٢٠٥

وإذا تولى سعى . . . . .

{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الاْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } حقيقة التولي الانصراف بالبدن ، ثم اتسع فيه حتى استعمل فيما يرجع عنه من قول وفعل ،

ومعناه هنا ، قال ابن عباس : غضب لأنه رجوع عن الرضى الذي كان قبله ، وقال الحسن : انصرف عن القول الذي قاله ، وقال مقاتل ، وابن قتيبة : انصرف ببدنه ، وقال مجاهد : من الولاية ، أي : صار والياً .

والسعي حقيقة المشي بالقدمين بسرعة ، وعلى ذلك حمله هنا أبو سليمان الدمشقي ، وابن عباس ، فيما ذكر ابن عطية عنه ، والمعنى : وإذا نهض عنك يا محمد بعد إلانة القول وحلاوة المنطق ، فسعى بقدميه في الأرض ، فقطع الطريق وأفسد فيها ، كما فعله الأخنس بثقيف .

وقيل : السعي هنا العمل ، وهو مجاز سائغ في استعمال العرب ، ومنه : { وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى }{ وَمَنْ أَرَادَ الاْخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وقال الشاعر : فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ، ولم أطلب ، قليل من المال

ولكنما أسعى لمجد مؤثل

وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

وقال الأعشى :

وسعى لكندة غير سعي مواكل

قيس فصدّ عدوها ونبالها

وقال آخر :

أسعى على حيي بني مالك

كل امرىء في شأنه ساع

وللمعنى : سعى بخيلة وإرادة الدوائر على الإسلام ، وإلى هذا القول نحا مجاهد ، وابن جريج ، وذكر أيضاً عن ابن عباس : والقائلون بهذا القول : قال قوم منهم : معناه سعى فيها بالكفر ، وقال قوم بالظلم . وقد يقع السعي بالقول ، يقال : سعى بين فلان وفلان نقل إليهما قولا يوجب الفرقة ، ومنه :

ما قلت ما قال وشاة سعوا

سعى عدو بيننا يرجف

في الأرض ، معلوم أن السعي لا يكون إلاَّ في الأرض ، لكن أفاد العموم بمعنى في : أي مكان حل منها سعى للفساد ، ويدل لفظ : في الأرض ، على كثرة سعيه ونقلته في نواحي الأرض ، لأنه يلزم من عموم الأرض تكرار السعي وتقدّم ما يشبهه في قوله :{ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الارْضِ}

وإذا كان المراد الأخنس فالأرض أرض المدينة ، فالألف واللام للعهد .

ليفسد فيها ، هذا علة سعيه ، والحامل له على السعي في الأرض ، والفساد ضد الصلاح ، وهو معاندة اللّهفي قوله :{ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}

والفساد يكون بأنواع من : الجور ، والقتل ، والنهب ، والسبي ، ويكون : بالكفر .

و : يهلك الحرث ، والنسل ، عطف هذه العلة على العلة قبلها ، وهو : ليفسد فيها ، وهو شبيه بقوله :{ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وقوله :

أكرّ عليهم دعلجاً ولبانه .

لأن الإفساد شامل يدخل تحته إهلاك الحرث والنسل ، ولكنه خصهما بالذكر لأنهما أعظم ما يحتاج إليه في عمارة الدنيا ، فكان إفسادهما غاية الإفساد .

من فسر الإفساد بالتخريب ، جعل هذا من باب التفصيل بعد الإجمال .

و : يهلك الحرث والنسل ، تقدم ذكر الحرث في قوله : { وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ } وتقدم ذكر النسل في الكلام على المفردات ، وعلى ما تقدم من أن الآية في الأخنس ، يكون الحرث الزرع ، والنسل الحمر التي قتلها ، فيكون النسل المراد به الدواب ذوات النسل .

وقيل : المراد هنا بالحرث هنا النساء ، وبالنسل الأولاد ،

وقال تعالى :{ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } وذكره ابن عطية عن الزجاج احتمالاً ، فيكون من الكناية ، وهو من ضروب البيان .

وقرأ الجمهور : ويهلك ، من أهلك . عطفاً على : ليفسد ،

وقرأ أبي : وليهلك ، بإظهار لام العلة ،

وقرأ قوم : ويهلك ، من أهلك ، وبرفع الكاف . وخرج على أن يكون عطفاً على قوله : يعجبك ، أو على : سعى ، لأنه في معنى : يسعى ،

وأما على الاستئناف ، أو على إضمار مبتدأ ، أي : وهو يهلك .

وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة ، وابن محيصن : ويهلك من هلك ، وبرفع الكاف ، والحرث والنسل على الفاعلية ، وكذلك رواه حماد بن سملة عن ابن كثير ، وعبد الوراث عن أبي عمرو ،

وحكى المهدوي أن الذي رواه حماد عن ابن كثير ، إنما هو : ويهلك من أهلك ، وبضم الكاف ، الحرث بالنصب .

وقرأ قوم : ويهلك من هلك ، وبفتح اللام ، ورفع الكاف ورفع الحرث ، وهي لغة شاذة نحو : ركن يركن ، ونسبت هذه القراءة إلى الحسن الزمخشري .

قال الزمخشري : وروى عنه ، يعنى عن الحسن ، ويهلك مبنياً للمفعول ، فيكون في هذه اللفظة ست قراءآت : ويهلك وليهلك ويهلك ، وما بعد هذه الثلاثة منصوب ، لأن في الفعل ضمير الفاعل ، ويهلك ويهلك ويهلك ، وما بعد هذه الثلاثة مرفوع بالفعل ، وهذه الجملة الشرطية إما مستأنفة ، وتم الكلام عند قوله : وهو ألدّ الخصام ،

وإما معطوفة على صلة مَنْ أو صفتها ، من قوله : ويعجبك .

{وَاللّه لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ } تقدمت علتان ، والثانية داخلة تحت الأولى ، فأخبر تعالى أنه لا يحب الفساد ، واكتفى بذكر الأولى لانطوائها على الثانية وإن فسرت المحبة بالإرادة ، وقد جاءت كذلك في مواضع منها :{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ } فلا بد من التخصيص ، أي : لا يحب من أهل الصلاح الفساد ، ولا يمكن الحمل على العموم إذ ذاك على مذهبنا لوقوع الفساد ، فلو لم يكن مراداً لما كان واقعاً . وقد تعلقت المعتزلة بهذه الآية في أن اللّه لا يريد الفساد ، فما وقع منه فليس مراد اللّه تعالى ، ولا مفعولاً له ، لأنه لو فعله لكان مريداً له لاستحالة أن يفعل ما لا يريد ؛ قالوا : ويدل على أن محبته الفعل هي إرادته له ، أنه غير جائز أن يحب كونه ولا يريد أن يكون ، بل يكره أن يكون . وفي هذا ما فيه من التناقض . انتهى ما قالوا :

وقيل : المعنى واللّه لا يحب الفساد ديناً ،

وقيل : هو على حذف مضاف أي : أهل الفساد ،

وقال ابن عباس : المعنى لا يرضى المعاصي ،

وقيل : عبر بالمحبة عن الأمر أي : لا يأمر بالفساد .

وقال الراغب : الإفساد إخراج الشي من حالة محمودة لا لغرض صحيح ، وذلك غير موجود في فعل اللّه تعالى ، وهذه التأويلات كلها هو على ما ذهب إليه المتكلمون من أن الحب بمعنى الإرادة ،

قال ابن عطية : والحب له على الإرادة مزية إيثار ، فلو قال أحد : إن الفساد المراد تنقصه مزية الإيثار لصح ذلك إذ الحب من اللّه تعالى إنما هو لما حسن من جميع جهاته . انتهى كلامه . وإذا صح هذا اتضح الفرق بين الإرادة والمحبة ، وصح أن اللّه يريد الشيء ولا يحبه .

وقال بعضهم : سوَّى المعتزلة بين المحبة والإرادة واستدلوا بهذه ، وجمهور العلماء على خلاف ذلك ، والفرق بين الإرادة والمحبة بيِّن ، فإن الإنسان

يريد بطيء الجرح ولا يحبه وإذا بان في المعقول الفرق بين الإرادة والمحبة بطل ادّعاؤهم التساوي بينهما ، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : { وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } انتهى كلامه .

وجاء في كتاب اللّه تعالى نفي محبة اللّه تعالى أشياء ، إذ لا واسطة بين الحب وعدمه بالنسبة إليه تعالى ، بخلاف غيره ، فإنه قد يعر ، وعنهما فالمحبة ومقابلها بالنسبة إلى اللّه تعالى نقيضان ، وبالنسبة إلى غيره ضدّان ، وظاهر الفساد يعم كل فساد في ارض أو مال أو دين ، وقد استدل عطاء بقوله :{ وَاللّه لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ } على منع شق الإنسان ثوبه .

وقال ابن عباس : الفساد هنا الخراب .

﴿ ٢٠٥