٢٠٠

فإذا قضيتم مناسككم . . . . .

{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّه كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } وسبب نزولها أنهم كانوا إذا اجتمعوا في الموسم تفاخروا بآبائهم ، فيقول أحدهم : كان يقرى الضيف ، ويضرب بالسيف ، ويطعم الطعام ، وينحر الجزور ، ويفك العانى ، ويجر النواصي ، ويفعل كذا وكذا . فنزلت .

وقال الحسن : كانوا إذا حدثوا

أقسموا بالآباء ، فيقولون . وأبيك ، فنزلت .

وقال السدي : كانوا إذا قضوا المناسك وأقاموا بمنى يقوم الرجل ويسأل اللّه فيقول : اللّهم إن أبي كان عظيم الجفنة ، كثير المال فأعطني بمثل ذلك ليس يذكر اللّه ، إنما يذكر أباه ويسأل اللّه أن يعطيه في دنياه ، وقال : معناه أبو وائل ، وابن زيد ، فنزلت : فإذا قضيتم ، أي أديتم وفرغتم . كقوله : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ } أي : أديت ، وقد يعبر بالقضاء عن ما يفعل من العبادات خارج الوقت المحدود ، والقضاء إذا علق على فعل النفس فالمراد منه الإتمام والفراغ ، كقوله : وما فاتكم فاقضوا وإذا علق على فعل غيره ، فالمراد منه الإلزام ، كقوله : قضى الحاكم بينهما ، والمراد من الآية الفراغ .

وقال بعض المفسرين : يحتمل أن يكون هذا الشرط والجزاء ، كقولك : إذا حججت فطف وقف بعرفة ، فلا نعني بالقضاء الفراغ من الحج ، بل الدخول فيه ، ونعني بالذكر ما أمروا به من الدعاء بعرفات ، والمشعر الحرام ، والطواف والسعي ، فيكون المعنى : فاذا شرعتم في قضاء المناسك ، أي : في أدائها فاذكروا . وهذا خلاف الظاهر ، لأن الظاهر الفراغ . من المناسك لا الشروع فيها ، ويؤيد ذلك مجيء الفاء في : فإذا ، بعد الجمل السابقة .

والمناسك هي مواضع العبادة ، فيكون هذا على حذف مضاف ، أي : أعمال مناسككم ، أو العبادات نفسها المأمور بها في الحج ، قاله الحسن ، أو الذبائح وإراقة الدماء ، قاله مجاهد .

فاذكروا اللّه : هذا جواب : إذ ، والمعنى : إذا فرغتم من الوقوف بعرفة ، ونفرتم من منى ، فعظموا اللّه وأثنوا عليه إذ هداكم لهذه الطاعة ، وسهلها ويسرها عليكم ، حتى أديتم فرض ربكم وتخلصتم من عهدة هذا الأمر الشاق الصعب الذي لا يبلغ إلا بالتعب الكثير ، وانهماك النفس والمال ،

وقيل : الذكر هنا هو ذكر اللّه على الذبيحة ،

وقيل : هو التكبيرات بعد الصلاة في يوم النحر وأيام التشريق ،

وقيل : بل المقصود تحويلهم عن ذكر آبائهم إلى ذكره تعالى كذكركم آباءكم تقدم . هذا هو ذكر مفاخرهم ، أو السؤال من اللّه أن يعطيهم مثل ما أعطى آباءهم ، أو القسم بآبائهم ،

وقيل : ذكر آبائهم في حال الصغر ، ولهجه بأبيه يقول : أبه أبه ، أول ما يتكلم .

وقيل : معنى الذكر هنا الغضب للّه كما تغضب لوالديك إذا سُبَّا ، قاله أبو الجوزاء ، عن ابن عباس . ونقل ابن عطية أن محمد بن كعب القرظي قرأ : كذكركم آباؤكم ، برفع الأباء ، ونقل غيره عن محمد بن كعب أنه قرأ : أباكم ، على الإفراد ، ووجه الرفع أنه فاعل بالمصدر ، والمصدر مضاف إلى المفعول ، التقدير : كما يذكركم آباؤكم . والمعنى : ابتهلوا بذكر اللّه والهجوا به كما يلهج المرء بذكر ابنه . ووجه الإفراد أنه استغنى به عن الجمع ، لأنه يفهم الجمع من الإضافة إلى الجمع ، لأنه معلوم أن المخاطبين ليس لهم أب واحد ، بل آباء .

و : أو ، هنا قيل : للتخيير ،

وقيل : للاباحة ،

وقيل : بمعنى بل أشدّ ، جوزوا في إعرابه وجوهاً إضطروا إليها لاعتقادهم أن ذكراً بعد أشدّ تمييزاً بعد أفعل التفضيل ، فلا يمكن إقراره تميزاً إلاَّ بهذه التقادير التي قدورها ، ووجه إشكال كونه تمييزاً أن أفعل التفضيل إذا انتصب ما بعده فإنه يكون غير الذي قبله ، تقول : زيد أحسن وجهاً ، لأن الوجه ليس زيداً فإذا كان من جنس ما قبله انخفض نحو زيد أفضل رجلٍ . فعلى هذا يكون التركيب في مثل : أضرب زيداً كضرب عمر وخالداً أو أشدّ ضرب ، بالجر لا بالنصب ، لأن المعنى أن أفعل التفضيل جنس ما قبله ، فجوزوا إذ ذاك النصب على وجوه .

أحدها : أن يكون معطوفاً على موضع الكاف في : ذكركم ، لأنها عندهم نعت لمصدر محذوف ، أي : ذكراً كذكركم آباءكم أو أشد ، وجعلوا الذكر ذكراً على جهة المجاز ، كما قالوا : شاعر شعر ، قاله أبو علي وابن جني .

الثاني : أن يكون معطوفاً على آبائكم ، قاله الزمخشري ، قال : بمعنى أو أشد ذكراً من آبائكم ، على أن ذكراً من فعل المذكور انتهى . وهو كلام قلق ، ومعناه : أنك إذا عطفت أشد على آبائكم كان التقدير : أو قوماً أشد ذكراً من آبائكم ، فكان القوم

مذكورين ، والذكر الذي هو تمييز بعد أشدّ هو من فعلهم ، أي من فعل القوم المذكورين ، لأنه جاء بعد أفعل الذي هو صفة للقوم ، ومعنى قوله : من آبائكم أي : من ذكركم لآبائكم .

الثالث : أنه منصوب بإضمار فعل الكون . والكلام محمول على المعنى . التقدير : أو كونوا أشد ذكراً له منكم لأبائكم . ودل عليه أن معنى : فاذكروا اللّه ؛ كونوا ذاكريه .

قال أبو البقاء : قال : وهذا أسهل من حمله على المجاز ، يعنى في أن يجعل للذكر ذكر في قول أبي علي وابن جني .

وجوزوا الجر في أشد على وجهين .

أحدهما : ان يكون معطوفاً على : ذكركم ، قاله الزجاج ، وابن عطية ، وغيرهما . فيكون التقدير : أو كذكر أشدّ ذكراً ، فيكون إذ ذاك قد جُعل للذكر ذكر .

الثاني : أن يكون معطوفاً على الضمير المجرور بالمصدر في : كذكركم ، قاله الزمخشري . قال ما نصه : أو أشدّ ذكراً في موضع جر ، عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله : كذكركم ، كما تقول : كذكر قريش آباءهم أو قوم أشدّ منهم ذكراً ، وفي قول الزمخشري : العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، فهي خمسة وجوه من الإعراب كلها ضعيف ، والذي يتبادر إليه الذهن في الآية أنهم أمروا بأن يذكروا اللّه ذكراً يماثل آبائهم أو أشدّ ، وقد ساغ لنا حمل الآية على هذا المعنى بتوجيه واضح ذهلوا عنه ، وهو أن يكون : أشدّ ، منصوباً على الحال ، وهو نعت لقوله : ذكراً لو تأخر ، فلما تقدّم انتصب على الحال ، كقولهم .

لمية موحشاً طلل

فلو تأخر لكان : لمية طلل موحش ، وكذلك لو تأخر هذا لكان : أو ذكراً أشدّ ، يعنى : من ذكركم آباءكم ، ويكون إذ ذاك : أو ذكراً أشدّ ، معطوفاً على محل الكاف من : كذكركم ، ويجوز أن يكون ذكراً مصدراً ، لقوله : فاذكروا كذكركم ، في موضع الحال ، لأنه في التقدير : نعت نكرة تقدّم عليهما فانتصب على الحال ، ويكون : أو أشدّ ، معطوفاً على محل الكاف حالاً معطوفة على حال ، ويصير كقوله : أضرب مثل ضرب فلان ضرباً ، التقدير ضرباً مثل ضرب فلان ، فلما تقدّم انتصب على الحال ، وحسن تأخره أنه كالفاصلة في جنس المقطع . ولو تقدّم لكان : فاذكروا ذكراً كذكركم ، فكان اللفظ يتكرر ، وهم مما يجتنبون كثرة التكرار للفظ ، فلهذا المعنى ، ولحسن القطع ، تأخر .

لا يقال في الوجه

الأول : إنه يلزم فيه الفصل بين حرف العطف وهو : أو ، وبين المعطوف الذي هو : ذكراً ، بالحال الذي هو : أشدّ ، وقد نصوا على أنه إذا جاز ذلك فشرطه أن يكون المفصول به قسماً أو ظرفاً أو مجروراً ، وإن يكون حرف العطف على أزيد من حرف ، وقد وجد هذا الشرط الآخر ، وهو كون الحرف على أزيد من حرف ، وفقد الشرط الأول ، لأن المفصول به ليس بقسم ولا ظرف ولا مجرور ، بل هو حال ، لأن الحال هي مفعول فيها في المعنى ، فهي شبيهة بالحرف ، فيجوز فيها ما جاز في الظرف . وهذا أولى من جعل : ذكراً ، تمييزاً لأفعل التفضيل الذي هو وصف في المعنى ، فيكون : للذكر ذكر بأن ينصبه على محل الكاف ، أو يجره عطفاً على ذكر المجرور بالكاف ، أو الذي هو وصف في المعنى للذكر بأن ينصبه بإضمار فعل أي : كونوا أشدّ ، أو للذاكر الذكر ، وبأن ينصبه عطفاً على : أباءكم ، أو للذكر الفاعل بأن يجره عطفاً على المضاف إليه الذكر ، ولا يخفى ما في هذه الأوجه من الضعف ، فينبغي أن ينزه القرآن عنها .

{فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا } قالوا : بين تعالى حال الذاكرين له قبل مبعثه ، وحال المؤمنين بعد مبعثه ، وعلمهم بالثواب والعقاب . والذي يظهر أن هذا تقسيم للمأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك ، وأنهم ينقسمون في السؤال إلى من يغلب عليه حب الدنيا ، فلا يدع إلاَّ بها ، ومنهم من يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة ، وأن هذا من الالتفات . ولو جاء على الخطاب لكان : فمنكم من يقول : ومنكم . وحكمة هذا الالتفات أنهم ما وجهوا بهذا الذي لا ينبغي أن يسلكه عاقل ، وهو الاقتصار على الدنيا ، فأبرزوا في صورة أنهم غير المخاطبين بذكر اللّه بأن جعلوا في صورة الغائبين ، وهذا من التقسيم

الذي هو من جملة ضروب البيان ، وهو تقسيم بديع يحصره المقسم إلى هذين النوعين ، لا على ما يذهب إليه الصوفية من أن ثَمَّ قِسماً ثالثاً لم يذكر لهم تعالى ، قالوا : وهم الراضون بقضائه ، المستسلمون لامره ، الساكتون عن كل دعآء ، وافتشآء ، ومفعول آتنا الثاني محذوف ، تقديره : ما تريد ، أو : مطلوبنا ، أو ما أشبه .

هذا وجعل في زائدة ، وتكون الدنيا المفعول الثاني قول ساقط ، وكذلك جعل في بمعنى : من ، حتى يكون في موضع المفعول ، وحذف مفعولي آتي ، وأحدهما جائز اختصاراً واقتصاراً ، لأن هذا باب : أعطى ، وذلك جائز فيه .

{لَهُ فِى الاْخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } تقدّم تفسير هذا في قوله :{ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَالَهُ فِى الاْخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } واحتملت هذه الجملة هنا معنيين :

أحدهما : الأخبار بأنه لا نصيب له في الآخرة لاقتصاره على الدنيا .

والثاني : أن يكون المعنى إخباراً عن الداعي بأنه ما له في الآخرة من طلب نصيب ، فيكون هذا كالتوكيد لاقتصاره على طلب الدنيا ، وجمع في قوله :{ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا } ولو جرى على لفظٍ من ، لكان : ربّ آتني . وروعي الجمع هنا لكثرة من يرغب في الاقتصار على مطالب الدنيا ونيلها ، ولو أفرد لتوهم أن ذلك قليل .

﴿ ٢٠٠