٢٨٦لا يكلف اللّه . . . . . {لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } ظاهره أنه استئناف ، خبر من اللّه تعالى أخبر به أنه لا يكلف العباد من أفعال القلوب والجوارح إلاَّ ما هو في وسع المكلف ، ومقتضى إدراكه وبنيته ، وانجلى بهذا أمر الخواطر الذي تأوله المسلمون في قوله :{ إِن تُبْدُواْ } الآية ، وظهر تأويل من يقول : إنه لا يصح تكليف ما لا يطاق ، وهذه الآية نظير .{ يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ }{ فَاتَّقُواْ اللّه مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقال الزمخشري : أي ما يكلفها إلاَّ ما يتسع فيه طوقها ، ويتيسر عليها دون مدى الطاقة والمجهود ، وهذا إخبار عن عدله ورحمته ، لقوله { يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس ، ويصوم أكثر من الشهر ، ويحج أكثر من حجة . وقيل : هذا من كلام الرسول والمؤمنين ، أي : وقالوا { لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } والمعنى : أنهم لما قالوا { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } قالوا : كيف لا نسمع ذلك ، ولا نطيع ؟ وهو تعالى لا يكلفنا إلاَّ ما في وسعنا ؟ والوسع دون المجهود في المشقة ، وهو ما يتسع له قدرة الإنسان . وانتصابه على أنه مفعول ثان ليكلف و قال ابن عطية : يكلف ، يتعدّى إلى مفعولين . أحدهما محذوف تقديره : عبادة أو شيئاً . انتهى . فإن عنى أن أصله كذا ، فهو صحيح ، لأن قوله : إلاَّ وسعها ، استثناء مفرغ من المفعول الثاني ، وإن عنى أنه محذوف في الصناعة ، فليس كذلك . بل الثاني هو وسعها ، نحو : ما أعطيت زيداً إلاَّ درهماً ، ونحو : ما ضربت إلاَّ زيداً . هذا في الصناعة هو المفعول ، وإن كان أصله : ما أعطيت زيداً شيئاً إلاَّ درهماً . و : ما ضربت أحداً إلاَّ زيداً . وقرأ ابن أبي عبلة :{ إِلاَّ وُسْعَهَا } جعله فعلاً ماضياً . وأولوه على إضمار : ما ، الموصولة ، وعلى هذا يكون الموصول المفعول الثاني ليكلف ، كما أن وسعها في قراءة الجمهور هو المفعول الثاني ، وفيه ضعف من حيث حذف الموصول دون أن يدل عليه موصول آخر يقابله ، كقول حسان : فمن يهجو رسول اللّه منكم ويمدحه وينصره سواء أي : ومن ينصره ، فحذف : من ، لدلالة : من ، المتقدّمة . وينبغي أن لا يقاس حذف الموصول ، لأنه وصلته كالجزء الواحد ، ويجوز أن يكون مفعول : يكلف ، الثاني محذوفاً ، لفهم المعنى ، ويكون : وسعها ، جملة في موضع الحال ، التقدير : لا يكلف اللّه نفساً شيئاً إلاَّ وسعها ، أي : وقد وسعها ، وهذا التقدير أولى من حذف الموصول . قال ابن عطية : وهذا يشير إلى قراءة ابن أبي عبلة ، فيه تجوز لأنه مقلوب ، وكان وجه اللفظ : إلاَّ وسعته . كما قال :{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ }{ وَسِعَ كُلَّ شَىْء عِلْماً } ولكن يجيء هذا من باب : أدخلت القلنسوة في رأسي ، وفمي في الحجر . انتهى . وتكلم ابن عطية هنا في تكليف ما لا يطاق ، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين ، والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه غير واقع . {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} أي : ما كسبت من الحسنات واكتسبت من السيئات ، قاله السدي ، وجماعة المفسرين ، لا خلاف في ذلك . والخواطر ليست من كسب الإنسان ، والصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والإكتساب واحد ، والقرآن ناطق بذلك . قال اللّه تعالى { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } وقال :{ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } وقال :{ بَلِ مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَةً } وقال :{ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ} ومنهم من فرق فقال : الاكتساب أخص من الكسب ، لأن الكسب ينقسم إلى كسب لنفسه ولغيره ، والاكتساب لا يكون إلاَّ لنفسه . يقال : كاسب أهله ، ولا يقال : مكتسب أهله قال الشاعر : ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة وقال الزمخشري : ينفعها ما كسبت من خير ، ويضرها ما اكتسبت من شر ، لا يؤاخذ غيرها بذنبها ولا يثاب غيرها بطاعتها . فإن قلت لم خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب . قلت : في الاكتساب إعتمال ، فاما كان الشر مما تشتهيه النفس ، وهي منجذبة إليه ، وأمّارة به ، كانت في تحصيله أعمل وأجدّ ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه . ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال . انتهى كلامه . و قال ابن عطية : وكرر فعل الكسب ، فخالف بين التصريف حسناً لنمط الكلام ، كما قال : { فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } هذا وجه ، والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تكتسب دون تكلف ، إذ كاسبها على جادة أمر اللّه ورسم شرعه ، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهى اللّه تعالى ، ويتخطاه إليها ، فيحسن في الآية مجيء التصريفين احترازاً لهذا المعنى . انتهى كلامه . وحصل من كلام الزمخشري ، وابن عطية : أن الشر والسيئات فيها اعتمال ، لكن الزمخشري قال : إن سبب الاعتمال هو اشتهاء النفس وانجذابها إلى ما تريده ، وابن عطية قال : إن سبب ذلك هو أنه متكلف ، خرق حجاب نهي اللّه تعالى ، فهو لا يأتي المعصية إلاَّ بتكلف ، ونحا السجاوندي قريباً من منحى ابن عطية ، وقال : الافتعال الالتزام ، وشره يلزمه ، والخير يشرك فيه غيره بالهداية والشفاعة . والافتعال . الإنكماش ، والنفس تنكمش في الشر انتهى . وجاء : في الخير ، باللام لأنه مما يفرح به ويسرّ ، فأضيف إلى ملكه . وجاء : في الشر ، بعلى من حيث هو أوزار وأثقال ، فجعلت قد علته وصار تحتها ، يحملها . وهذا كما تقول لي مال وعلى دين . {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } هذا على إضمار القول ، أي : قولوا في دعائكم : ربنا لا تؤاخذنا ، والدعاء مخّ العبادة ، إذ الداعي يشاهد نفسه في مقام الحاجة والذلة والافتقار ، ويشاهد ربه بعين الاستغناء والإفضال ، فلذلك ختمت هذه الصورة بالدعاء والتضرع ، وافتتحت كل جملة منها بقولهم : ربنا ، إيذاناً منهم بأنهم يرغبون من ربهم الذي هو مربيهم ، ومصلح أحوالهم ، ولأنهم مقرون بأنهم مربوبون داخلون تحت رق العبودية والافتقار ، ولم يأت لفظ : ربنا ، في الجمل الطلبية أخيراً لأنها نتائج ما تقدّم من الجمل التي دعوا فيها : بربنا ، وجاءت مقابلة كل جملة من الثلاث السوابق جملة ، فقابل { لاَ تُؤَاخِذْنَا } بقوله { وَاعْفُ عَنَّا } وقابل { وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} بقوله :{ وَاغْفِرْ لَنَا } وقابل قوله { وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } بقوله :{ وَارْحَمْنَا } لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو ، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة ، ومن آثار عدم تكليف ما لا يطاق الرحمة . ومعنى : المؤاخذة ، العاقبة . وفاعل هنا بمعنى الفعل المجرد ، نحو : أخذ ، لقوله :{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } وهو أحد المعاني التي جاءت لها فاعل ، وقيل : جاء بلفظ المفاعلة ، وهو فعل واحد ، لأن المسيء قد أمكن من نفسه ، وطرق السبيل إليها بفعله ، فصار من يعاقب تذنبه كالمعين لنفسه في إيذائها ، وقيل إنه تعالى يأخذ المذنب بالعقوبة ، والمذنب كأنه يأخذ ربه بالمطالبة بالعفو والتكرم ، إذ لا يجد من يخلصه من عذاب اللّه إلاَّ هو تعالى ، فلذلك يتمسك العبد عند الخوف منه به ، فعبر عن كل واحد بلفظ المؤاخذة والنسيان الذي هو : عدم الذكر ، والخطأ موضوعان عن المكلف لا يؤاخذ بهما ، فقال عطاء : نسينا : جهلنا ، وأخطأنا : تعمدنا ، وقال قطرب ، والطبري : نسينا تركنا ، وأخطأنا . قال الطبري : قصدنا . وقال قطرب : أخطأنا في التأويل . قال الأصمعي : يقال أخطأ : سها وخطىء تعمد قال الشاعر : والناس يلحون الأمير إذا هم خطئوا الصواب ولا يلام المرشد ومن المفسرين من حمل النسيان هنا والأخطاء على ظاهرهما ، وهما اللذان لا يؤاخذ المكلف بهما ، وتجوّز عنهما إن صدرامنه ، وإياه أجاز الزمخشري في آخر كلامه في هذه الآية ، واختاره ابن عطية قال الزمخشري : ذكر النيسان والخطأ والمراد بهما ما هما منسيان عنه من التفريط والإغفال ألا ترى إلى قوله { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ } ؟ والشيطان لا يقدر على فعل النسيان ، وإنما يوسوس ، فتكون وسوسته سبباً للتفريط الذي منه النسيان ، ولأنهم كانوا متقين للّه حق تقاته ، فما كانت تفرط منهم فرطة إلاَّ على وجه النسيان والخطأ ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به ، كأنه قيل : إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به فما منهم سبب مؤاخذة إلاَّ الخطأ والنسيان ، ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل اللّه ، لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه . انتهى كلامه . قال ابن عطية ذهب كثير من العلماء إلى أن الدعاء في هذه الآية إنما هو في النسيان الغالب والخطأ عن المقصود ، وهذا هو الصحيح . قال قتادة في تفسير الآية : بلغني أن النبي عليه السلام قال : { إن اللّه تجاوز لأمتي عن نسيانها وخطئها } وقال السدي : لما نزلت هذه الآية تغالوا قال جبريل للنبي صلى اللّه عليه وسلم : قد فعل اللّه ذلك يا محمد . فظاهر قوليهما ، يعني قتادة والسدي ما صححته . وذلك أن المؤمنين لما كشف عنهم ما خافوه في قوله تعالى : { يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّه } أمروا بالدعاء في دفع ذلك النوع الذي ليس من طاقة الإنسان دفعه ، وذلك في النسيان والخطأ . انتهى كلامه . وقيل : النسيان فيه ومنه ما لا يعذر فالأول ، كنسيان النجاسة في الثوب بعد العلم بها ، فمثل هذا هو المطلوب عدم المؤاخذة به ، وهو ما إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب الذكر ، وقيل : هذا دعاء على سبيل التقدير ، فكأنهم قالوا : إن كان النسيان مما تجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذ به ، وقيل : المؤاخذة به غير ممتنعة عقلاً ، وذلك أن الإنسان إذا علم أنه مؤاخذ به استدام التذكر ، فحينئذ لا يصدر عنه إلاَّ استدامة التذكر ، وذلك فعل شاق على النفس ، فحسن الدعاء بترك المؤاخذة به . وقد استدل بهذه الآية على جواز تكليف ما لا يطاق ، وقيل : في الآية دليل على حصول العفو لأصحاب الكبائر ، لأن حمل النسيان والخطأ على ما لا يؤاخذ به قبيح طلبه والدعاء به ، فتعين أن يحمل على ما كان فيه العمد إلى المعصية ، فيكون النسيان ترك الفعل ، والخطأ الفعل . وقد أمر تعالى المؤمنين بطلب عدم المؤاخذة بهما ، فهو أمر منه لهم أن يطلبوا منه أن لا يعذبهم على المعاصي ، وهذا دليل على إعطائه إياهم هذا المطلوب . {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وابن جريج ، والربيع ، وابن زيد : الإصر : العهد والميثاق الغليظ وقال ابن زيد أيضاً : الإصر : الذنب الذي لا كفارة فيه ولا توبة منه وقال مالك : الإصر : الأمر الغليظ الصعب وقال عطاء : الإصر : المسخ قردة وخنازير ، وقيل : الإثم . حكاه ثعلب . وقيل : فرض يصعب أداؤه ، وقيل : تعجيل العقوبة . روي ذلك عن قتادة . وقال الزجاج : محنة تفتننا كالقتل والجرح في بني اسرائيل ، والجعل لمن يكفر سقفاً من فضة . وقال الزمخشري : العبء الذي يأصر صاحبه ، أي يحبسه مكانه لا يستقل به ، استعير للتكليف الشاق من نحو : قتل النفس ، وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب ، وغير ذلك . انتهى . قال القفال : من نظر في السفر الخامس منالتوراة التي يدعيها هؤلاء اليهود ، وقف على ما أخذ عليهم من غليظ العهود والمواثيق ، ورأى الأعاجيب الكثيرة . وقرأ أبيّ : ولا تحمل ، بالتشديد ، و : آصاراً ، بالجمع . وروي عن عاصم أنه قرأ : أصراً ، بضم الهمزة . و : الذين من قبلنا ، المراد به اليهود . وقال الضحاك : والنصارى . {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال قتادة : لا تشدّد علينا كما شدّدت على من كان قبلنا وقال الضحاك : لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق . وقال نحوه ابن زيد . وقال ابن جريج : لا تمسخنا قردة وخنازير ، وقال مكحول ، وسلام بن سابور : الذي لا طاقة لنا به الغلمة ، وحكاه النقاش عن مجاهد ، وعطاء ، ومكحول . وروي أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه . وأعوذ بك من غلمة ليس لها عدّة . وقال النخعي : الحب . وقال محمد بن عبد الوهاب : العشق ، وقيل : القطيعة . وقيل : شماتة الأعداء . روى وهب أن أيوب ، على نبينا وعليه السلام ، قيل له : ما كان أشق عليك في بلائك : قال شماتة الأعداء قال الشاعر : أشمت بي الأعداء حين هجرتني والموت دون شماتة الأعداء وقال السدّي : التغليظ والأغلال التي كانت على بني إسرائيل من التحريم . وقيل : عذاب النار . وقيل : وساوس النفس . وينبغي أن تحمل هذه التفاسير على أنها على سبيل التمثيل ، لا على سبيل تخصيص العموم . و : ما ، في ، قوله { مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } عامّ ، وهذا أعمّ من الذي قبله في الآية ، لأنه قال في تلك :{ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } فشبه الإصر بالإصر الذي حمله على من قبلهم ، وهنا سألوا أن لا يحملهم ما لا طاقة لهم به ، وهو أعم من الإصر السابق لتخصيصه بالتشبيه . وعموم هذا ، والتشديد في : ولا تحملنا ، للتعدية . وفي قراءة أبيّ في قوله :{ وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا } للتكثير في حمل : كجرحت زيداً وجرّحته ، وقيل : ما لا طاقة لنا به من العقوبات النازلة بمن قبلنا ، طلبوا أوّلاً أن يعفيهم من التكاليف الشاقة بقوله :{ وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا } ثم ثانياً طلبوا أن يعفيهم عما نزل على أولئك من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها . انتهى . والطاقة القدرة على الشيء ، وهي مصدر جاء على غير قياس المصادر ، والقياس طاقة ، فهو نحو : جابة ، من أجاب ، و : غارة ، من أغار . في ألفاظ سمعت لا يقاس عليها . فلا يقال : أطال طالة ، وهذا يحتمل وجهين . أحدهما : أن يعني بما لا طاقة ، ما لا قدرة لهم عليه ألبتة ، وليس في وسعهم ، وهو المعنى الذي وقع فيه الخلاف . والثاني : أن يعني بالطاقة ما فيه المشقة الفادحة ، وإن كان مستطاعاً حملها . فبالمعنى الأول يرجع إلى العقوبات . وما أشبهها . وبالمعنى الثاني يرجع إلى التكاليف قال ابن الأنباري : المعنى لا تحملنا حملاً يثقل علينا أداؤه ، وإن كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه . خاطب العرب على حسب ما يعقل فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه : ما أطيق النظر إليه ، وهو مطيق للنظر إليه لكنه يثقل عليه ، ومثله { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا } تقدّم تفسير العفو والغفران والرحمة ، طلبوا العفو وهو الصفح عن الذنب : وإسقاط العقاب ، ثم ستره عليهم صوناً لهم من عذاب التخجيل ، لأن العفو عن الشيء لا يقتضي ستره فيقال : عفا عنه إذا وقفه على الذنب ثم أسقط عنه عقوبة ذلك الذنب ، فسألوا الإسقاط للعقوبة أولاً لأنه الأهم ، إذ فيه التعذيب الجسماني والنعيم الروحاني بتجلى البارىء تعالى لهم وقال الراغب : العفو إزالة الذنب بترك عقوبته ، والغفران ستر الذنب وإظهار الإحسان بدله ، فكأنه جمع بين تغطية ذنبه ، وكشف الإحسان الذي غطى به . والرحمة إفاضة الإحسان إليه ، فالثاني أبلغ من الأول ، والثالث أبلغ من الثاني . انتهى . وقيل : واعف عنا من المسخ ، واغفر لنا عن الخسف من القذف ، وقيل : اعف عنا من الأفعال ، واغفر لنا من الأقوال ، وارحمنا بثقل الميزان . وقيل : واعف عنا في سكرات الموت ، واغفر لنا في ظلمة القبر ، وارحمنا في أهوال يوم القيامة . وكل هذه الأقوال تخصيصات لا دليل عليها . {أَنتَ مَوْلَانَا } المولى مفعل من ولي يلي ، يكون للمصدر والزمان والمكان . أما إذا أريد به مالك التدبير والتصريف في وجوه الضر والنفع ، أو السيد ، أو الناصر ، أو ابن العم أو غير ذلك من محامله ، فأصله المصدر ، سمي به وغلبت عليه الإسمية ، ووليته العوامل . {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } أدخل الفاء إيذاناً بالسببية . لأن كونه تعالى مولاهم ، ومالك تدبيرهم ، وأمرهم ، ينشأ عن ذلك النصرة لهم على أعدائهم ، كما تقول : أنت الشجاع فقاتل ، وأنت الكريم فجد عليّ . أي : أظهرنا عليهم بما تحدث في قلوبنا من الجرأة والقوّة ، وفي قلوبهم من الخور والجبن . وتضمنت هذه الآية من أنواع الفصاحة وضروب البلاغة أشياء ، منها : الطباق في { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } والطباق المعنوي في :{ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } لأن : لها ، إشارة إلى ما يحصل به نفع ، و : عليها ، إشارة إلى ما يحصل به ضرر . والتكرار في قوله :{ وَمَا فِى الاْرْضِ } كرر : ما ، تنبيهاً وتوكيداً . وفي قوله :{ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } وفي قوله : ما كسبت وما اكتسبت . إذا قلنا إنهما بمعنى واحد ، إذ كان يعني : لها ما كسبت . والتجنيس المغاير في :{ مِن وَالْمُؤْمِنُونَ} والحذف في عدّة مواضع . واللّه أعلم . |
﴿ ٢٨٦ ﴾