٢٥٨ألم تر إلى . . . . . بهت : تحير ودهش ، ويكون متعدياً على وزن فعَّل ، ومنه : فتبهتهم ، ولازماً على وزن فَعَلَ كظرف وفعل كدهش ، والأكثر في اللازم الضم وحكي عن بعض العرب : بهت بفتح الهاء لازماً ، ويقال بهته وباهته واجهه بالكذب ، وفي الحديث أن اليهود قوم بهت . الخاوي : الخالي ، خوت الدار تخوى خوىً غير ممدود ، وخوياً ، والأولى أفصح ، ويقال خوى البيت انهدم لأنه بتهدّمه يخلو من أهله ، والخوى : الجوع : لخلو البطن من الغذاء ، وخوت المرأة وخويت خلا جوفها عند الولادة ، وخويت لها تخويةً علمت لها خوية تأكلها ، وهي طعام . والخوي على وزن فعيل : البطن السهل من الأرض ، وخوي البعير جافَى بطنه عن الأرض في مبركه ، وكذلك الرجل في سجوده قال الراجز : خوى على مستويات خمس كركرة وثفنات ملسِ العرش : سقف البيت ، وكل ما يهيأ ليُظلَّ أو يِكُنَّ فهو عريش الدالية ، وقال تعالى : { وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } وفي الحديث لما أمر ببناء المسجد قالوا : نبنيه لك بنياناً قال : { لا بل عرش كعرش أخي موسى } فوضعوا النخل على الحجارة وغشوه بالجريد وسعفه ، وقيل : العرش البنيان قال الشاعر : إن يقتلونك فقد ثللث عروشهم بعتيبة بن الحارث بن شهاب مائة : اسم لرتبة من العدد معروفة ، ويجمع على مئات ومئين ، وهي مخففة محذوفة اللام ، ولا مهاياء ، فالأصل مئية ، ويقال : أمأيتُ الدراهم إذا صيرتها ، وأمأَتْ هي ، أي : صارت مائة . العام : مدّة من الزمان معروفة ، وألفه منقلبة عن واو ، لقولهم : العويم والأعوام . وقال النقاش : العام مصدر كالعوم ، سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك ، والعوم كالسبح ، وقال تعالى { وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } والعام على هذا : كالقول والقال . اللبث : المكث والإقامة . يتسنه : إن كانت الهاء أصلية فهو من السنة على من يجعل لامها المحذوف هاءً ، قالوا في التصغير : سنيهة ، وفي الجمع سنهات . وقالوا : سانهت وأسنهت عند بني فلان ، وهي لغة الحجاز وقال الشاعر : وليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح وإن كانت الهاء للسكت ، وهو اختيار المبرد ، فلام الكلمة محذوفة للجازم ، وهي ألف منقلبة عن واو على من يجعل لام سنة المحذوف واواً . لقولهم : سنية وسنوات ، واشتق منه الفعل ، فقيل : سانيت وأسنى وأسنت . أبدل من الواو تاءً ، أو تكون الألف منقلبة عن ياء مبدلة من نون ، فتكون من المسنون أي : المتغير ، وأبدلت كراهة اجتماع الأمثال ، كما قالوا : تظني ، ويتلعَ الأصل تطنن ويتلعع ، قاله أبو عرم ، وخطأه الزجاج . قال : لأن المسنون : المصبوب على سنة الطريق وصوبه وقال النقاش : هو من قوله من ماء غير آسنٍ ورد النجاة عليه هذا القول لأنه لو كان من أسن الماء لجاء لم يتأسن ، لأنك لو بنيت تفعل من الأكل لقلت تأكل ، ويحتمل ما قاله النقاش على اعتقاد القلب ، وجعل فاء الكلمة مكان اللام ، وعينها مكان الفاء ، فصار : تسنأ ، وأصله تأسن ، ثم أبدلت الهمزة كما قالوا في : هدأ وقرأ واستقرأ ، هذا وقرا واستقرا . الحمار : هو الحيوان المعروف ، ويجمع في القلة على : أفعلة قالوا : أحمرة ، وفي الكثرة على : فُعُل ، قالوا : حمر وعلى : فعيل ، قالوا : حمير . أنشر : اللّه الموتى ، ونشرهم ، ونشر الميت حيي قال الشاعر : حتى يقول الناس مما رأوا يا عجباً للميت الناشر وأما : أنشز ، بالزاي فمن النشز ، وهو ما ارتفع من الأرض ، ومعن : أنشز الشيء جعله ناشزاً ، أي : مرتفعاً ، ومنه : انشزوا فانشزوا ، وامرأة ناشز ، أي : مرتفعة عن الحالة التي كانت عليها مع الزوج . الطمأنينة : مصدر اطمأنَّ على غير القياس ، والقياس الإطمئنان ، وهو : السكون ، وطامنته أسكنته ، وطامنته فتطامن : خفضته فانخفض ، ومذهب سيبويه في اطمأن أنه مما قدّمت فيه الميم على الهمزة ، فهو من باب المقلوب ، ومذهب الجرمي : أن الأصل في اطمأن كاطأمن ، وليس من المقلوب ، والترجيح بين المذهبين مذكور في علم التصريف . الطير : اسم جمع : كركْب وسفْر ، وليس بجمع خلافاً لأبي الحسن . صار : يصور قطع وانصار : انقطع ، وصرته أصوره : أملته ، ويقال أيضاً في القطع والإمالة : صاره يصيره ، قاله أبو علي ، وقال الفراء : الضم في الصاد يحتمل الإمالة والتقطيع ، والكسر فيها لا يحتمل إلاَّ القطع ، وقال أيضاً : صاره مقلوب صراه عن كذا ، أي : قطعه ، وقال غيره : الكسر بمعنى القطع ، والضم بمعنى الإمالة . الجبل : معروف ويجمع في القلة على : أجبال وأجبل ، وفي الكثرة على : جبال . الجزء : من الشيء ، القطعة منه وجزَّأ الشيء جعله قطعاً . {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى رِبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّه الْمُلْكَ } مناسبة هذه القصة التي جرت بين إبراهيم والذي حاجه ، وانه ناظر ذلك الكافر فغلبه وقطعه ، إذ كان اللّه وليه ، وانقطع ذلك الكافر وبهت إذ كان وليه هو الطاغوت :{ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللّه هُمُ الْغَالِبُونَ }{ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللّه هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فصارت هذه القصة مثلاً للمؤمن والكافر اللذين تقدّم ذكرهما ، وتقدّم الكلام على قوله :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ } فأغنى عن إعادته . وقرأ علي بن أبي طالب : ألم تر ، بسكون الراء ، وهو من إجراء الوصل مجرى الوقف ، والذي حاج إبراهيم : هو نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ، ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والربيع ، والسدّي ، وابن إسحاق ، وزيد بن أسلم ، وغيرهم . وقال ابن جريج : هو أول ملك في الأرض ، ورده ابن عطية . وقال قتادة : هو أول من تجبر ، وهو صاحب الصرح ببابل . قيل : إنه ملك الدنيا بأجمعها ونفذت فيها طينته ، وقال مجاهد : ملك الأرض مؤمنان : سليمان وذو القرنين ، وكافران : نمروذ وبخت نصر . وقيل : هو نمروذ بن يجاريب بن كوش بن كنعان ابن سام بن نوح . وقيل : نمروذ بن فايخ بن عابر بن سايخ بن ارفخشده بن سام بن نوح . وحكى السهيلي أنه : النمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح ، وكان ملكاً على السودان ، وكان ملكه الضحاك الذي يعرف بالازدهاق ، واسمه اندراوست بن اندرشت ، وكان ملك الأقاليم كلها ، وهو الذي قتله أفريدون بن أهبان ، وفيه يقول أبو تمام حبيب في قصيد مدح به الأفشين ، وذكر أخذه بابك الخرّمي : بل كان كالضحاك في فتكاته بالعالمين ، وأنت أفريدون وهو أول من صلب وقطع الأيدي والأرجل ، وملك نمروذ أربعمائة عام فيما ذكروا : وله ابن يسمى نمروذاً الأصغر ملك عاماً واحداً . ومعنى : { حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى رِبّهِ } أي : عارض حجته بمثلها ، أو : أتى على الحجة بما يبطلها ، أو : أظهر المغالبة في الحجة . ثلاثة أقوال . واختلفوا في وقت الحاجة ، فقيل : خرجوا إلى عيدٍ لهم ، فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها ، فلما رجعوا قال : أتعبدون ما تنحتون ؟ فقال له : فمن تعبد ؟ قال : أعبد { رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ } وقيل : كان نمروذ يحتكر ، فإذا احتاجوا اشتروا منه الطعام ، فإذا دخلوا عليه سجدوا له ، فلما دخل إبراهيم لم يسجد له ، فقال : مالك لم تسجد لي ؟ فقال : أنا لا أسجد إلا لربي فقال له نمروذ : من ربك ؟ قال :{ إِبْراهِيمُ رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ} وفي قوله : إنه كان كلما جاء قوم قال من ربكم وإلهكم ؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميروهم وجاء إبراهيم يمتار ، فقال له : من ربك وإلهك ؟ فقال :{ رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ} وقيل : كانت الحاجة بعد أن خرج من النار التي ألقاه فيها النمروذ ، وذكروا أنه لما لم يُمْرِهِ النمروذ ، مر على رمل أعفر ، فأخذ منه وأتى أهله ونام ، فوجدوه أجود طعام ، فصنعت منه وقربته له ، فقال : من أين هذا ؟ قالت من الطعام الذي جئت به فعرف أن اللّه رزقه ، فحمد اللّه . وقيل : مرّ على رملة حمراء ، فأخذ منها ، فوجدوها حنطة حمراء ، فكان إذا زرع منها جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حباً متراكباً . في : ربه ، يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم ، وأن يعود على النمروذ ، والظاهر الأول . {أَنْ آتَاهُ اللّه الْمُلْكَ } الظاهر أن الضمير في : آتاه ، عائد على : الذي حاج ، وهو قول الجمهور ، و : أن آتاه ، مفعول من أجله على معنيين : أحدهما : أن الحامل له على المحاجة هو ايتاؤه الملك ، أبطره وأورثه الكبر ، والعتوّ ، فحاج لذلك . والثاني : أنه وضع المحاجة موضع ما وجب عليه من الشكر للّه تعالى على ايتائه الملك ، كما تقول : عاداني فلان لأني أحسنت إليه ، تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان . ومنه :{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } وأجاز الزمخشري أن يكون التقدير : حاج وقت أن يكون التقدير : حاج وقت أن آتاه اللّه الملك ، فإن عنى أن ذلك على حذف مضاف ، فيمكن ذلك على أن فيه بعداً من جهة أن المحاجة لم تقع وقت أن آتاه اللّه الملك . إلاَّ أن يجوز في الوقت ، فلا يحمل على ما يقتضيه الظاهر من أنه وقت ابتداء ايتاء اللّه الملك له ، ألا ترى أن ايتاء اللّه الملك إياه سابق على الحاجة وإن عنى أن : أن والفعل ، وقعت موقع المصدر الواقع موقع ظرف الزمان ؟ كقولك : جئت خفوق النجم ، ومقدم الحاج ، وصياح الديك ؟ فلا يجوز ذلك ، لأن النحويين مضوا على أنه لا يقوم مقام ظرف الزمان إلا المصدر المصرح بلفظه ، فلا يجوز : أجىء أن يصيح الديك ، ولا جئت أن صاح الديك . وقال المهدوي : يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم : أي آتاه ملك النبوّة . قال ابن عطية : وهذا تحامل من التأويل . إنتهى . وما ذكره المهدوي احتمالاً هو قول المعتزلة ، قالوا : الهاء كناية عن إبراهيم لا عن الكافر الذي حاجه ، لأن اللّه تعالى قال : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } والملك عهد منه ، وقال تعالى :{ مَا ءاتَاهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً الْحِكْمَةَ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ } ورُدّ قول المعتزلة بأن إبراهيم ما عرف بالملك ، وبقول الكافر : أنا أحيي وأميت ، ولو كان إبراهيم الملك لما كان يقدر على محاجته في مثل هذه الحالة ، وبأنه لما قال : أنا أحيي وأميت ، جاء برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر ، ولو لم يكن ملكاً لم يقتل بين يدي إبراهيم بغير إذنه ، إذ كان إبراهيم هو الملك ، ولا يردّ على المعتزلة بهذه الأوجه ، لأن إثبات ملك النبوّة لإبراهيم لا ينافي ملك الكافر ، لأنهما ملكان : أحدهما : بفضل الشرف في الدين كالنبوّة والإمامة . والآخر : بفضل المال والقوّة والشجاعة والقهر والغلبة والاتباع . وحصول الملك للكافر بهذا المعنى يمكن ، بل هو واقع مشاهد . وقال الزمخشري :{ فَانٍ قُلْتَ } : كيف جاز أن يؤتى اللّه الملك الكافر ؟ {قُلْتَ } : فيه قولان : آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع ، وأما التغليب والتسليط فلا ، وقيل : ملكة امتحاناً لعباده . إنتهى . وفيه نزغة اعتزالية ، وهو قوله : وأما التغليب والتسليط فلا ، لأنه عندهم هو الذي تغلب وتسلط ، فالتغليب والتسليط فعله لا فعل اللّه عندهم . {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى } هذا من إبراهيم عن سؤال سبق من الكافر ، وهو أن قال : من ربك ؟ وقد تقدّم في قصته شيء من هذ ، وإلاَّ فلا يببتدأ كلام بهذا . واختص إبراهيم من آيات اللّه بالإحياء والإماتة لأنهما أبدع آيات اللّه وأشهرها ، وأدلها على تمكن القدرة ، والعامل في إذ حاجّ ، وأجاز الزمخشري أن يكون بدلاً من : أن آتاه ، إذاً جعل بمعنى يالوقت ، وقد ذكرنا ضعف ذلك ، وأيضاً فالظرفان مختلفان إذ وقت إيتاء الملك ليس وقت قوله :{ رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ } وفي قول إبراهيم :{ رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ } تقوية لقول من قال إن الضمير في قوله : في ربه ، عائد على إبراهيم . وربي الذي يحيي ويميت ، مبتدأ وخبر ، وفيه إشارة إلى أنه هو الذي أوجد الكافر ويحييه ويميته ، كأنه قال : ربي الذي يحيي ويميت هو متصرّف فيك وفي أشباهك بما لا تقدر عليه أنت ولا أشباهك من هذين الوصفين العظميين المشاهدين للعالم اللذين لا ينفع فيهما حيل الحكماء ولا طب الأطباء ، وفيه إشارة أيضاً إلى المبدأ والمعاد وفي قوله :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى } دليل على الاختصاص لأنهم قد ذكروا أن الخبر ، إذا كان بمثل هذا ، دل على الاختصاص ، فتقول : زيد الذي يصنع كذا ، أي : المختص بالصنع . {قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّيَ } لما ذكر إبراهيم أن ربه الذي يحيي ويميت عارضه الكافر بأنه بحيي ويميت ، ولم يقل : أنا الذي يحيي ويميت ، لأنه كان يدل على الاختصاص ، وكان الحس يكذبّه إذ قد حيي ناس قبل وجوده وماتوا ، وإنما أراد أن هذا الوصف الذي ادعيت فيه الاختصاص لربك ليس كذلك ، بل أنا مشاركه في ذلك . قيل : أحضر رجلين ، قتل أحدهما وأرسل الآخر ، وقيل : أدخل أربعة نفر بيتاً حتى جاعوا ، فأطعم اثنين فحييا ، وترك إثنين فماتا ، وقيل : أحيا بالمباشرة وإلقاء النطفة ، وأمات بالقتل . وقرأ نافع باثبات ألف : أنا إذا كان بعدها همزة مفتوحة أو مضمر . وروى أبو نشيط إثباتها مع الهمزة المكسورة . وقرأ الباقون بحذف الألف ، وأجمعوا على إثباتها في الوقف ، وإثبات الألف وصلاً ووقفاً لغة بني تميم ، ولغة غيرهم حذفها في الوصل ، ولا تثبت عند غير بني تميم وصلاً إلاَّ في ضرورة الشعر نحو قوله : فكيف أنا وانتحالي القوافي بعد المشيب كفى ذاك عاراً والأحسن أن تجعل قراءة نافع على لغة بني تميم . لأنه من إجراء الوصل مجرى الوقف على ما تأوّله عليه بعضهم ، قال : وهو ضعيف جداً ، وليس هذا مما يحسن الأخذ به في القرآن . إنتهى . فإذا حملنا ذلك على لغة تميم كان فصيحاً . {وَأُمِيتُ قَالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللّه يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } لما خيل الكافر أنه مشارك لرب إبراهيم في الوصف الذي ذكره إبراهيم ، ورأى إبراهيم من معارضته ما يدل على ضعف فهمه أو مغالطته ، فإنه عارض اللفظ بمثله ، ولم يتدبر اختلاف الوصفين ، ذكر له ما لا يمكن أن يدعيه ، ولا يغالط فيه ، واختلف المفسرون هل ذلك انتقال من دليل إلى دليل ؟ أو هو دليل واحد والانتقال فيه من مثال إلى مثال أوضح منه ؟ وإلى القول الأول ذهب الزمخشري . قال : وكان الاعتراض عتيداً ، ولكنّ إبراهيم لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه ، ولكن انتقل إلى ما لا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب ليبهته أول شيء ، وهذا دليل على جواز الانتقال من حجة إلى حجة . إنتهى كلامه . ومعنى قول الزمخشري : وكان الاعتراض عتيداً : أي من إبراهيم ، لو أراد أن يعترض عليه بأن يقول له : أحي من أمتّ ، فكان يكون في ذلك نصرة الحجة الأولى ، وقد قيل : إنه قال له ذلك ، فانقطع به ، وأردفه إبراهيم بحجة ثانية ، فحاجه من وجهين ، وكان ذلك قصداً لقطع المحاجة ، لا عجزاً عن نصرة الحجة الأولى ، وقيل : كان نمروذ يدعي الربوبية ، فلما قال له :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى رِبّهِ وَأُمِيتُ } أي : الذي يفعل ذلك أنا لا من نسبت ذلك إليه ، فلما سمع إبراهيم افتراءه العظيم ، ودّعاءه الباطل تمويهاً وتلبيساً ، اقترح عليه ، فقال :{ فَإِنَّ اللّه يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } فافحم وبان عجزه وظهر كذبه . وقيل : لما قال :{ رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ } قال له النمروذ : وأنت رأيت هذا ؟ فلما لم يكن رآه مع علمه أن اللّه قادر عليه انتقل إلى ما هو واضح عنده وعند غيره ، وقيل : انتقل لأنهم كانوا يعظمون الشمس ، فأشار إلى أنها للّه عز وجل مقهورة . وأما القول الئاني : وهو أنه ليس انتقالاً من دليل إلى دليل ، بل الدليل واحد في الموضعين ، فهذا قول المحققين ، قالوا : وهو إنا نرى حدوث أشياء لا يقدر أحد على إحداثها ، فلا بد من قادر يتولى إحداثها وهو اللّه تعالى ولها أمثلة : منها : الإحياء والإماتة . ومنها : السحاب والرعد والبرق . ومنها : حركات الأفلاك والكواكب . والمستدل لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليل ، فكان ما فعله إبراهيم عليه السلام من باب ما يكون الدليل واحداً لا أنه يقع الانتقال عند إيضاحه من مثال إلى مثال آخر ، وليس من باب ما قع الانتقال فيه من دليل إلى دليل آخر ، ولما كان إبراهيم في المقام الأول الذي سأله الكافر عن ربه حين ادّعى الكافر الربوبية ، { قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ } فلما انتقل إلى دليل أو مثال أوضح وأقطع للخصم ، عدل إلى الاسم الشائع عند العالم كلهم فقال :{ فَإِنَّ اللّه يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ } قرر بذلك بأن ربه الذي يحيي ويميت هو الذي أوجدك وغيرك أيها الكافر ، ولم يقل : فإن ربي يأتي بالشمس ، ليبين أن إله العالم كلهم هو ربه الذي يعبدونه ، ولأن العالم يسلمون أنه لا يأتي بها من المشرق إلاَّ إلهم . ومجيء الفاء في : فإن ، يدل على جملة محذوفة قبلها ، إذ لو كانت هي المحكية فقط لم تدخل افاء ، وكأن التركيب قال إبراهيم : إن اللّه يأتي بالشمس ، وتقدير الجملة ، واللّه أعلم ؛ قال إبراهيم إن زعمت ذلك أو موهت بذلك ، فإن اللّه يأتي بالشمس من المشرق ، و : الباء ، في بالشمس للتعدية ، تقول : أتت الشمس ، وأتى بها اللّه ، أي أحياها ، و : من ، لابتداء الغاية . {فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ } قراءة الجمهور مبنياً لما لم يسم فاعله ، والفاعل المحذوف إبراهيم إذ هو المناظر له ، فلما أتى بالحجة الدامغة بهته بذلك وحيره وغلبه ، ويحتمل أن يكونه الفاعل المحذوف المصدر المفهوم من : قال ، أي : فحيره قول إبراهيم وبهته . وقرأ ابن السميفع : فبهت ، بفتح الباء والهاء ، والظاهر أنه متعدّ كقراءة الجمهور فبهت مبيناً للمفعول أي فبهت إبراهيم الذي كفر وقيل : المعنى ، فبهت الكافر إبراهيم ، أي : سب إبراهيم حين انقطع ولم تكن له حيلة ، ويحتمل أن يكون لازماً ويكون الذي كفر فاعلاً ، والمعنى : : بهت أو أتى بالبهتان . وقرأ أبو حيوة : فبهت ، بفتح الباء وضم الهاء . وقرىء فيما حكاه الأخفش : فبهت بكسر الهاء . {وَاللّه لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } إخبار من اللّه تعالى بأن الظالم لا يهديه ، وظاهره العموم ، والمراد هداية خاصة ، أو ظالمون مخصوصون ، فما ذكر في الهداية الخاصة أنه لا يرشدهم في حجتهم ، وقيل : لا يهديهم إلى الثواب في الآخرة ولا إلى الجنة ، وقيل : لا يلطف بهم ولا يلهم ولا يوفق ، وخص الظالمون بمن يوافي ظالماً أي كافراً . والذي يظهر أن هذا إخبار من اللّه بأن من حكم عليه ، وقضى بأن يكون ظالماً أي كافراً وقدّر أن لا يسلم ، فإنه لا يمكن أن يقع هداية من اللّه له { فَمَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ} ومناسبة هذه الآية بهذا الإخبار ظاهرة ، لأنه ذكر حال مدّع شركة اللّه في الإحياء والإماتة ، مموّهاً بما فعله أنه إحياء وإماتة ، ولا أحد أظلم ممن يدعي ذلك ، فأخبر اللّه تعالى : أن من كان بهذه الصفة من الظلم لا يهديه اللّه إلى اتباع الحق ، ومثل هذا محتوم له عدم الهداية ، مختوم له بالكفر ، لأن مثل هذه الدعوى ليست مما يلتبس على مدّعيها ، بل ذلك من باب الزندقة والفلسفة والسفسطة ، فدّعيها إنما هو مكابر مخالف للعقل ، وقد منع اللّه هذا الكافر أن يدعي أنه هو الذي يأتي بالشمس من المشرق إذ من كابر في ادّعاء الإحياء والإماتة قد يكابر في ذلك ويدعيه . وهل المسألتان إلاَّ سواء في دعوى ما لا يمكن لبشر ؟ ولكنّ اللّه تعالى جعله بهوتاً دهشاً متحيراً منقطعاً إكراماً لنبيه إبراهيم ، وإظهاراً لدينه . وقيل : إنما لم يدع أنه هو الذي يأتي بها من المشرق ، لظهور كذبه لأهل مملكته ، إذ يعلمون أنه محدث ، والشمس كانت تطلع من المشرق قبل حدوثه ، ولم يقل : أنا آتي بها من المغرب لعلمه بعجزه ، فلما رأى أنه لا مخلص له سكت وانقطع . |
﴿ ٢٥٨ ﴾