١٩٦وأتموا الحج والعمرة . . . . . {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه} الإتمام كما تقدّم ضد النقص ، والمعنى : إفعلوهما كاملين ولا تأتوا بهما ناقصين شيئاً من شروطهما ، وأفعالهما التي تتوقف وجود ماهيتهما عليهما ، كما قال غيلان : تمام الحج أن تقف المطايا على خرقاء واضعة اللثام جعل : وقوف المطايا على محبوبته ، وهي : مي ، كبعض مناسك الحج الذي لا يتم إلاَّ به . هذا ظاهر اللفظ ، وقد فسر : الإتمام ، بغير ما يقتضيه الظاهر . قال الشعبي ، وابن زيد : إتمامهما أن لا ينفسخ ، وأن تتمهما إذا بدأت بهما . وقال علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد ، وطاووس : إتمامهما أن تحرم بهما مفردين من دويرة أهلك ، وفعله عمران بن حصين . وقال الثوري : إتمامهما أن تخرج قاصداً لا لتجارة ولا لغير ذلك ، ويؤيد هذا قوله : للّه . وقال القاسم بن محمد وقتادة : إتمامهما أن تحرم بالعمرة وتقضيها في غير أشهر الحج ، وأن تتم الحج دون نقص ولا جبر بدم ، وقالت فرقة : إتمامهما أن تفرد كل واحد من حج أو عمرة ولا تقرن ، والإفراد عند هؤلاء أفضل . وقال قوم : إتمامهما : أن تقرن بينهما ، والقران عند هؤلاء أفضل . وقال ابن عباس ، وعلقمة ، وإبراهيم ، وغيرهم : إتمامها أن تقضي مناسكهما كاملة بما كان فيها من دماء ، وهذا يقرب من القول الأول ، وقال قوم : أن يفرد لكل واحد منهما سفراً . وقيل : أن تكون النفقة حلالاً وقال مقاتل : إتمامهما أن لا تستحلٍ فيهما ما لا يجوز ، وكانوا يشركون في إحرامهم ، يقولون : لبيك اللّهم لبيك ، لا شريك لك إلاَّ شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك . فقال : أتموهما ولا تخلطوا بهما شيئاً . وقال الماتريدي : إنما قال { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه } لأن الكفرة كانوا يفعلون الحج للّه والعمرة للصنم ، وقال المروزي : كان الكفار يحجون للأصنام . وقرأ علقمة : وأقيموا الحج وقرأ طلحة بن مصرف : الحج ، بالكسر هنا ، وفي آل عمران ، وبالفتح في سائر القرآن وتقدّم قراءة ابن إسحاق : الحج بالكسر في جميع القرآن ، وسيأتي ذكر الخلاف في قوله :{ حَجَّ الْبَيْتَ } في موضعه . وقرأ ابن مسعود : واتموا الحج والعمرة إلى البيت للّه وقرأ علي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، وابن عمر والشعبي ، وأبو حيوة ، والعمرة ، للّه بالرفع على الإبتداء والخبر ، فيخرج العمرة عن الأمر ، وينفرد به الحج وروي أيضاً : وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت ، وينبغي أن يحمل هذا كله على التفسير ، لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون . واللّه متعلق بأتمو وهو مفعول لأجله ويجوز أن يكون في موضع الحال ، ويكون العامل محذوفاً تقديره : كائنين للّه ، ولا خلاف في أن الحج فرض ، وأنه أحد الأركان التي بني الإسلام عليها ، وفروضه : النية ، والإحرام ، والطواف المتصل بالسعي بين الصفا والمروة ، خلافاً لأبي حنيفة ، والوقوف بعرفة ، والجمرة ، على قول ابن الماجشون ، والوقوف بمزدلفة على قول الأوزاعي . وأما أعمال العمرة : فنية ، وإحرام ، وطواف ، وسعي . ولا يدل الأمر بإتمام الحج والعمرة على فرضية العمرة ، ولا على ، أنها سنة ، فقد يصح صوم رمضان وشيء من شوال بجامع ما اشتركا فيه من المطلوبية ، وإن اختلفت جهتا الطلب ، ولذلك ضعف قول من استدل على أن العمرة فرض بقوله : وأتموا . وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، ومسروق ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، وابن سيرين ، والشعبي ، وابن جبير ، وأبي بردة ، وعبد اللّه بن شدّاد ؛ ومن علماء الأمصار : الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيدة ، وابن حميم ، من المالكيين . وذهب جماعة من الصحابة إلى أن العمرة سنة ، منهم : ابن مسعود ، وجابر ، ومن التابعين : النخعي ، ومن علماء الأمصار : مالك ، وأبو حنيفة ، إلاَّ أنه إذا شرع فيها عندهما وجب إتمامها . وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة القولين ، والحجج منقولة في كتب الفقه . {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } ظاهره ثبوت هذا الحكم للأمة ، وأنه يتحلل بالإحصار . وروى عن عائشة وابن عباس : أنه لا يتحلل من إحرامه إلاَّ بأداء نسكه ، والمقام على إحرامه إلى زوال إحصاره . وليس لمحرم أن يتحلل بالإحصار بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فإن كان إحرامه بعمرة لم يفت ، وإن كان بحج ففاته قضاه بالفوات بعد إحلاله منه وتقدم الكلام في الإحصار . وثبت بنقل من نقل من أهل اللغة : أن الإحصار والحصر سواء ، وأنهما يقالان في المنع بالعدوّ ، وبالمرض ، وبغير ذلك من الموانع ، فتحمل الآية على ذلك ، ويكون سبب النزول ورد على أحد مطلقات الإحصار . وليس في الآية تقييد ، وبهذا قال قتادة ، والحسن ، وعطاء ، والنخعي ، ومجاهد ، وأبو حنيفة ، وقال علقمة ، وعروة : الآية نزلت فيمن أحصر بالمرض لا بالعدوّ ، وقال ابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومالك ، والشافعي . لا يكون الإحصار إلاَّ بالعدوّ فقط . قال ابن عباس : والآية نزلت فيمن أحصر بالعدوّ لا بالمرض . وقال مالك ، والشافعي : ولو أحصر بمرض فلا يحله إلاَّ البيت ، ويقيم حتى يفيق ، ولو أقام سنين . وظاهر قوله :{ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } استواء المكي والآفاقي في ذلك ، وقال عروة ، والزهري ، وأبو حنيفة : ليس على أهل مكة إحصار . وظاهر لفظ : أحصرتم ، مطلق الإحصار ، وسواء علم بقاء العدوّ استيطانه لقوته وكثرته ، فيحل المحصر مكانه من ساعته على قول الجمهور ، أو رجي زواله ، وقيل : لا يباح له التحلل إلاَّ بعد أن يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنه لو زال العدوّ لم يدرك الحج ، فيحل حينئذ ، وبه قال ابن القاسم ، وابن الماجشون . وقيل : من حصر عن الحج بعذر حتى يوم النحر فلا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة ، ومطلق الإحصار يشمل قبل عرفة وبعدها خلافاً لأبي حنيفة ، فإن من أحصر بمكة أو بعد الوقوف فلا يكون محصراً ؛ وبناء الفعل للمفعول يدل على أن المحصر بمسلم أو كافر سواء . {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } هو شاة ، قاله علي ، وابن عباس ، وعطاء ، وابن جبير ، وقتادة ، وإبراهيم ، والضحاك ، ومغيرة . وقد سميت هدياً في قوله :{ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ } وقال الحسن ، وقتادة : أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأدناه شاة . وبه قال مالك ، وأبو يوسف ، وزفر ، يكون من الثلاثة ، يكون المستيسر على حكم حال المهدي ، وعلى حكم الموجود . وروى طاووس عن ابن عباس : أنه على قدر الميسرة ، وقال ابن عمر ، وعائشة ، والقاسم ، وعروة : هو جمل دون جمل ، وبقرة دون بقرة ، ولا يكون الهدي إلاَّ من هذين ، ولا يكون الشاة من الهدي ، وبه قال أبو حينفة . قال ابن شبرمة : من الإبل خاصة ، وقال الأوزاعي يهدي الذكور من الإبل والبقر . ولو عدم المحصر الهدي فهل له بدل ينتقل إليه ؟ قال أبو حنيفة : تكون في ذمته أبداً ولا يحل حتى يجد هدياً فيذبح عنه ، وقال أحمد : له بدل ، والقولان عن الشافعي ، فعلى القول الأول : يقيم على إحرامه أو يتحلل ، قولان . وعلى الثاني : يقوم الهدي بالدراهم ، ويشترى بها الطعام ، والكل أنه لا بدل للّهدي ، والظاهر أن العمرة كالحج في حكم الإحصار ، وبه قال أكثر الفقهاء . وقال ابن سيرين لا إحصار في العمرة لأنها غير مؤقتة . والظاهر أنه لا يشترط سن في الهدي ، وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يجزي إلاَّ الثني فصاعداً ، وقال مالك : لا يجزي من الإبل إلاَّ الثني فصاعداً ، ويجوز اشتراك سبعة في بقرة أو بدنة ، وهو قول أبي حنيفة ، والأوزاعي ، والشافعي . وقال مالك : يجوز ذلك في التطوع لا في الواجب ، والظاهر وجوب { مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } وقال ابن القاسم : لا يهدي شيئاً إلاَّ إن كان معه هدي ، والجمهور على أنه يحل حيث أحصر وينجز هديه إن كان ثم هدي ، ويحلق رأسه . وقال قتادة ، وإبراهيم : يبعث هديه إن أمكنه ، فإذا بلغ محله صار حلالاً . وقال أبو حنيفة : إن كان حاجاً فبالحرم متى شاء ، وقال أبو يوسف ، ومحمد في أيام النحر : وإن كان معتمراً فبالحرم في كل وقت عندهم جميعاً ، ونحر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هديه حيث أحصر ، وكان طرف الحديبية الربى التي أسفل مكة ، وهو من الحرم ، وعن الزهري : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نحر هديه في الحرم . وقال الواقدي : الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة . واختلفوا في الاشتراط في الحج إذا خاف أن يحصر بعدوِّ أو مرض ، وصيغة الاشتراط أن يقول إذا أهل : لبيك اللّهم لبيك ، محلي حيث حبستني . فذهب الثوري ، وأبو حنيفة ، ومالك ، وأصحابهم إلى أنه لا ينفعه الاشتراط . وقال أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، والشافعي : في القديم لا بأس أن يشترط ، وله شروط ، فيه حديث خرج في الصحيح : ولا قضاء عليه عند الجميع إلاَّ من كان لم يحج ، فعليه حجة الإسلام ، وشذ بن الماجشون فقال : ليس عليه حجة الإسلام ، وقد قضاها حين أحصر . وما ، من قوله :{ فَمَا اسْتَيْسَرَ } موصولة ، وهي مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره : فعليه ما استيسر ، قاله الأخفش ، أو : في موضع نصب : فليهدِ قاله أحمد ابن يحيى ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالواجب له استيسر ، واستيسر هو بمعنى الفعل المجرد ، أي : يسر ، بمعنى : استغنى وغني ، واستصعب وصعب ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها استفعل . ومن ، هنا تبعيضية ، وهي في موضع الحال من الضمير المستكن في استيسر العائد على ما ، فيتعلق بمحذوف التقدير : كائناً من الهدي ، ومن أجاز أن يكون : من ، لبيان الجنس ، أجاز ذلك هنا . والألف واللام في : الهدي ، للعموم . وقرأ مجاهد ، والزهري ، وابن هرمز ، وأبو حيوة : الهدي ، بكسر الدال وتشديد الياء في الموضعين ، يعني هنا في الجر والرفع ، وروي ذلك عصمة عن عاصم . {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ } هذا نهي عن حلق الرأس مغيّاً ببلوغ الهدي محله ، ومفهومه : إذا بلغ الهدي محله فاحلقوا روؤسكم . والضمير في . تحلقوا ، يحتمل أن يعود على المخاطبين بالإتمام ، فيشمل المحصر وغيره ، ويحتمل أن يعود على المحصرين ، وكلا الإحتمالين قال به قوم ، وأن يكون خطاباً للمحصرين هو قول الزمخشري ، قال : أي : لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ محله ، أي : مكانه الذي يجب نحره فيه ، ومحل الدين وقت وجوب قضائه ، وهو على ظاهر مذهب أبي حنيفة . انتهى كلامه . وكأنه رجح كونه للمحصرين ، لأنه أقرب مذكور ، وظاهر قول ابن عطية أنه يختار أن يكون الخطاب لجميع الأمة محصراً كان المحرم أو مخلىًّ ، لأنه قدم هذا القول ، ثم حكى القول الآخر ، قال : ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة في قوله :{ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ } مجاز في الفاعل وفي المفعول ، أما في الفاعل ففي إسناد الحلق إلى الجميع ، وإنما يحلق بعضهم رأس بعض ، وهو مجاز شائع كثير ، تقول : حلقت : رأسي ، والمعنى أن غيره حلقه له : وأما المجاز ففي المفعول ، فالتقدير : شعر رؤوسكم ، فهو على حذف مضاف ، والخطاب يخص الذكور ، والحلق للنساء مثله في الحج وغيره ، وإنما التقصير سنتهنّ في الحج . وخرّج أبو داود ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : { ليس على النساء حلق إنما عليهنّ التقصير} . وأجمع أهل العلم على القول به ، واختلفوا في مقدار ما يقصر من شعرها على تقادير كثيرة ذكرت في الفقه ، ولم تتعرّض هذه الآية للتقصير فنتعرّض نحن له هنا ، وإنما استطردنا له من قوله :{ وَلاَ تَحْلِقُواْ} وظاهر النهي : الحظر ولتحريم حتى يبلغ الهدي محله ، فلو نسي فحلق قبل النحر ، فقال أبو حنيفة ، وابن الماجشون : هو كالعامد وقال ابن القاسم : لا شيء عليه أو تعمد ، فقال أبو حنيفة ، ومالك : لا يجوز . وقال الشافعي : يجوز . قالوا : وهو مخالف لظاهر الآية . ودلت الآية على أن من النسك في الحج حلق الرأس ، فيدل ذلك على جوازه في غير الحج ، خلافاً المن قال : إن حلق الرأس في غير الحج مثلة ، لأنه لو كان مثلة لما جاز ، لا في الحج ولا غيره . وقد روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حلق رؤوس بني جعفر بعد أن أتاه خبر قتله بثلاثة أيام ، وكان علي يحلق ، وقال أبو عمرو بن عبد البر ، أجمع العلماء على إباحة الحلق ، وظاهر عموم :{ وَلاَ تَحْلِقُواْ } ،أو خصوصه بالمحصرين أن الحلق في حقهم نسك ، وهو قول مالك ، وأبو يوسف . وقال أبو حنيفة ، ومحمد : لا حلق على المحصر والقولان عن الشافعي . {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ } حيث أحصر من حل أو حرم ، قاله عمر ، والمسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم ، أو : المحرم ، قاله علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وتفسيرهم يدل على أن المحل هنا المكان ، ولم يقرأ إلاَّ بكسر الحاء . فيما علمنا ، ويجوز الفتح : أعني إذا كان يراد به المكان ، وفرق الكسائي هنا ، فقال : الكسر هو الإحلال من الإحرام ، والفتح هو موضع الحلول من الإحصار ، وقد تقدّم طرف من القول في محل الهدي ، ولم تتعرّض الآية لما على المحصر في الحج إذا تحلل بالهدي ، فعن النسيء عليه حجة ، وقال الحسن ، وابن سيرين ، وإبراهيم ، وعلقمة ، والقاسم ، وابن مسعود فيما روى عنه ، مجاهد ، وابن عباس ، فيما روى عنه ابن جبير : عليه حجة وعمرة ، فإن جمع بينهما ما في أشهر الحج فعليه دم وهو متمتع ، وإن لم يجمعهما في أشهر الحج فلا دم عليه ، فإن كان المحصر بمرض أو عدوّ ، محرماً بحج تطوّع ، أو بعمرة تطوّع ، وحل بالهدي فعليه القضاء عند أبي حنيفة ، وقال مالك ، والشافعي : لا قضاء على من أحصر بعدوَ لا في حج ولا في عمرة . {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ } سبب النزول حديث كعب بن عجرة المشهور ، وهو أنه صلى اللّه عليه وسلم ، رآه والقمل يتناثر من رأسه ، وقيل : رآه وقد قرح رأسه ، ولما تقدّم النهي عن الحلق إلى الغاية التي هي بلوغ الهدي كان ذلك النهي شاملاً ، فخص بمن ليس مريضاً ولا به أذى من رأسه ، أما هذان فأبيح لهما الحلق ، وثم محذوف يصح به الكلام ، التقدير : فمن كان منكم مريضاً ففعل ما بينا في المحرم من حلق أو غيره ، أو به أذى من رأسه فحلق ، وظاهر النهي العموم . وقال بعض أهل العلم : هو مختص بالمحصر ، لأن جواز الحلق قبل بلوغ الهدي محله لا يجوز ، فربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر ، فأذن له في زوال ذلك بشرط الفدية ، وأكثر العلماء على أنه على العموم ، ويدل عليه قصة ابن عجرة . ومنكم ، متعلق بمحذوف وهو في موضع الحال ، لأنه قبل تقدّمه كان صفة : لمريضاً ، فلما تقدّم انتصب على الحال . ومِنْ ، هنا للتبعيض . وأجاز أبو البقاء أن يكون متعلقاً : بمريضاً ، وهو لا يكاد يعقل ، وأو به أذى من رأسه ، يجوز أن يكون من باب عطف المفردات ، فيكون معطوفاً على قوله : مريضاً ، ويرتفع : أذى ، على الفاعلية بالمجرور الذي هو به ، التقدير : أو كائناً به أذىً من رأسه ، ومن باب عطف الجملة على المفرد لكون تلك الجملة في موضع المفرد ، فتكون تلك الجملة معطوفة على قوله : مريضاً ، وهي في موضع مفرد ، لأن المعطوف على المفرد مفرد ، في التقدير : إذا كان جملة ، ويرتفع ، أذى ، إذ ذاك على الابتداء به في موضع الخبر ، فهو : في موضع رفع ، وعلى الإعراب السابق في موضع نصب ، وأجازوا أن يكون معطوفاً على إضمار : كان ، لدلالة : كان ، الأولى ، عليها . التقدير : أو كان به أذى من رأسه ، فاسم كان على هذا إمّا ضمير يعود على : من ؛ وبه أذى ، مبتدأ وخبر في موضع خبر كان ، وإما : أذى وبه ، في موضع خبر كان ، وأجاز أبو البقاء أن يكون ، أو به أذى من رأسه ، معطوفاً علي كان ، وأذى ، رفع بالابتداء ، وبه ، الخبر متعلق بالاستقرار ، والهاء في . به ، عائدة على : من ، وكان قد قدم أبو البقاء أن : من ، شرطية ، وعلى هذا التقدير يكون ما قاله خطأ ، لأن المعطوف على جملة الشرط يجب أن يكون جملة فعلية ، لأن جملة الشرط يجب أن تكون فعلية ، والمعطوف على الشرط شرط ، فيجب فيه ما يجب في الشرط ، ولا يجوز ما قاله أبو البقاء على تقدير أن تكون : من ، موصولة . لأنها إذ ذاك مضمنة معنى إسم الشرط ، فلا يجوز أن توصل على المشهور بالجملة الاسمية ، والباء في : به ، للإلصاق ، ويجوز أن تكون ظرفية ، ومن رأسه ، يجوز أن يكون متعلقاً بما يتعلق به : به ، وأن يكون في موضع الصفة ل : أذىً ، وعلى التقديرين يكون : مِنْ ، لابتداء الغاية . {فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } ارتفاع : فدية ، على الابتداء ، التقدير : فعليه فدية ، أو على الخبر ، أي : فالواجب فدية . وذكر بعض المفسرين أنه قرىء بالنصب على إضمار فعل التقدير : فليفد فدية . ومن صيام ، في موضع الصفة ، وأو ، هنا للتخيير ، فالفادي مخير في أيّ الثلاثة شاء . وقرأ الحسن ، والزهري : أو نسك ، بإسكان السين ؛ والظاهر إطلاق الصيام والصدقة والنسك ، لكن بين تقييد ذلك السنة الثابتة في حديث ابن عجرة من أن : الصيام صيام ثلاثة أيام ، والصدقة إطعام ستة مساكين ، والنسك شاة . وإلى أن الصيام ثلاثة أيام ذهب عطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وعلقمة ، والربيع ، وغيرهم . وبه قال مالك ، والجمهور ؛ وروي عن الحسن ، وعكرمة ، ونافع : عشرة أيام . ومحله زماناً متى اختار ، ومكاناً حيث اختار . وأما الإطعام ، فذكر بعضهم انعقاد الإجماع على ستة مساكين ، وليس كما ذكر ، بل قال الحسن ، وعكرمة : يطعم عشرة مساكين ، واختلف في قدر الطعام ، ومحل الإطعام ، أما القدر فاضطربت الرواية في حديث عجرة ، واختلف الفقهاء فيه ، فقال أبو حنيفة : لكل مسكين من التمر صاع ، ومن الحنطة نصف صاع . وقال مالك ، والشافعي : الطعام في ذلك مدّان مدّان ، بالمدّ النبوي ، وهو قول أبي ثور ، وداود . وروي عن الثوري : نصف صاع من البر ، وصاع من التمر ، والشعير ، والزبيب . وقال أحمد مرة بقول كقول مالك ، ومرة قال : مدّين من بر لكل مسكين ، ونصف صاع من تمر ؛ وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : يجزيه أن يغديهم ويعشيهم . وقال مالك ، والثوري ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي : لا يجزيه ذلك حتى يعطي لكل مسكين مدّين مدّين ، بمدّ النبي صلى اللّه عليه وسلم. وأما المحل فقال علي ، وإبراهيم ، وعطاء في بعض ما روي عنه ، ومالك وأصحابه إلاَّ ابن الجهم ، وأصحاب الرأي : حيث شاء وقال الحسن ، وطاووس ، ومجاهد ، وعطاء أيضاً ، والشافعي : الإطعام بمكة ، وأما النسك فشاة . قالوا بالإجماع ومن ذبح أفضل منها فهو أفضل ، وأما محلها فحيث شاء ، قاله علي ، وإبراهيم ، ومالك ، وأصحابه إلاَّ ابن الجهم ، فقال : النسك لا يكون إلاَّ بمكة ، وبه قال عطاء في بعض ما روي عنه ، والحسن ، وطاووس ، ومجاهد ، وأبو حنيفة ، والشافعي . وظاهر الفدية أنها لا تكون إلاَّ بعد الحلق ، إذ التقدير : فحلق ففدية ، وقال الأوزاعي : يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق ، فيكون المعنى : ففدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك إن أراد الحلق . وظاهر الشرط أن الفدية لا تتعلق إلاَّ بمن به مرض أو أذى فيحلق ، فلو حلق ، أو جزّ ، أو أزال بنوره شعره من غير ضرورة ، أو لبس المخيط ، أو تطيب من غير عذر عالماً ، فقال أبو حنيفة ، والشافعي وأصحابهما ، وأبو ثور : لا يخير في غير الضرورة ، وعليه دم لا غير وقال مالك : يخير ، والعمد والخطأ بضرورة ، وغيرها سواء عنده . فلو فعله ناسياً ، فقال إسحاق ، وداود : لا شيء عليه . وقال أبو حنيفة ، والثوري ، ومالك ، والليث : الناسي كالعامد في وجوب ذلك القدر ، وعن الشافعي القولان ، وأكثر العلماء يوجبون الفدية بلبس المخيط وتغطية الرأس ، أو بعضه ولبس الخفين ، وتقليم الأظفار ، ومس الطيب ، وإماطة الأذى ، وحلق شعر الجسد ، أو مواضع الحجامة ، الرجل والمرأة في ذلك سواء ، وبعضهم يجعل عليهما دماً في كل شيء من ذلك . وقال داود : لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد . {فَإِذَا أَمِنتُمْ } يعني : من الإحصار ، هذا الأمنُ مرتب تفسيره على تفسير الإحصار ، فمن فسره هناك بالإحصار بالمرض لا بالعدو ، وجعل الأمن هنا من المرض لا من العدو ، وهو قول علقمة ، وعروة . والمعنى : فإذا برئتم من مرضكم . ومن فسره بالإحصار بالعدو لا بالمرض قال : هنا الأمن من العدو لا من المرض ، والمعنى : فإذا أمنتم من خوفكم من العدو . ومن فسر الإحصار بأنه من العدو والمرض ونحوه ، فالأمن عنده هنا من جميع ذلك ، والأمن سكون يحصل في القلب بعد اضطرابه . وقد جاء في الحديث : { الزكام أمان من الجذام } خرّجه ابن ماجة ، وجاء : من سبق العاطس بالحمد ، أمن من الشوص واللوص والعلوص . أي : من وجع السنّ ، ووجع الأذن ، ووجع البطن . والخطاب ظاهره أنه عام في المحصر وغيره ، أي : فاذا كنتم في حال أمن وسعة ، وهو قول ابن عباس وجماعة ، وقال عبد اللّه بن الزبير ، وعلقمة ، وإبراهيم : الآية في المحصرين دون المخلَّى سبيلهم . {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ } تقدّم الكلام في المتاع في قوله :{ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } وفسر التمتع هنا بإسقاط أحد السفرين ، لأن حق العمرة أن تفرد بسفر غير سفر الحج ، وقيل : لتمتعه بكل ما لا يجوز فعله ، من وقت حله من العمرة إلى وقت انشاء الحج . واختلف في صورة هذا التمتع الذي في الآية ، فقال عبد اللّه بن الزبير : هو فيمن أحصر حتى فاته الحج ثم قدم مكة فخرج من إحرامه بعمل عمرة ، واستمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السنة المستقبلة ثم يحج ويهدي . وقال ابن جبير ، وعلقمة ، وإبراهيم ، معناه : فإذا أمنتم وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار ، ولم تقضوا عمرة ، تخرجون بها من إحرامكم بحجكم ، ولكن حللتم حيث أحصرتم بالهدي ، وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة ، واعتمرتم في أشهر الحج ، فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم ، فعليكم ما استيسر من الهدي . وقال علي : أي : فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحج فعليه الهدي . وقال السدي : فمن نسخ حجه بعمرة فجعله عمرة ، واستمتع بعمرته إلى حجه . وقال ابن عباس ، وعطاء ، وجماعة : هو الرجل تقدّم معتمراً من أفق في أشهر الحج ، فإذا قضى عمرته أقام حلالاً بمكة حتى ينشىء منها الحج من عامة ذلك ، فيكون مستمتعاً بالإحلال إلى إحرامه بالحج ، فمعنى التمتع : الإهلال بالعمرة ، فيقيم حلالاً يفعل ما يفعل الحلال بالحج ، ثم يحج بعد إحلاله من العمرة من غير رجوع إلى الميقات . والآية محتملة لهذه الأقوال كلها ، ولا خلاف بين العلماء في وقع الحج على ثلاثة انحاء . تمتع ، وافراد ، وقران . وقد بين ذلك في كتب الفقه . ونهى عمر عن التمتع لعله لا يصح ، وقد تأوله قوم على أنه فسخ الحج في العمرة ، فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا . {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } تقدّم الكلام على هذه الجملة تفسيراً وإعراباً في قوله :{ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } فأغنى عن إعادته . والفاء في : فإذا أمنتم ، للعطف وفي : فمن تمتع ، جواب الشرط ، وفي : فما ، جواب للشرط الثاني . ويقع الشرط وجوابه جواباً للشرط بالفاء ، لا نعلم في ذلك خلافاً لجواب نحو : إن دخلتِ الدار فإن كلمتِ زيداً فأنت طالق . وهدي التمتع نسك عند أبي حنيفة لتوفيق الجمع بين العبادتين في سفره ، ويأكل منه ، وعند الشافعي : يجرى مجرى الجنايات لترك إحدى السفرتين ، ولا يأكل منه ، ويذبحه يوم النحر عند أبي حنيفة ، ويجوز عند الشافعي ذبحه إذا أحرم بحجته ، والظاهر وجوب الذبح عند حصول التمتع عقيبه . وصورة التمتع على من جعل قوله : فإذا أمنتم فمن تمتع ، خاصة بالمحصرين ، تقدّمت في قول ابن الزبير ، وقول ابن جبير ومن معه ، وأما على قول من جعلها عامة في المحصر وغيره فالتمتع كيفيات . إحداها : أن يحرم غير المكي بعمرة أولاً في أشهر الحج في سفر واحد في عام ، فيقدم مكة . فيفرع من العمرة ثم يقيم حلالاً إلى أن ينشىء الحج من مكة في عام العمرة قبل أن يرجع إلى بلده ، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته ، ويكون الحج والعمرة عن شخص واحد . الثانية : أن يجمع بين الحج والعمرة في الإحرام ، وهو المسمى : قراناً ، فيقول : لبيك بحجة وعمرة معاً ، فإذا قدم مكة طاف بحجه وعمرته وسعى . فروي عن علي وابن مسعود : يطوف طوافين ويسعى سعيين ، وبه قال الشعبي وجابر بن زيد ، وابن أبي ليلى ؛ وروي عن عبد اللّه بن عمر : طواف واحد وسعي واحد لهما ، وبه قال عطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وطاووس ، ومالك ، والشافعي وأصحابهما ، وإسحاق ، وأبو ثور . وجعل القران من باب التمتع لترك النصب في السفر إلى العمرة مرة ، وإلى الحج أخرى ، ولجمعهما ، ولم يحرم بكل واحد من ميقاته ، فهذا وجه من التمتع لا خلاف في جوازه ، قيل : وأهل مكة لا يجيزون الجمع بين العمرة والحج إلاَّ بسياق الهدي ، وهو عندكم : بدنة لا يجوز دونها . وقال مالك : ما سمعت أن مكياً قرن ، فإن فعل لم يكن عليه هدي ولا صيام ، وعلى هذا جمهور الفقهاء ؛ وقال ابن الماجشون . إذا قرن المكي الحج مع العمرة كان عليه دم القران ، وقال عبد اللّه بن عمر : المكي إذا تمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع . الثانية : أن يحرم بالحج ، فإذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة ، ثم حل وأقام حلالاً حتى يهل بالحج يوم الترويه ، وجمهور العلماء على ترك العمل بها . وروي عن ابن عباس ، والحسن ، والسدي جوازها ، وبه قال أحمد . وظاهر الآية يدل على وجوب الهدي للواحد . أو الصوم لمن لم يجد إذا تمتع بالعمرة في أشهر الحج ، ثم رجع إلى بلده ، ثم حج من عامه . وهو مروي عن سعيد بن المسيب ، والحسن . وقد روي عن الحسن أنه لا يكون متمتعاً فلا هدي ولا صوم ، وبه قال الجمهور ، وظاهر الآية أنه لو اعتمر بعد يوم النحر فليس متمتعاً ، وعلى هذا قالوا : الإجماع لأن التمتع مغياً إلى الحج ولم يقع المغيا . وشذ الحسن فقال : هي متعة ، والظاهر أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج ، ثم أقام إلى أشهر الحج ثم حج من عامه فهو متمتع ، وبه قال طاووس ، وقال الجمهور : لا يكون متمتعاً . {فَمَن لَّمْ يَجِدْ } مفعول : يجد ، محذوف لفهم المعنى ، التقدير : فمن لم يجد ما استيسر من الهدي ، ونفي الوجدان إما لعدمه أو عدم ثمنه .{ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } : ارتفع صيام على الإبتداء ، أي : فعليه ، أو على الخبر ، أي : فواجب . وقرىء : فصيامَ ، بالنصب أي : فليصم صيام ثلاثة أيام ، والمصدر مضاف للثلاثة بعد الاتساع ، لأنه لو بقي على الظرفية لم تجز الإضافة .{ فِي الْحَجّ } أي : في أشهر الحج فله أن يصومها فيها ما بين الإحرامين ، إحرام العمرة ، وإحرام الحج ، قاله عكرمة ، وعطاء ، وأبو حنيفة ، قال : والأفضل أن يصوم يوم الترويه وعرفة ويوماً قبلهما ، وإذ مضى هذا الوقت لم يجزه إلاَّ الدم ، وقال عطاء أيضاً ، ومجاهد : لا يصومها إلاَّ في عشر ذي الحجة ، وبه قال الثوري ، والأوزاعي . وقال ابن عمر ، والحسن ، والحكم : يصوم يوماً قبل الترويه ، ويوم الترويه ، ويوم عرفة ، وكل هؤلاء يقولون : لا يجوز تأخيرها عن عشر ذي الحجة ، لأنه بانقضائه ينقضي الحج . وقال علي ، وابن عمر : لو فاته صومها قبل يوم النحر صامها في أيام التشريق ، لأنها من أيام الحج . وعن عائشة ، وعروة ، وابن عمر . في رواية ابنه سالم عنه : أنها أيام التشريق . وقيل : زمانها بعد إحرامه ، وقيل : يوم النحر ، قاله علي ، وابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، وطاووس ، وعطاء ، والسدي ؛ وبه قال مالك ؛ وقال الشافعي ، وأحمد : يصومهن ما بين أن يحرم بالحج إلى ى يوم عرفة ، وهو قول ابن عمر ، وعائشة . وروي هذا عن مالك ، وهو قوله في { الموطأ} ليكون يوم عرفة مفطراً . وعن أحمد : يجوز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم ، وقال قوم : له أن يؤخرها ابتداءً إلى يوم التشريق ، لأنه لا يجب عليه الصوم إلاَّ بأن لا يجد الهدي يوم النحر . وقال عروة : يصومها ما دام بمكة ، وقاله أيضاً مالك ، وجماعة من أهل المدينة ، وهذه الأقوال كلها تحتاج إلى دلائل عليها . وظاهر قوله : في الحج ، أن يكون المحذوف : زماناً ، لأنه المقابل في قوله : { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } إذ معناه في وقت الرجوع ، ووقت الحج هو أشهره ، فنحر الهدي للمتمتع لم يشرط فيه زمان ، بل ينبغي أن يتعقب التمتع لوقوعه جواباً للشرط ، فإذا لم يجده فيجب عليه صوم ثلاثة أيام في الحج ، أي : في وقته ، فمن لحظ مجرد هذا المحذوف أجاز الصيام قبل أن يحرم بالحج ، وبعده ، وجوز ذلك إلى آخر أيام التشريق ، لأنها من وقت الحج ؛ ومن قدر محذوفاً آخر ، أي : في وقت أفعال الحج ، لم يجز الصيام إلاَّ بعد الإحرام بالحج ، والقول الأول أظهر لقلة الحذف ، ومن لم يلحظ أشهر الحج ، وجوز أن يكون ما دام بمكة ، فإذا اعتقد أن المحذوف ظرف مكان ، أي : فصيام ثلاثة أيام في أماكن الحج . والظاهر : وجوب انتقاله إلى الصوم عند عدم الوجدان للّهدي ، فلو ابتدأ في الصوم ، ثم وجد الهدي مضى في الصوم وهو فرضه ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، والشافعي ، وأبو ثور ، واختاره ابن المنذر . وقال مالك : أحب أن يهدي ، فإن صام أجزأه ، وقال أبو حنيفة : إن أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل الصوم ووجب عليه الهدي ، ولو أيسر بعد تمامها كان له أن يصوم السبعة الأيام ، وبه قال الثوري ، وابن أبي نجيح ، وحماد . {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } قرأ زيد بن علي ، وابن أبي عبدة : وسبعة ، بالنصب . قال الزمخشري : عطفاً على محل ثلاثة أيام ، كأنه قيل : فصيام ثلاثة أيام كقولك :{أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } انتهى . وخرجه الحوفي ، وابن عطية على إضمار فعل ، أي : فليصوموا ، أو : فصوموا سبعة ، وهو التخريج الذي لا ينبغي أن يعدل عنه ، لأنا قد قررنا أن العطف على الموضع لا بد فيه من المحرز ، ومجيء : وسبعة بالتاء هو الفصيح إجراء للمحذوف مجرى المنطوق به ، كما قيل : وسبعة أيام ، فحذف لدلالة ما قبله عليه ، وللعلم بأن الصوم إنما هو الأيام ، ويجوز في الكلام حذف التاء إذا كان المميز محذوفاً ، وعليه جاء : ثم اتبعه بست من شوال ، وحكى الكسائي : صمنا من الشهر خمساً ، والعامل في : إذا ، هو صيام ثلاثة أيام ، وبه متعلق في الحج لا يقال ذا عمل فيهما ، فقد تعدى العامل إلى ظرفي زمان ، لأن ذلك يجوز مع العطف والبدل ، وهنا عطف بالواو شيئين على شيئين ، كما تقول : أكرمت زيداً يوم الخميس وعمراً يوم الجمعة . وإذا ، هنا محض ظرف ، ولا شرط فيها ، وفي : رجعتم ، التفات ، وحمل على معنى : من ، أما الالتفات . فإن قوله :{ فَمَن تَمَتَّعَ }{ فَمَن لَّمْ يَجِدْ } اسم غائب ، ولذلك استتر في الفعلين ضمير الغائب ، فلو جاء على هذا النظم لكان الكلام إذا رفع ، وأما الحمل على المعنى فإنه أتى بضمير الجمع ، ولو راعى اللفظ لأفرد ، ولفظ الرجوع مبهم ، وقد جاء تبيينه في السنة . ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر ، في آخر : وليهد فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس : وسبعة إذا رجع إلى أهله إلى أمصاركم ، وبه قال قتادة ، وعطاء ، وابن جبير ، ومجاهد ، والربيع ، وقالوا : هذه رخصة من اللّه تعالى والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه ، إلاّ أن يتشدد أحد ، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان ؛ وقال أحمد ، وإسحاق : يجزئه الصوم في الطريق ؛ وقال مجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم : المعنى إذا رجعتم نفرتم وفرغتم من أعمال الحج ، وهذا مذهب أبي حنيفة . فمن بقي بمكة صامها ، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق ؛ قال مالك في { الكتاب} : إذا رجع من منىً فلا بأس أن يصوم . {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } تلك إشارة إلى مجموع الأيام المأمور بصومها قبل ، ومعلوم أن ثلاثة وسبعة عشرة ، فقال الأستاذ أبو الحسن علي بن أحمد الباذش ما معناه : أتى بعشرة توطئة للخبر بعدها ، لا أنها هي الخبر المستقبل به فائدة الإسناد ، فجيء بها للتوكيد ، كما تقول : زيد رجل صالح . وقال ابن عرفة : مذهب العرب إذا ذكروا عددين أن يجملوهما . وحسّن هذا القول الزمخشري بأن قال : فائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة ، كما علم تفصيلاً ليحاط به من جهتين ، فيتأكد العلم ، وفي أمثال العرب : علمان خير من علم ؛ قال ابن عرفة : وإنما تفعل ذلك العرب لقلة معرفتهم بالحساب ، وقد جاء : لا نحسب ولا نكتب ، وورد ذلك في كثير من أشعارهم ؛ قال النابغة : توهمت آيات لها فعرفتها لست أعوامٍ وذا العام سابع وقال الأعشى : ثلاث بالغداة فهي حسبي وست حين يدركني العشاءُ فذلك تسعة في اليوم ربي وشرب المرء فوق الري داءُ وقال الفرزدق : ثلاث واثنتان وهن خمس وسادسة تميل إلى شمام وقال آخر : فسرت إليهم عشرين شهرا وأربعة فذلك حجتان وقال المفضل : لما فصل بينهما بإفطار قيدها بالعشرة ليعلم أنها كالمتصلة في الأجر ، وقال الزجاج : جمع العددين لجواز أن يظن أن عليه ثلاثة أو سبعة ، لأن الواو قد تقوم مقام : أو ، ومنه { مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } فأزال احتمال التخيير ، وهو الذي لم يذكر ابن عطية إلا إياه ، وهو قول جار على مذهب أهل الكوفة لا على مذهب البصريين ، لأن الواو لا تكون بمعنى : أو . وقال الزمخشري : الواو ، قد تجيء للإباحة في نحو قولك : جالس الحسن ، وابن سيرين . ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً ، أو واحداً منهما كان ممتثلاً ؟ ففذلكت نفياً لتوهم الإباحة . انتهى كلامه . وفيه نظر ، لأن لا تتوهم الإباحة هنا ، لأن السياق إنما هو سياق إيجاب ، وهو ينافي الإباحة ولا ينافي التخيير ، لأن التخيير قد يكون في الواجبات . وقد ذكر النحويون الفرق بين التخيير والإباحة ، وقيل : هو تقديم وتأخير تقديره : فتلك عشرة : ثلاثة في الحج وسبعة إذا جعتم ، وعزي هذا القول إلى أبي العباس المبرد ، ولا يصح مثل هذا القول عنه ، وننزه القرآن عن مثله ، وقيل : ذكر العشرة لئلا يتوهم أن السبعة مع الثلاثة كقوله تعالى : { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } أي مع اليومين اللذين بعدها في قوله :{ خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ} وقيل : ذكر العشرة لزوال توهم أن السبعة لا يراد بها العدد ، بل الكثرة ، روى أبو عمرو بن العلاء ، وابن الأعرابي عن العرب : سبع اللّه لك الأجر ، أي : أكثر ، أرادوا التضعيف وهذا جاء في الأخبار ، فله سبع ، وله سبعون ، وله سبعمائة ، وقال الأزهري في قوله تعالى :{ سَبْعِينَ مَرَّةً } هو جمع السبع الذي يستعمل للكثرة ، ونقل أيضاً عن المبرد أنه قال : تلك عشرة ، لأنه يجوز أن يظنّ السامع أن ثم شيئاً آخر بعد السبع ، فأزال الظنّ . وقيل : أتى بعشرة لإزالة الإبهام المتولد من تصحيف الخط ، لاشتباه سبعة وتسعة ، وقيل : أتى بعشر لئلا يتوهم أن الكمال مختص بالثلاثة المضمومة في الحج ، أو بالسبعة التي يصومها إذا رجع ، والعشرة هي الموصوفة بالكمال ، والأحسن من هذه الأقاويل القول الأول . قال الحسن : كاملة في الثواب في سدّها مسدّ الهدي في المعنى لذي جعلت بدلاً عنه ، وقيل : كاملة في الغرض والترتيب ، ولو صامها على غير هذا الترتيب لم تكن كاملة ، وقيل : كاملة في الثواب لمن لم يتمتع . وقيل : كاملة ، توكيد كما تقول : كتبته بيدي ، { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} قال الزمخشري : وفيه ، يعني : في التأكيد زيادة توصية بصيامها ، وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها ، كما تقول للرجل : إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به ، وكان منك بمنزلة : اللّه اللّه لا تقصر ، وقيل : الصيغة خبر ومعناها الأمر ، أي : اكملوا صومها ، فذلك فرضها . وعدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لأن التكليف بالشيء إذا كان متأكداً خلافاً لظاهر دخول المكلف به في الوجود ، فعبر عنه بالخبر الذي وقع واستقر . وبهذه الفوائد التي ذكرناها ردّ على الملحدين في طعنهم بأن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة ، فهو إيضاح للواضحات ، وبأن وصف العشرة بالكمال يوهم وجود عشرة ناقصة ، وذلك محال . والكمال وصف نسبيّ لا يختص بالعددية . كما زعموا لعنهم اللّه : وكم من عائب قولاً صحيحا وآفته من الفهم السقيم {ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } تقدّم ذكر التمتع ، وذكر ما يلزمه ، وهو : الهدي ، وذكر بدله : وهو الصوم ، واختلفوا في المشار إليه بذلك ، فقيل : المتمتع وما يلزمه ، وهو مذهب أبي حنيفة ، فلا متعة ، ولا قران لحاضري المسجد الحرام ، ومن تمتع منهم أو قرن كان عليه دم جناية لا يأكل منه ، والقارن والمتمع من أهل الأفاق دمهما دم نسك يأكلان منه ، وقيل : ما يلزم المتمتع وهو : الهدي ، وهو مذهب الشافعي لا يوجب على حاضري المسجد الحرام شيئاً ، وإنما الهدي ، وبدله على الأفقي . وقد تقدّم الخلاف في المكي هل يجوز له المتعة في أشهر الحج أم لا ، والأظهر في سياق الكلام أن الإشارة إلى جواز التمتع وما يترتب عليه ، لأن المناسب في الترخص : اللام ، والمناسب في الواجبات على . وإذا جاء ذلك : لمن ، ولم يجىء : على من ، وزعم بعضهم أن : اللام ، هنا بمعنى : علي ، كقوله :{ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} وحاضروا المسجد الحرام . قال ابن عباس ، ومجاهد : أهل الحرم كله ، وقال مكحول ، وعطاء : من كان دون المواقيت من كل جهة ، وقال الزهري : من كان على يوم أو يومين ، وقال عطاء بن أبي رباح : أهل مكة ، وضجنان ، وذي طوى ، وما أشبهها . وقال قوم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة ، وهو مذهب أبي حنيفة . وقال قوم : أهل الحرم ، ومن كان من أهل الحرم على مسافة تقصر فيها الصلاة ، وهو مذهب الشافعي . وقال قوم : أهل مكة ، وأهل ذي طوى ، وهو مذهب مالك . وقال بعض العلماء : من كان بحيث تجب عليه الجمعة بمكة فهو حضري ، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي ، فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة . والظاهر أن حاضري المسجد الحرام سكان مكة فقط ، لأنهم هم الذين يشاهدون المسجد الحرام ، وسائر الأقوال لا بد فيها من ارتكاب مجاز ، فيه بعد ، وبعضه أبعد من بعض ، وذكر حضور الأهل ولامراد حضوره هو ، لأن الغالب أن يسكن حيث أهله ساكنون . {وَاتَّقُواْ اللّه} لما تقدم : أمر ، ونهي ، وواجب ، ناسب أن يختم ذلك بالأمر بالتقوى في أن لا يتعدى ما حدّه اللّه تعالى ، ثم أكد الأمر بتحصيل التقوى بقوله :{ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ } ، لأن من علم شدة العقاب على المخالفة كان حريصاً على تحصيل التقوى ، إذ بها يأمن من العقاب ، وشديد العقاب من باب إضافة الصفة للموصوف للشبهة ، والإضافة والنصب أبلغ من الرفع ، لأن فيها إسناد الصفة للموصوف ، ثم ذكر ، من هي له حقيقة ، والرفع إنما فيه إسنادها لمن هي له حقيقة فقط دون أسناد للموصوف . وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أنهم يسألون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن حال الأهلة ، وفائدتها في تنقلها من الصغر إلى الكبر ، وكان من الإخبار بالمغيب ، فوقع السؤال عن ذلك ، وأجيبوا بأن حكمة ذلك كونها جعلت مواقيت لمصالح العباد ومعاملاتهم ودياناتهم ، ومن أعظم فائدتها كونها مواقيت للحج ، ثم ذكر شيئاً مما كان يفعله من أحرم بالحج ، وكانوا يرون ذلك براً ، فرد عليهم فيه ، وأمروا بأن يأتوا البيوت من أبوابها ، وأخبروا أن البر هو في تقوى اللّه ، ثم أمروا بالتقوى راجين للفلاح عند حصولها ، ثم أمروا بالقتال في نصرة الدين من قاتلهم ، ونهوا عن الاعتداء ، وأخبر أن اللّه تعالى لا يحب من اعتدى ، ثم أمروا بقتل من ظفروا به ، وبإخراج من أخرجهم من المكان الذي أخرجوه منه ، ثم أخبر أن الفتنة في الدين أو بالإخراج من الوطن ، أو بالتعذيب أشد من القتل ، لأن في القتل راحة من هذا كله ، ثم لما تضمن الأمر بالإخراج أن يخرجوا من المكان الذي أخرجوا منه ، وكان ذلك من جملته المسجد الحرام نهوا عن مقاتلتهم فيه إلاَّ إن قاتلوكم ، وذلك لحرمة المسجد الحرام جاهلية واسلاماً ، ثم أمر تعالى بقتلهم إذا ناشبوا القتال ، وكان فيه بشارة بأنا نقتلهم ، إذ أمرنا بقتلهم لا بقتالهم ، ولا يقتل الإنسان إلاَّ من كان متمكناً من قتله ، ثم ذكر أن من كفر باللّه فمثل هذا الجزاء جزاؤه من مقاتلته وإخراجه من وطنه وقتله ، ثم أخبر تعالى أنه غفور رحيم لمن انتهى عن الكفر ودخل في الإسلام ، فإن الإسلام يجبُّ ما قبله ، ولما كان الأمر بالقتال ، فيما سبق ، مقيداً مرة بمن قاتل ، ومرة بمكان حتى يبدأ بالقتال فيه ، أمرهم بالقتال على كل حال من ، قاتل ومن لم يقاتل ، وعند المسجد الحرام وغيره ، فنسخ هذا الأمر تلك القيود ، وصار مغياً أو معللاً بانتفاء الفتنة وخلوص الدين للّه ، وختم هذا الأمر بأن من انتهى ودخل في الإسلام فلا اعتداء عليه ، وإنما الاعتداء على الظالمين ، وهم الكافرون ، كما ختم الأمر السابق بأن انتهى عن الكفر ودخل في الإسلام غفر اللّه له ورحمه ، ثم أخبر تعالى أن هتك حرمة الشهر الحرام بسبب القتال فيه ، وهو شهر ذي القعدة ، وكانوا يكرهون القتال فيه حين خرجوا العمرة القضاء جائز لكم بسبب هتكهم حرمته فيه حين قاتلوكم فيه عام الحديبية ، وصدوكم عن البيت ، ثم أكد ذلك بقوله :{ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } فاقتضى أن كل من هتك أي حرمة اقتص منه بأن تهتك له حرمة ، فكما هتكوا حرمة شهر كم لا تبالوا بهتك حرمته لهم ، ثم أمر بالمجازاة لمن اعتدى علينا بعقوبة مثل عقوبته ، تأكيداً لما سبق ، وأمر بالتقوى ، فلا يوقع في المجازاة غير ما سؤغه له ، ثم قال إنه تعالى مع من اتقى ، ومن كان اللّه معه فهو المنصور على عدوه ، ثم أمر تعالى بإنفاق المال في سبيله ونصرة دينه ، وأن لا يخلد إلى الدعة والرغبة في إصلاح هذه الدنيا والإخلاد إليها ، ونهانها عن الالتباس بالدعة والهوينا فنضعف عن أعدائنا ، ويقوون هم علينا ، فيؤول أمرنا معهم لضعفنا وقوتهم إلى هلاكنا ، وفي هذا الأمر وهذا النهي من الحض على الجهاد ما لا يخفى ، ثم أمرهم تعالى بالإحسان ، وأنه تعالى يحب من أحسن ، ثم أمر تعالى بإتمام الحج والعمرة بأن يأتوا بهما تأمين كاملين بمناسكهما وشرائطهما ، وإن يكون فعل ذلك لوجه اللّه تعالى لا يشوب فعلها رياء ولا سمعة ، وكانوا في الجاهلية قد يحجون لبعض أصنامهم ، فأمروا بإخلاص العمل في ذلك للّه تعالى . ثم ذكر أن من أحصر وحبس عن إتمام الحج أو العمرة فيجب عليه ما يسر من الهدي ، والهدي يشمل : البعير ، والبقرة ، والشاة ، ثم نهى عن حلق الرأس حتى يبلغ الهدي محله ، والذي جرت العادة به في الهدى أنه محله هو الحرم ، فخوطبوا بما كان سابقاً لهم علمه به ، ولما غيا الحلق بوقوع هذه الغاية من بلوغ الهدي محله ، وكان قد يعرض للإنسان ما يقتضى حلق رأسه لمرض أو أذى برأسه من قمل أو قرح أو غير ذلك ، فأوجب تعالى عليه بسبب ذلك فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك . وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما انبهم من هذا الإطلاق في هذه الثلاثة في حديث كعب بن عجرة على ما مر تفسيره ، واقتضى هذا التركيب التخيير بين هذه الثلاثة ، ثم ذكر تعالى أنهم إذا كانوا آمنين ، وتمتع أحدهم بالعمرة إلى وقت الإحرام بالحج فإنه يلزمه ما استيسر من الهدي ، وقد فسرنا ما استيسر من الهدي ، وأنه إذا لم يجد ذلك بتعذر ثمن الهدي ، أو فقدان الهدي ، فيلزمه صيام ثلاثة أيام في الحج ، أي : في زمن وقوع الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله ووطنه . ثم أخبر أن هذه الأيام ، وإن اختلف زمان صيامها ، فمنها ما يصومه وهو ملتبس بهذه الطاعة الشريفة ، ومنها ما يصومه غير ملتبس بها ، لكن الجميع كامل في الثواب والأجر ، إذ هو ممثل ما أمر اللّه تعالى به ، فلا فرق في الثواب بين ما أمر بإيقاعه في الحج ، وما أمر بإيقاعه في غير الحج . ثم ذكر أن هذا التمتع ، ولازمه من الهدي أو الصوم ، هو مشروع لغير المكي ، ثم لما تقدّم منه تعالى في هذه الآيات أوامر ونواهي ، كرر الأمر بالتقوى ، وأعلم أنه تعالى شديد العقاب لمن خالف ما شرع تعالى . وجاءت هذه الآية شديدة الالتئام ، مستحكمة النظام ، منسوقاً بعضها على بعض ، ولا كنسق اللآلىء مشرقة الدلالة ولا كإشراق الشمس في برجها العالي . سامية في الفصاحة إلى أعالي الذرى ، معجزة أن يأتى بمثلها أحد من الوري . |
﴿ ١٩٦ ﴾