدر حالاً ونجعلها مؤكدة ، فلا حاجة إلى ذلك . وأيضاً فالتوكيد ينافي الحذف ، لأن ما جيء به لتقوية الشيء لا يجوز حذفه أيضاً . فلو صرح بهذه الحال ، لما ساغ في كما إلا أن تكون نعتاً لمصدر محذوف ، أو حالاً من الضمير المستكن في الحال المصرّح بها ، مثال ذلك : هم محسنون إليّ كما أحسنوا إلى زيد . فكما أحسنوا ليس من صفات محسنين ، إنما هو من صفات الإحسان ، التقدير : على الإعراب المشهور إحساناً مثل إحسانهم إلى زيد . {كَذالِكَ يُرِيهِمُ اللّه أَعْمَالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ } : الكاف عند بعضهم في موضع رفع ، وقدروه الأمر كذلك ، أو حشرهم كذلك ، وهو ضعيف ، لأنه يقتضي زيادة الكاف وحذف مبتدأ ، وكلاهما على خلاف الأصل . والظاهر أن الكاف على بابها من التشبيه ، وأن التقدير مثل إراءتهم تلك الأهوال ، { يُرِيهِمُ اللّه أَعْمَالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ } ، فيكون نعتاً لمصدر محذوف ، فيكون في موضع نصب . وجعل صاحب المنتخب ذلك من قوله : كذلك ، إشارة إلى تبرؤ بعضهم من بعض . والأجود تشبيه الآراءة بالآراء ، وجوزوا في يريهم أن تكون بصرية عديت بالهمزة ، فتكون حسرات منصوباً على الحال ، وأن تكون قلبية ، فتكون مفعولاً ثالثاً ، قالوا : ويكون ثم حذف مضاف ، أي على تفريطهم . وتحسر : يتعدى بعلى ، تقول : تحسرت على كذا ، فعلى هنا متعلقة بقوله : حسرات . ويحتمل أن تكون في موضع الصفة ، فالعامل محذوف ، أي حسرات كائنة عليهم ، وعلى تشعر بأن الحسرات مستعلية عليهم . وأعمالهم ، قيل : هي الأعمال التي صنعوها ، وأضيفت إليهم من حيث عملوها ، وأنهم مأخوذون بها . وهذا على قول من يقول : إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، وهذا معنى قول الربيع وابن زيد : أنها الأعمال السيئة التي ارتكبوها ، فوجب بهم بها النار . وقال ابن مسعود والسدّي : المعنى أعمالهم الصالحة التي تركوها ، ففاتتهم الجنة ، وأضيفت إليهم من حيث كانوا مأمورين بها . قال السدي : ترفع لهم الجنة فينظرون إلى بيوتهم فيها ، لو أطاعوا اللّه تعالى ، فيقال لهم : تلك مساكنكم لو أطعتم اللّه تعالى ، ثم تقسم بين المؤمنين فيرثونهم ، فذلك حين يندمون . وهذا معنى قول بعضهم ، إن أعمالهم قد أحبط ثوابها كفرهم ، لأن الكافر لا يثاب مع كفره . ألا ترى إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم ، وقد ذكر له أن ابن جدعان كان يصل الرحم ويطعم المسكين ، وسئل : هل ذلك نافعة ؟ قال : لا ينفعه ، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ، ومنه قوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} وقيل : المعنى أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم . والظاهر أنها الأعمال التي اتبعوا فيها رؤساءهم وقادتهم ، وهي الكفر والمعاصي . وكانت حسرة عليهم ، لأنهم رأوها مسطورة في صحائفهم ، وتيقنوا الجزاء عليها ، وكان يمكنهم تركها والعدول عنها ، لو شاء اللّه . {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } : هذا يدل على دخول النار ، إذ لا يقال : ما زيد بخارج من كذا إلا بعد الدخول . ولم يتقدم في الآية نص على دخولهم ، إنما تقدم رؤيتهم العذاب ومفاوضة بسبب تبرؤ المتبوعين من الأتباع ، وجاء الخبر مصحوباً بالباء الدالة على التوكيد . وقال الزمخشري : هم بمنزلته في قوله : هم يفرشون اللبد كل طمرّه في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم ، لا على الاختصاص . انتهى كلامه ، وفيه دسيسة اعتزال ، لأنه إذا لم يدل على الاختصاص ، لا يكون فيه رد لقول المعتزلة ، إن الفاسق يخلد في النار ولا يخرج منها . وأما قول صاحب المنتخب : إن الأصحاب احتجوا على أن صاحب الكبيرة من أهل القبلة ، إلى آخر كلامه ، فهو غير مسلم ، ولا دلالة في الآية على شيء من المذهبين . لأنك إذا قلت : ما زيد بمنطلق ، وإنما في ذلك دلالة على نفي انطلاق زيد ، وأما أن في ذلك دلالة على اختصاصه بنفي الانطلاق ، أو مشاركة غيره له في نفي الانطلاق ، فلا إنما يفهم ذلك ، أعني الاختصاص ، بنفي الخروج من النار ، إذ المشاركة في ذلك من دليل خارج ، وهل النفي إلا مركب على الإيجاب ؟ فإذا قلت : زيد منطلق ، فليس في هذا دليل على شيء من الاختصاص ، ولا شيء من المشاركة ، فكذلك النفي ، وكونه قابلاً للخصومة والاشتراك ، يدل على ذلك . ألا ترى أنك تقول : زيد منطلق لا غيره ، وزيد منطلق مع غيره ؟ . وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة . إخباره تعالى بأن الصفا والمروة من معالمه التي جعلها محملاً لعبادته ، وإن كان قد سبق غشيان المشركين لها ، وتقربهم بالأصنام عليها . وصرّح برفع الإثم عمن طاف بهما ممن حج أو اعتمر . ثم ذكر أن من تبرع بخير ، فإن اللّه شاكر لفعله ، عليم بنيته ، لما كان التطوّع يشتمل على فعل ونية ، ختم بهاتين الصفتين المتناسبتين . ثم أخبر تعالى عمن كتم ما أنزل اللّه من الحكم الإلهي من بعد ما بينه في كتابه ، لعنه اللّه وملائكته ومن يسوغ منه اللعن من صالحي عباده . ثم استثنى من تاب وأصلح ، وبين ما كتم . ولم يكتف بالتوبة فقط حتى أضاف إليها الإصلاح ، لأن كتم ما أنزل اللّه من أعظم الإفساد ، إذ فيه حمل الناس على غير المنهج الشرعي . وأضاف التبيين لما كتم حتى يتضح للناس وضوحاً بيناً ما كان عليه من الضلال ، وأنه أقلع عن ذلك ، وسلك نقيض فعله الأول ، فكان ذلك أدعى لزوال ما قرر أولاً من كتمان الحق وبضدها تتبين الأشياء ثم أخبر تعالى عن هؤلاء المستثنين ، أنه يتوب عليهم ، وأنه تعالى لا يتعاظم عنده ذنب ، وإن كان أعظم الذنوب ، إذا تاب العبد منه . ثم أخبر تعالى أنه التواب الرحيم ، بصفتي المبالغة التي في فعال وفعيل ولما ذكر تعالى حال المؤمنين المتسمين بالصبر والصلاة والحج ، وغير ذلك من أعمال البر ، وحال من ارتكب المعاصي ، ثم أقلع عن ذلك وتاب إلى اللّه . ذكر حال من وافى على الكفر ، وأنه تحت لعنة اللّه وملائكته والناس ، وأنهم خالدون في اللعنة ، غير مخفف عنهم العذاب ، ولا مرجؤن إلى وقت . ثم لما كان كفر معظم الكفار إنما هو لاتخاذهم مع اللّه آلهة { أَجَعَلَ الاْلِهَةَ إِلَاهاً واحِداً } ؟{ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللّه قَالَ } ؟{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه } ، وفي الحديث : { أنهم يسألون فيقولون كنا نعبد عزيراً }. أخبر تعالى أن الإله هو واحد لا يتعدد ولا يتجزأ ، ولا له مثيل في صفاته . ثم حصر الإلهية فيه ، فتضمن ذلك أنه هو المثيب المعاقب ، فوصف نفسه بهاتين الصفتين من الرحمانية والرحيمية . ثم أخذ في ذكر ما يدل على الوحدانية والانفراد بالإلهية . فبدأ بذكر اختراع الأفلاك العلوية ، والجرم الكثيف الأرضي ، وما يكون فيهما من اختلاف ما به السكون والحركة ، من الليل والنهار الناشئين عما أودع اللّه تعالى في العالم العلوي ، واختلاف الفلك ذاهبة وآيبة بما ينفع الناس الناشىء ذلك عما أودع في العالم السفلي ، وما يكون مشتركاً بين العالمين ، من إنزال الماء ، وتشقق الأرض بالنبات ، وانتشار العالم فيها . ولما ذكر أشياء في الأجرام العلوية ، وأشياء في الجرم الأرضي ، ذكر شيئاً مما هو بين الجرمين ، وهو تصريف الرّياح والسحاب ، إذ كان بذلك تتم النعمة المقتضية لصلاح العالم في منافعهم البحرية والبرية . ثم ذكر أن هذا كله هي آيات للعاقل ، تدله على وحدانية اللّه تعالى واختصاصه بالإلهية ، إذ من عبدوه من دون اللّه يعلمون قطعاً أنه لا يمكنه اقتدار على شيء مّا تضمنته هذه الآيات ، وأنهم بعض ما حوته الدائرة العلوية والدائرة السفلية ، وأن نسبتهم إلى من لم يعبدوه من سائر المخلوقات نسبة واحدة في الافتقار والتغير ، فلا مزية لهم على غيرهم إلا عند من سلب نور العقل ، وغشبته ظلمات الجهل . ثم ذكر تعالى ، بعد ذكر هذه البينات الواضحات الدالة على الوحدانية واستحقاق العبادة ، أن من الناس متخذي أنداد ، وأنهم يؤثرونهم ويحبونهم مثل محبة اللّه ، فهم يسوّون بين الخالق والمخلوق في المحبة ، { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} ثم ذكر أن من المؤمنين أشدّ حبًّا للّه من هؤلاء لأصناهم . ثم خاطب من خاطب بقوله :{ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } ، حين عاينوا نتيجة اتخاذهم الأنداد ، وهو العذاب ، الحال بهم ، أي لرأيت أمراً عظيماً . ثم نبه على أن أندادهم لا طاقة لها ولا قوة بدفع العذاب عمن اتخذوهم ، لأن جميع القوى والقدر هي للّه تعالى . ثم ذكر تعالى تبرؤ المتبوعين من التابعين وقت رؤية العذاب وزالت المودات التي كانت بينهم ، وأن التابعين تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يؤمنوا ويتبرؤوا من متبوعيهم حيث لا ينفع التمني ولا يمكن أن يقع ، فهو تمني مستحيل ، لأن اللّه تعالى قد حكم وأمضى أن لا عودة إلى الدنيا . ثم ذكرتعالى أنهم بعد رؤيتهم العذاب وتقطع الأسباب ، أراهم أعمالهم ندامات حيث لا ينفع الندم ، ليتضاعف بذلك الألم . ثم ختم ذلك بما ختم لهم من العذاب السرمدي والشقاء الأبدي . نعوذ باللّه من يطا نقماته ، ونستنزل من كرمه العميم نشر رحماته . |
﴿ ١٦٧ ﴾