٢٠٧ومن الناس من . . . . . {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّه} قيل المراد : بمن ، غير معين ، بل . هي في كل من باع نفسه للّه تعالى في جهاد ، أو صبر على دين ، أو كلمة حق عند جائر ، أو حمية للّه ، أو ذب عن شرعه ، أو ما أشبه هذا . وقيل : هي في معين ، فقيل في : الزبير والمقداد بعثهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى مكة ليحطا خبيباً من خشيته ، وقيل : في صهيب الرومي خرج مهاجراً فلحقته قريش ، فنشل كنانته ، وكان جيد الرمي شديد البأس محذوره ، وقالوا : لا نتركل حتى تدلنا على مالك ، فدلهم على موضعه ، فرجعوا عنه ، وقيل : عذب ليترك دينه فافتدي من ماله وخرج مهاجراً ، وقيل : في علي حين خلفه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقال الحسن : نزلت في المسلم يلقى الكافر فيقول : قل : لا إله إلا اللّه ، فلا يقول ، فيقول : واللّه لأشرين ، فيقاتل حتى يقتل . وقال ابن عباس : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقيل : في صهيب ، وأبي ذر ، وكان أبو ذر قد أخذه أهله فانقلب ، فخرج مهاجراً . وقيل : في المهاجرين والأنصباء ، وذكر المفسرون غير هذا ، وقصصاً طويلاً في أخبار هؤلاء المعينين الذين قيل نزلت فيهم الآية . والذي ينبغي أن يقال : إنه تعالى لما ذكر { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } وكان عاماً في المنافق الذي يبدي خلاف ما أضمر ، ناسب أن يذكر قسيمه عاماً من : يبذل نفسه في طاعة اللّه تعالى من أي صعب كان ، فكذلك المنافق مدارٍ عن نفسه بالكذب والرياء ، وحلاوة المنطق ، وهذا باذلٌ نفسه للّه ولمرضاته . وتندرج تلك الأقاويل التي في الآيتين تحت عموم هاتين الآيتين ، ويكون ذكر ما ذكر من تعيين من عين إنما هو على نحو من ضرب المثال ، ولا يبعد أن يكون السبب خاصاً ، والمراد عموم اللفظ ، ولما طال الفصل هنا بين القسم الأول والقسم الثاني ، أتى في التقسيم الثاني بإظهار المقسم منه ، فقال : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى } بخلاف قوله :{ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً } فانه لما قرب ذكر أحد القسمين من القسم ، أضمر في الثاني المقسم . ومعنى يشري : يبيع ، وهو سائغ في اللسان ، قال تعالى :{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ } قال الشاعر : وشريت بُرداً ليتني من بعد بُردٍ كنت هامة ويشري : عبارة عن أن يبذل نفسه في اللّه ، ومنه تسمى الشراة ، وكأنهم باعوا أنفسهم من اللّه ، وقال قوم : شرى ، بمعنى : اشترى ، فإن كانت الآية في صهيب فهذا موجود فيه حيث اشترى نفسه بماله ولم يبعها . وانتصاب : ابتغاء ، على أنه مفعول من أجله ، أي الحامل لهم على بيع أنفسهم ، إنما هو طلب رضى اللّه تعالى ، وهو مستوفٍ لشروط المفعول من أجله من كونه مصدراً متحد الفاعل والوقت ، وهذه الإضافة ، أعنى : إضافة المفعول من أجله ، هي محضة ، خلافاً للجرمي ، والرياشي ، والمبرّد ، وبعض المتأخرين ، فانهم يزعمون أنها إضافة غير محضة ، وهذا مذكور في كتب النحو . ومرضاة : مصدر بني على التاء : كمدعاة ، والقياس تجريده عنها ، كما تقول : مرمى ومغزى ، وأمال الكسائي : مرضات ، وعن ورش خلاف في إمالة : مرضات ، وقرأنا له بالوجهين ، ووقف حمزة عليها بالتاء ، ووقف الباقون بالهاء . فأمّا وقف حمزة بالتاء فيحتمل وجهين . أحدهما : أن يكون على مذهب من يقف من العرب على : طلحة ، وحمزة ، بالتاء ، كالوصل ، وهو كان القياس دون الإبدال . قال : دار السلمى بعد حول قد عفت بل حوز تيهاء كظهر الحجفت وقد حكى هذه اللغة سيبويه . والوجه الآخر : أن تكون على نية الإضافة ، كأنه نوى تقدير المضاف إليه ، فأراد أن يعلم أن الكلمة مضافة ، وأن المضاف إليه مراد : كإشمام من أشم الحرف المضموم في الوقف ليعلم أن الضمة مرادة ، وفي قوله :{ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّه } إشارة إلى حصول أفضل ما عند اللّه للشهداء ، وهو رضاه تعالى . وفي الحديث الصحيح ، في مجاورة أهل الجنة ربهم تعالى ، حين يسألهم : هل رضيتم ؟ فيقولون : يا ربنا كيف لا ترضى وقد أدخلتنا جنتك وباعدتنا من نارك ؟ فيقول : ولكم عندي أفضل من ذلك ، فيقولون : يا ربنا ، وما أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده . {وَاللّه رَءوفٌ بِالْعِبَادِ } حيث كلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الشهداء ، قاله الزمخشري ؛ و قال ابن عطية : ترجئة تقتضي الحض على إمتثال ما وقع به المدح في الآية ، كما في قوله :{ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذمّ ، وتقدّم أن الرأفة أبلغ من الرحمة . والعباد إن كان عاماً ، فرأفته بالكافرين إمهالهم إلى انقضاء آجالهم ، وتيسير أرزاقهم لهم ، ورأفته بالمؤمنين تهيئته إياهم لطاعته ، ورفع درجاتهم في الجنة . وإن كان خاصاً ، وهو الأظهر ، لأنه لما ختم الآية بالوعيد من قوله :{ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } وكان ذلك خاصاً بأولئك الكفار ، ختم هذه بالوعد المبشر لهم بحسن الثواب ، وجزيل المآب ، ودل على ذلك بالرأفة التي هي سبب لذلك ، فصار ذلك كناية عن إحسان اللّه إليهم ، لأن رأفته بهم تستدعي جميع أنواع الإحسان ، ولو ذكر أي نوع من الإحسان لم يفد ما أفاده لفظ الرأفة ، ولذلك كانت الكناية أبلغ ، ويكون إذ ذاك في لفظ : العباد ، التفاتاً ، إذ هو خروج من ضمير غائب مفرد إلى اسم ظاهر ، فلو جرى على نظم الكلام السابق لكان : واللّه رؤوف به أو بهم ، وحسن الالتفات هنا بهذا الاسم الظاهر شيئان ، أحدهما : أن لفظ : العباد ، له في استعمال القرآن تشريف واختصاص ، كقوله :{ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }{ سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً }{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا }{ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} والثاني : مجيء اللفظة فاصلة ، لأن قبله :{ وَاللّه لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } فناسب :{ وَاللّه رَءوفٌ بِالْعِبَادِ} وفي هذه الآية ، والتي قبلها من علم البديع : وقد ذكرنا مناسبة هذا التقسيم للتقسيم السابق قبله في قوله :{ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا } قال بعض الناس : في هذه الآيات نوع من البديع ، وهو التقديم والتأخير ، وهو من ضروب البيان في النثر والنظم دليل على قوة الملكة في ضروب من الكلام ، وذلك قوله :{ وَاذْكُرُواْ اللّه فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ } متقدم على قوله :{ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ } لأن قوله :{ وَاذْكُرُواْ اللّه فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ } معطوف عليه ، قوله :{ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّه } وقوله :{ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ } معطوف على قوله :{ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ } وقوله :{ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ } معطوف على قوله :{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ } وعلى قوله :{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى } فيصير الكلام معطوفاً على الذكر لأنه مناسب لما قبله من المعنى ، ويصير التقسيم معطوفاً بعضه على بعض ، لأن التقسيم الأول في معنى الثاني ، فيتحد المعنى ويتسق اللفظ ، ثم قال : ومثل هذا ، قد ذكر قصة البقرة ، وقتل النفس ، وقصة المتوفى عنها زوجها ، في الآيتين ، قال : ومثل هذا في القرآن كثير ، يعني : التقديم والتأخير ، ولا يذهب إلى ما ذكره ، ولا تقديم ولا تأخير في القرآن ، لأن التقديم والتأخير عندنا من باب الضرورات ، وتنزه كتاب اللّه تعالى عنه . |
﴿ ٢٠٧ ﴾