٢٢٣

نساؤكم حرث لكم . . . . .

{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } في البخاري ومسلم : أن اليهود كانت تقول في الذي يأتي امرأته من دبرها في قبلها إن الولد يكون أحول ، فنزلت .

وقيل : سبب النزول كراهة نساء الانصار ذلك لما تزوجهم المهاجرون ، وكانوا يفعلون ذلك بمكة ، يتلذذون بالنساء مقبلات ومدبرات ، روى معناه الحاكم في صحيحه ،

وقيل : سبب ذلك أن بعض الصحابة قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : هلكت فقال : { وما الذي أهلك ؟ } قال : حولت رجلي الليله ، فنزلت .

ومناسبتها لما قبلها ظاهرة ، لأنه لما تقدّم { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه } وكان الإطلالاق يقتضي تسويغ إتيانهنّ على سائر احوال الإتيان ، أكد ذلك بأن نص بما يدل على سائر الكيفيات ، وبين أيضاً المحل بجعله حرثاً وهو : القبل ، والحرث كما تقدّم في قصة البقرة : شق الأرض للزرع ، ثم سمى بالزرع حرثاً{ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ } وسمى الكسب حرثاً ، قال الشاعر : إذا أكل الجراد حروث قوم

فحرثى همه أكل الجراد

قالوا : يريد فامرأتي ، وأنشد أحمد بن يحي : إنما الأرحام أرضو

ن لنا محترثات

فعلينا الزرع فيها ، وعلى اللّه النبات .

وهذه الجملة جاءت بياناً وتوضيحاً لقوله :{ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه } وهو المكان الممنوع من استعماله وقت الحيض ، ودل ذلك على أن الغرض الأصيل هو طلب النسل : { تناكحوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة } ، لا قضاء الشهوة فقط ، فأتوا النساء من المسلك الذي يتعلق به الغرض الأصلي ، وهو القبل .

ونساؤكم : مبتدأ ، وحرث لكم : خبر ، إما على حذف أداة التشبية ، أي : كحرث لكم ويكون نساؤكم على حذف مضاف ، أي : وطء نسائكم كالحرث ، إذ النطفة كالبذر ، والرحم كالأرض ، والولد كالنبات ،

وقيل : هو على حذف مضاف أي : موضع حرث لكم ، وهذه الكناية في النكاح من بديع كنايات القرآن ، قالوا : وهو مثل قوله تعالى : { يَأْكُلُ الطَّعَامَ } ومثل قوله :{ وَأَرْضاً لَّمْ } على قول من فسره بالنساء ، ويحتمل أن يكون : حرث لكم ، بمعنى : محروثه لكم ، فيكون من باب إطلاق المصدر ، ويراد به اسم المفعول . وفي لفظة : حرث لكم ، دليل على أنه القبل لا الدبر ؟ قال الماتريدي : أي مزدرع لكم ، وفيها دليل على النهي عن امتناع وطىء النساء ، لأن المزدرع إذا ترك ضاع . ودليل على إباحة الوطىء لطلب النسل والولد ، لا لقضاء الشهوة . إنتهى كلامه .

وفرق الراغب بين الحرث والزرع ، فقال : الحرث إلقاء البذر وتهيئة الأرض ، والزرع مراعاته وإنباته ، ولذلك قال تعالى { أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزرِعُونَ لَوْ } أثبت لهم الحرث ونفى عنهم الزرع .

{فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } الإيتان كناية

عن الوطىء ، وجاء : حرث لكم ، نكرة لأنه الأصل في الخبر ، ولأنه كان المجهول ، فأفادت نسبته إلى المبتدأ جواز الاستمتاع به شرعاً ، وجاء : فأتوا حرثكم ، معرفة لأن في الإضافة حوالة على شيء سبق ، واختصاصاً بما أضيف إليه ، ونظير ذلك أن تقول : زيد مملوك لك فأحسن إلى مملوكك .

وإذا تقدّمت نكرة ، وأعدت اللفظ ، فلا بد أن يكون معرفة : إما بالألف واللام ، كقوله : { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ }

وإما بالإضافة كهذا .

وأنَّى : بمعنى : كيف بالنسبة إلى العزل ، وترك العزل ، قاله ابن المسيب ، فتكون الكيفية مقصورة على هذين الحالين ، أو بمعنى كيف على الإطلاق في أحوال المرأة ، قاله عكرمة ، والربيع ، فتكون دلت على جواز الوطء للمرأة . في أي حال شاءها ، الواطىء مقبلة ومدبرة ، على أي شق ، وقائمة ومضطجعة وغير ذلك من الأحوال ، وذلك في مكان الحرث ، أو : بمعنى متى ؟ قاله الضحاك ، فيكون إذ ذاك ظرف زمان . ويكون المعنى : قأتوا حرثكم في أي زمان أردتم .

وقال جماعة من المفسرين : أنَّى ، بمعنى أي ، والمعنى على أي صفة شئتم ، فيكون على هذا تخييراً في الخلال والهيئة ، أي : أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة ، وقد وقع هذا مفسراً في بعض الأحاديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : { ذلك لا يبالي به بعد أن يكون في صمام واحد} . والصمام رأس القارورة ، ثم استعير . وقالت فرقة : أنَّى ، بمعنى : أين ؟ فجعلها مكاناً ، واستدل بهذا على جواز نكاح المرأة في دبرها ، وممن روي عنه إباحة ذلك : محمد بن المنكدر ، وابن أبي ملكية ، وعبد اللّه بن عمر ، من الصحابة ، ومالك ، ووقع ذلك في العبية . وقد روي عن ابن عمر تكفير من فعل بذلك وإنكاره ، وروي عن مالك إنكار ذلك ، وسئل فقيل : يزعمون أنك تبيح إتيان النساء في ادبارهنّ ؟ فقال : معاذ اللّه ، ألم تسمعوا قول اللّه عزّ وجل :{ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } وأنَّى يكون الحرث إلاَّ في موضع البذر ؟ ونقل مثل هذا عن الشافعي ، وأبي حنيفة ، ونقل جواز ذلك عن : نافع ، وجعفر الصادق ، وهو اختيار المرتضي من أئمة الشيعة ، وذكر في { المنتخب} ما استدل به لهذا المذهب وما ورد به ، فيطالع هناك ، إذ كتابنا هذا ليس موضوعاً لذكر دلائل الفقه إلاَّ بمقدار ما يتعلق بالآية .

وقد روى تحريم ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اثنا عشر صحابياً بألفاظ مختلفة كلها تدل على التحريم ، ذكرها أحمد في } مسنده { وأو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه } تحريم المحل المكروه} .

قال ابن عطية : ولا ينبعغي لمن يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم ، وقال أيضاً : أنى شئتم ، معناه عند جمهور العلماء من : صحابة ، وتابعين ، وأئمة : من أي وجه شئتم ، معناه : مقبلة ومدبرة على جنب ، وأنَّى : إنما يجيء سؤالاً وإخبارطاً على أمر له جهات ، فهي أعخم في اللغة من : كيف ، ومن : أين ، ومن : متى . هذا هو الاستعمال العربي .

وقد فسر الناس أنَّى في هذه الآية بهذه الألفاظ ، وفسرها سيبوية بكيف ، ومن أين بإجتماعهما ؟ وقال النحويون : أنَّى ، لتعميم الأحوال ، وقد تأتي : أنى ، بمعنى : متى ، وبمعنى : أين ، وتكون استفاماً وشرطاً ، وجعلوها في الشرطية ظرف مكان فقط .

وإذا كان غالب مدلولها في اللغة أنها للاحوال ، فلا حجة لمن تعلق بأنها تدل على تعميم مواضع الإتيان ، فتكون بمعنى : أين

قال الزمخشري وقوله :{ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } تمثيل ، أي فأتوهنّ كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها ، من أي جهة شئتم ، لا تحظر عليكم جهة دون جهة ، والمعنى : جامعوههّن من أي شق أردتم بعد أن يكون المأتى واحداً ، وهو موضع الحرث .

{هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء }{ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه }{ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } من الكنايات اللطيفة ، والتعرضات المستحسنة ، فهذه واشباهها في كلام اللّه تعالى آداب حسنة ، على المؤمنين أن يتعلموها ويتادبوا بها ، ويتكلفوا مثلها في محاوراتهم ومكاتباتهم انتهى كلامه . وهو حسن .

قالوا والعامل في أنَّى فأتوا ، وهذا الذي قالوه لا يصح ، لأناقد ذكرنا أنها تكون استفهاماً أو شرطاً ، لا جائز أن تكون هنا شرطاً ، لأنها إذ ذاك تكون ظرف مكان ، فيكون ذلك مبيحاً لإتيان النساء في غير القبل ، وقد ثبت تحريم ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وعلى تقدير الشرطية يمتنع أن يعمل في الظرف الشرطي ما قبله ، لأنه معمول لفعل الشرط ، كما أن فعل الشرط معمول له ، ولا جائز أن يكون استفاماً ، لأنها إذا كانت استفهاماً اكتفت بما بعدها من فعل كقوله { أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ } ومن اسم كقوله :{ أَنَّى لَكِ هَاذَا } ولا ييفتقر إلى غير ذلك ، وهنا يظهر افتقارها وتعلقها بما قبلها .

وعلى تقدير أن يكون استفهاماً لا يعمل فيها ما قبلها ، وأنها تكون معمولة للفعل بعدها ، فتبين على وجهي : أنَّى ، أنها لا تكون معمولة لما قبلها ، وهذا من المواضع المشكلة التي تحتاج إلى فكر ونظر .

والذي يظهر ، واللّه أعلم ، أنها تكون شرطاً لافتقارها إلى جملة غير الجملة التي بعدها ، وتكون قد جعلت فيها الأحوال . كجعل الظروف المكانية ، وأجريت مجراها تشبيهاً للحال بالظرف المكاني ، وقد جاء نظير ذلك في لفظ : كيف ، خرج به عن الاستفهام إلى معنى الشرط في قولهم : كيف تكون أكون ،

وقال تعالى :{ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } فلا يجوز أن تكون هنا استفهاماً ، وإنما لحظ فيها معنى بالشرط وارتباط الجملة بالأخرى وجواب الجملة محذوف ، ويدل عليه ما قبله ، تقديره : أنى شئتم فأتوه ، وكيف يشاء ينفق ، كما حذف جواب الشرط في قولك : أضرب زيداً أنى لقيته ، التقدير أنى لقيته فاضربه .

فإن قلت : قد أخرجت : أنَّى ، عن الظرفية الحقيقية وأبقيتها لتعميم الأحوال مثل : كيف ، وجعلتها مقتضية لجملة أخرى كجملة الشرط ، فهل الفعل الماضي الذي هو : شئتم ، في موضع جزم كحالها إذا كانت ظرفاً ؟ أم هو في موضع رفع كهو بعد : كيف ، في قولهم : كيف تصنع أصنع ؟ .

فالجواب أنه يحتمل الأمرين ، لكن يرجح أن تكون في موضع جزم لأنه قد استقر الجزم بها إذا كانت ظرفاً صريحاً ، غاية ما في ذلك تشبيه الأحوال بالظروف ، وبينهما علاقة واضحة ، إذ كل منهما على معنى : في ، بخلاف : كيف ، فإنه لم يستقر فيها الجزم ومن أجاز الجزم بها ، فإنما قاله بالقياس ، والمحفوظ عن العرب الرفع في الفعل بعدها ، حيث يقتضي جملة أخرى .

{وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ } مفعول قدّموا محذوف ، فقيل : التقدير ذكر اللّه عند القربان ، أو : طلب الولد والإفراط شفعاء ، قاله ابن عباس ، أو : الخير ، قاله السدي ، أو : قدم صدق ، قاله ابن كيسان ، أو : الأجر في تجنب ما نهيتم وإمتثال ما أمرتم به ، قاله ابن عطية ، أو : ذكر اللّه على الجماع ، كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : { لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال : اللّهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فقضى بينهما ولد لم يضره} .أو التسمية على الوطىء ، حكاه الزمخشري . أو : ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة ، وهو خلاف ما نهيتكم عنه ، قاله الزمخشري ، وهو قول مركب من قول : من قبله .

والذي يظهر أن المعنى : وقدّموا لأنفسكم طاعة اللّه ، وامتثاله ما أمر ، واجتناب ما نهى عنه لأنه تقدّم أمر ونهي ، وهو الخير الذي ذكره في قوله :{ وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّه } ولذلك جاء بعده { وَاتَّقُواْ اللّه } أي : اتقو اللّه فيما أمركم به ونهاكم عنه ، وهو تحذير لهم من المخالفة ، ولأن العظيم الذي تقدّم يحتاج إلى أن يقدّم معك ما تقدّم به عليه مما لا تفتضح به عنده ، وهو العمل الصالح .

{وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ } الظاهر أن الضمير المجرور في : ملاقوه ، عائد على اللّه تعالى ، وتكون على حذف مضاف ، أي : ملاقو جزائه على أفعالكم ، ويجوز أن يعود على المفعول المحذوف الذي لقوله : وقدّموا ، أي : واعلموا أنكم ملاقو ما قدّمتم من الخير والطاعة ، وهو على حذف مضاف أيضاً ، أي : ملاقو جزائه ، ويجوز أن يعود على الجزاء الدال عليه معمول قدموا المحذوف ، وفي ذلك رد على من ينكر البعث والحساب والمعاد ، سواء عاد على اللّه تعالى أو على معمول قدّموا ، أو على الجزاء .

{وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ } أي :

بحسن العاقبة في الآخرة ، وفيه تنبيه على وصف الذي به يتقى اللّه ويقدّم الخير ، ويستحق التبشير ، وهو الإيمان . وفي أمره لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالتبشير تأنيس عظيم ووعد كريم بالثواب الجزيل ، ولم يأت بضمير الغيبة ، بل أتى بالظاهر الدال على الوصف ، ولكونه مع ذلك فصل آية .

وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة إخبار اللّه تعالى عن المؤمنين أنهم يسألون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الخمر والميسر ، فوقع ما أخبر به تعالى ، وأمر نبيه أن يخبر من سأله عنهما بأنهما قد اشتملا على إثم كبير ، فكان هذا الإخبار مدعاة لتركهما ، ودل ذلك على تحريمهما ، والمعنى أنه يحصل بشرب الخمر واللعب بالميسر إثم ، وما اكتفى بمطلق الإثم حتى وصفه بالكبر في قراءة ، وبالكثرة في قراءة ، وقد قال تعالى في المحرمات : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ }{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا إِلَى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } فحيث وصف الإثم بالكبير ، وكان من أعظم الآثام وأوغلها في التحريم ، وأخبر أيضاً أن فيهما منافع للناس ، من : أخذ الأموال بالتجارة في الخمر ، وبالقمر في الميسر ، وغير ذلك ، لأنه ما من شيء حرم إلاَّ فيه منفعة بوجه ما ، خصوصاً ما كان الطبع مائلاً إليه ، أو كان الشخص ناشئاً عليه بالطبع . ثم أخبر تعالى أن ضرر الإثم الذي هو جالب إلى النار ، أعظم من النفع المنقضي بانقضاء وقته ، ليرشد العاقل إلى تجنب ما عذابه دائم ونفعه زائل .

ثم أخبر تعالى أنهم يسألونه عن الشيء الذي ينفقونه ؟ فأجيبوا بأن ينفقوا ما سهل عليهم إنفاقه ، ويشير { مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ } ثم ذكر تعالى أنه يبين للمؤمنين الآيات بياناً مثل ما بين في أمر الخمر ، والميسر ، وما ينفقون . ثم ذكر أنه بهذا البيان يحصل الرجاء في تفكر حال الدنيا والآخرة ، فإذا فكر فيهما يرجح بالفكر إيثار الآخرة على الدنيا .

ثم استطرد من هذين السؤالين إلى السؤال عن أمر اليتامى ، وما كلفوا في شأنهم ، إذ كان اليتامى لا ينهضون بالنظر في أحوال أنفسهم ، ولصغرهم ونقص عقولهم ، فأجيبوا بأن إصلاحهم خير من إهمالهم للمصلح بتحصيل الثواب وللمصلح بتأديبه وتعليمه وتنمية ماله : { أمتي كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً} .

ثم أخبر أن مخالطتهم مطلوبة لأنهم إخوانكم في الإسلام ، فالإخوة موجبة للنظر في حال الأخ . وأبرز الطلب في صورة شرطية ، وأتى الجواب بما يقتضى الخلطة ، وهو كونهم إخوانكم .

ولما أمر بالإصلاح لليتامى ، ذكر أنه تعالى يعلم المفسد من المصلح ، ليحذر من الفساد ويدعو إلى الصلاح ، ومعنى علمه هنا أنه مجاز من أفسد ، و : من أصلح ، بما يناسب فعله ، ثم أخبر تعالى أنه لو شاء لكلفكم ما يشق عليكم ، فدل على أن التكاليف السابقة من تحريم الخمر والميسر ، وتكليف الصدقة ، بأن تكون عفواً ، وتكليف إصلاح اليتيم ليس فيه مشقة ولا إعنات .

ثم ختم هذا بأنه هو العزيز الذي لا يغالب ، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها .

ولما ذكر تعالى تحريم شيء مما كانوا يتلذذون به ، وهو شرب الخمر والأكل به ، والقمر بالميسر والأكل به ، ولما كان النكاح أيضاً من أعظم الشهوات والملاذ ، استطرد إلى ذكر تحريم نوع منه ، وهو نكاح من قام به الوصف المنافي للإيمان ، وهو الإشراك الموجب للتنافر والتباعد . والنكاح موجب للخلطة والمودّة

قال تعالى :{ وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً }{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّه وَرَسُولَهُ } لا يتراءى داراهما فنهى فيهن عن نكاح من قام به الوصف المنافي للإيمان ، وغيَّا ذلك بحصول الإيمان ، ثم ذكر من كان رقيقاً وهو مؤمن ، خير من مشرك ولو كان يعجب في حسن أو مال أو رئاسة ؛ ونبه على العلة الموجبة للترك ، وهو أن من أشرك داع إلى النار ، وجرّ ممن كان معاشر شخص ومخالطه وملابسه ، حتى في النكاح الذي هو داع إلى التآلف من كل معاشرة أن يجيبه إذا دعاه لما هو من هواه ، وهم كانوا قريبين عهد بالإيمان وحديثه ، فمنعوا من ذلك سداً للتطرق إلى النار .

ثم أخبر تعالى أنه هو يدعو إلى الجنة والمغفرة ، فهو الناظر بالمصلحة لكم في تحريم ما حرّم وإباحة ما أباح ، وهو يبين آياته ويوضحها بحيث لا يظهر معها لبس ، وذلك لرجاء تذكركم واتعاظكم بالآيات .

ولما ذكر تعالى تحريم نكاح من قام به وصف الإشراك ، ذكر تحريم وطء من قام به في الحيض من المؤمنات ، وغيَّا ذلك بالطهر ما قبله بالإيمان ، ثم أباح إذا تطهرن لنا الوطء لهنّ من حيث أمر اللّه وهو المكان الذي كان مشغولاً بالحيض ، وأمرنا باجتناب وطئه في وقت الحيض ، ثم نبه على مزية التائب والمتطهر بكونه تعالى يحبه ، ولم يكتف بذلك في جملة واحدة حتى كرر ذلك في جملتين وأفرد كل وصف بمحبة فقال : إن اللّه يحب التوّابين ويحب المتطهرين .

ثم ذكر تعالى إباحة الوطء للمرأة التي ارتفع عنها الحيض على الحالة التي يشاؤها الزوج ويختارها ، من كونها مقبلة أو مدبرة ، أو مجنبة أو مضطجعة ، ومن أي شق شاء ، لما في التنقل من مزيد الالتذاذ ، والاستمتاع بالنظر إلى سائر بدنها ، والهيآت المحركة للباه .

ونبه بالحرث على أنه محل النسل ، فدل ذلك على تحريم الوطء في الدبر لأنه ليس محل النسل ، وإذا كانوا قد منعوا من وطء الحائض لما اشتمل عليه محل الوطء من الأذى بدم الحيض ، فلأن يمنعوا من المحل الذي هو أكثر أذى أولى . وأحرى ، ولما كان قدم نهي وأمر في الآيات السابقة وفي هذا ، ختم ذلك بالأمر بتقديم العمل الصالح ، وأن ما قدّمه الإنسان إنما هو عائد على نفع نفسه ، ثم أمر بتقوى اللّه تعالى ، وأمر بأن يعلم ويوقن اليقين الذي لا شك فيه أنا ملاقو اللّه ، فيجازينا على أعمالنا ، وأمر نبيه أن يبشر المؤمنين ، وهم الذين امتثلوا ما أمر به واجتنبوا ما نهى عنه ، فكان ابتداء هذه الآيات بالتحذير عن معاطاة العصيان ، واختتامها بالتبشير لأهل الإيمان آيات تعجز عن وصف ما تضمنته البدائع الألسن ، ويذعن لفصاحتها الجهبذ اللسن ، جمعت بين براعة اللفظ ونصاعة المعنى ، وتعلق الجمل وتأنق المبنى ، من سؤال وجواب ، وتحذير من عقاب ، وترغيب في ثواب ، هدت إلى الصراط المستقيم ، وتلقيت من لدن حكيم عليم .

﴿ ٢٢٣