٢١٠

هل ينظرون إلا . . . . .

{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ } ؟ هل : هنا للنفي ، المعنى : ما ينظرون ، ولذلك دخلت إلاَّ ، وكونها بمعنى النفي إذ جاء بعدها : إلاَّ ، كثير الاستعمال في القرآن ، وفي كلام العرب ،

قال تعالى :{ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ }{ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ } وقال الشاعر : وهل أنا إلاَّ من غزية إن غوت

غويت ، وإن ترشد غزية أرشد

و : ينظرون ، هنا معناه : ينتظرون ، تقول العرب : نظرت فلاناً انتظره ، وهو لا يتعدى لواحد بنفسه إلاَّ بحرف جر . قال امرؤ القيس :

فانكما إن تنظراني ساعة

من الدهر تنفعي لدى أم جندب

ومفعول : ينظرون ، هو ما بعد إلاَّ ، أي : ما ينتظرون إلاَّ إتيان اللّه ، وهو استثناء مفرع ، قيل : وينظرون هنا ليست من النظر الذي هو تردد العين في المنظور إليه ، لأنه لو كان من النظر لعدى بإلى ، وكان مضافاً إلى الوجه ، وإنما هو من الانتظار . انتهى .

وهذا التعليل ليس بشيء لأنه يقال : هو من النظر ، وهو تردد العين . وهو معدى بإلى ، لكنها محذوفة ، والتقدير : هل ينظرون إلاَّ إلى أن يأتيهم اللّه ؟ وحذف حرف الجر مع أن إذا لم يلبس قياس مطرد ، ولا لبس هنا ، فحذفت إلى ، وقوله : وكان مضافاً إلى الوجه يشير إلى قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ } فكذلك ليس بلازم ، قد نسب النظر إلى الذوات كثيراً كقوله :{ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ }{ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } والضمير في : ينظرون ، عائد على الذالين ، وهو التفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة .

والإتيان : حقيقة في الانتقال من حيز إلى حيز ، وذلك مستحيل بالنسبة إلى اللّه تعالى ، فروى أبو صالح عن ابن عباس : أن هذا من المكتوم الذي لا يفسر ، ولم يزل السلف في هذا وأمثاله يؤمنون ، ويكلون فهم معناه إلى علم المتكلم به ، وهو اللّه تعالى .

والمتأخرون تأولوا الإتيان وإسناده على وجوه :

أحدهما : أنه إتيان على ما يليق باللّه تعالى من غير انتقال .

الثاني : أنه عبر به عن المجازات لهم ، والانتقام ، كما قال :{ فَأَتَى اللّه بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ }{ فَأَتَاهُمُ اللّه مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ}

الثالث : أن يكون متعلق الإتيان محذوفاً ، أي : أن يأتيهم اللّه بما وعدهم من الثواب ، والعقاب ، قاله الزجاج .

الرابع : أنه على حذف مضاف ، التقدير : أمر اللّه ، بمعنى : ما يفعله اللّه بهم ، لا الأمر الذي مقابله النهي ، ويبينه قوله ، بعد :{ وَقُضِىَ الاْمْرُ}

الخامس : قدرته ، ذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد .

السادس : أن في ظلل ، بمعنى بظلل ، فيكون : في ، بمعنى : الباء ، كما قال .

خبيرون في طعن الأباهر والكلى

أي : بطعن ، لأن خبيراً لا يتعدى إلاَّ بالباء ، كما . قال .

خبير بأدواء النساء طبيب

قال الزجاج وغيره .

والأولى أن يكون المعنى : أمر اللّه ، إذ قد صرح به في قوله :{أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ } وتكون عبارة عن بأسه وعذابه ، لأن هذه الآية إنما جاءت مجيء التهديد والوعيد ،

وقيل : المحذوف : آيات اللّه ، فجعل مجيء آياته مجيئاً له على التفخيم لشأنها ، قاله في } المنتخب} . ونقل عن ابن جرير أنه قال : يأتيهم بمحاسبتهم على الغمام على عرشه تحمله ثمانية من الملائكة ،

وقيل : الخطاب مع اليهود ، وهم مشبهة ، ويدل على أنه مع اليهود قول بعد :{ سَلْ بَنِى إِسْراءيلَ } ، وإذا كان كذلك

فالمعنى : أنهم لا يقبلون ذلك إلاَّ أن يأتيهم اللّه ، فالآية على ظاهرها ، إذ المعنى : أن قوماً ينتظرون إتيان اللّه ، ولا يدل ذلك على أنهم محقون ولا مبطلون .

{فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ } تقدّم الكلام على ذلك في قوله :{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } ويستحيل على الذات المقدّسة أن تحل في ظلة ،

وقيل : المقصود تصوير عظمة يوم القيامة وحصولها وشدتها ، لأنه لا شيء أشد على المذنبين ، وأهول ، ومن وقت جمعهم وحضور أمهر الحكام وأكثرهم هيبة لفصل الخصومة ، فيكون هذا من باب التمثيل ، وإذا فسر بأن عذاب اللّه يأتيهم في ظلل من الغمام ، فكان ذلك ، لأنه أعظم ، أو يأتيهم الشر من جهة الخير ، لقوله :{ هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } ولأنه إذا كان ذلك يوم القيامة فهو علامة لأشد الأهوال في ذلك اليوم ، قال اللّه تعالى :{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ } ولأن الغمام ينزل قطرات غير محدودة ، فكذلك العذاب غير محصورة ،

وقيل : إن العذاب لا يأتي في الظلل ، بل المعنى تشبيه الأهوال بالظلل

من الغمام ، كما قال : { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ } فالمعنى أن عذاب اللّه يأتيهم في أهوال عظيمة ، كظلل الغمام .

واختلفوا في هذا التوعد ، فقال ابن جريج : هو توعد بما يقع في الدنيا ، وقال قوم : بل توعد بيوم القيامة .

وقرأ أبي ، وعبد اللّه ، وقتادة ، والضحاك : في ظلال ، وكذلك روي هارون بن حاتم ، عن أبي بكر ، عن عاصم ، هنا وفي الحرفين في الزمر ، وهي : جمع ظلة ، نحو : قلة وقلال ، وهو جمع لا ينقاس ، بخلاف : ظلل ، فإنه جمع منقاس ، أو جمع : ظل نحو ضل وضلال .

و : في ظلل ، متعلق بيأتيهم ، وجوّزوا أن يكون حالاً فيتعلق بمحذوف ، و : من الغمام ، في موضع الصفة لظلل ، وجوّزوا أن يتعلق بيأتيهم ، أي من ناحية الغمام ، فتكون : مِن ، لابتداء الغاية ، وعلى الوجه الأول تكون للتبعيض ،

وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وأبو جعفر : والملائكةِ ، بالجر عطفاً على : في ظلل ، أو عطفاً على الغمام ، فيختلف تقدير حرف الجر ، إذ على الأل التقدير : وفي الملائكة ، وعلى الثاني التقدير : ومن الملائكة .

وقرأ الجمهور بالرفع عطفاً على : اللّه ،

وقيل : في هذا الكلام تقديم وتأخير ، فالإتيان في الظل مضاف إلى الملائكة ، والتقدير : إلاَّ أن يأتيهم اللّه والملائكة في ظلل ، فالمضاف إلى اللّه تعالى هو الإيتان فقط ، ويؤيد هذا قراءة عبد اللّه ، إلاَّ أن يأتيهم اللّه والملائكة في ظلل .

{وَقُضِىَ الاْمْرُ } معناه : وقع الجزاء وعذب أهل العصيان ،

وقيل : أتم أمر هلاكهم وفرغ منه ،

وقيل : فرغ من وقت الانتظار وجاء وقت المؤاخذة ،

وقيل : فرغ لهم مما يوعدون به إلى يوم القيامة ،

وقيل : فرغ من الحساب ووجب العذاب . وهذه أقوال متقاربة .

{وَقُضِىَ الاْمْرُ } معطوف على قوله : يأتيهم ، فهو من وضع الماضي موضع المستقبل ، وعبر بالماضي عن المستقبل لأنه كالمفروغ منه الذي وقع ، والتقدير : ويقضي الأمر ، ويحتمل أن يكون هذا إخباراً من اللّه تعالى ، أي : فرغ من أمرهم بما سبق في القدر ، فيكون من عطف الجمل لا أنه في حيز ما ينتظر .

وقرأ معاذ بن جبل : وقضاء الأمر ، قال :

قال الزمخشري : على المصدر المرفوع عطفاً على الملائكة ، وقال غيره بالمد والخفض عطفاً على الملائكة ،

وقيل : ويكون : في ، على هذا بمعنى الباء ، أي : بظلل من الغمام ، وبالملائكة ، وبقضاء الأمر .

وقرأ يحيى بن معمر : وقضي الأمور ، بالجمع ، وبني الفعل للمفعول وحذف الفاعل للعلم به ، ولأنه لو أبرز وبني الفعل للفاعل لتكرر الاسم ثلاث مرات .

{وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الامُورُ } قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ترجع ، بفتح التاء وكسر الجيم في جميع القرآن ، ويعقوب : بالتاء مفتوحة وكسر الجيم في جميع القرآن ، على أن : رجع ، لازم وباقي السبعة : بالياء وفتح الجيم مبيناً للمفعول ، وخارجة عن نافع : يرجع بالياء . وفتح الجيم على أن رجع متعد . وكلا الاستعمالين له في لسان العرب ، ولغة قليلة في المتعدى . أرجع رباعياً ، فمن قرأ بالتاء فلتأنيث الجمع ، ومن قرأ بالياء فلكون التأنيث غير حقيقي .

وصرح باسم اللّه لأنه أفخم وأعظم وأوضح ، وإن كان قد جرى ذكره في قوله :{ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّه } ولأنه في جملة مستأنفة ليست داخلة في المنتظر ، وإنما هي إعلام بأن اللّه إليه تصير الأمور كلها . لا إلى غيره ، إذ هو المنفرد بالمجازاة ، ولرفع إ بهام ما كان عليه ملوك الدنيا من دفع أمور الناس إليهم ، فأعلم أن هذا لا يكون لهم في الآخرة منها شيء ، بل ذلك إلى اللّه وحده ، أو لإعلام أنها رجعت إليه في الآخرة بعد أن كان ملكهم بعضها في الدنيا ، فصارت إليه كلها في الآخرة .

وإذا كان الفعل مبنياً للمفعول فالفاعل المحذوف ، إما اللّه تعالى ، يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة ، أو ذوو الأمور ، لما كانت ذواتهم وصفاتهم شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محاسبون مجزيون ، كانوا رادّين أمورهم إلى خالقها ، قيل :أو يكون ذلك على مذهب العرب في قولهم : فلان معجب بنفسه ، ويقول الرجل لغيره : إلى أين يُذهب بك ؟ وإن لم يكن أحد يذهب به . انتهى . وملخصه : إنه يبني الفعل للمفعول ولا يكون ثم فاعل ، وهذا خطأ ، إذ لا بد للفعل من تصوّر فاعل ، ولا يلزم أن يكون الفاعل للذهاب أحداً ، ولا الفاعل للإعجاب ، بل الفاعل غيره ، فالذي أعجبه بنفسه هو رأيه ، واعتقاده بجمال نفسه ، فالمعنى أنه أعجبه رأيه ، وذهب به رأيه ، فكأنه قيل : أعجبه رأيه بنفسه ، وإلى أين يذهب بك رأيك أو عقلك ؟ ثم حذف الفاعل ، وبني الفعل للمفعول .

قيل :

وفي قوله :{ وَقُضِىَ الاْمْرُ }{ وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الامُورُ } قسمان من أقسام علم البيان :

أحدهما : الإيجاز في قوله : { وَقُضِىَ الاْمْرُ } فإن في هاتين الكلمتين يندرج في ضمنها جميع أحوال العباد مند خلقوا إلى يوم التناد ، ومن هذا اليوم إلى الفصل بين العباد .

والثاني : الاختصاص بقوله :{ وَإِلَى اللّه } فاختص بذلك اليوم لانفراده فيه بالتصرف والحكم والملك . انتهى .

وقال السلمى : وقضي الأمر وصلوا إلى ما قضي لهم في الأزل من إحدى المنزلتين .

وقال جعفر : كشف عن حقيقة الأمر ونهيه .

وقال القشيري : انهتك ستر الغيب عن صريح التقدير .

﴿ ٢١٠