١٤

زين للناس حب . . . . .

{زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ } قرأ الجمهور : زين مبنياً للمفعول ، والفاعل محذوف ، فقيل : هو اللّه تعالى ، قاله عمر ، لأنه قال حين نزلت : الآن يا رب حين زينتها ، فنزلت { قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ } الآية ، ومعنى التزيين : خلقها وإنشاء الجبلة على الميل إليه ، وهذا كقوله :{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ } فزينها تعالى للابتلاء ، ويدل عليه قراءة : زين للناس حب ، مبنياً للفاعل ، وهو الضمير العائد على اللّهفي قوله :{ وَاللّه يُؤَيّدُ}

وقيل : المزين الشيطان ، وهو ظاهر قول الحسن ، قال : من زينها : ما أحد أشد ذماً لها من خالقها ويصح إسناد التزيين إلى اللّه تعال بالإيجاد والتهيئة للانتفاع ، ونسبته إلى الشيطان بالوسوسة ، وتحصيلها من غير وجهها . وأشارت الآية إلى توبيخ معاصري رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من اليهود وغيرهم ، المفتونين بالدنيا ، وأضاف المصدر إلى المفعول ، وهو الكثير في القرآن ، وعبر عن المشتهيات : بالشهوات ، مبالغة . إذ جعلها نفس الأعيان ، وتنبيهاً على خستها ، لأن الشهوة مسترذلة عند العقلاء ، يذم متبعها ويشهد له بالانتظام في البهائم ، وناهيك لها ذماً قوله صلى اللّه عليه وسلم : { حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره } وأتى بذكر الشهوات أولاً مجموعة على

سبيل الإجمال ، ثم أخذ في تفسيرها شهوة شهوة ليدل على أن المزين ما هو إلاّ شهوة دنيوية لا غير ، فيكون في ذلك تنفير عنها ، وذم لطالبها وللذي يختارها على ما عند اللّه ، وبدأ في تفصيلها بالأهم فالأهم ، بدأ بالنساء لأنهنّ حبائل الشيطان وأقرب وأكثر امتزاجاً :  { ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكنّ}. ويقال ؛ فيهنّ فتنتان : قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام ، وفي البنين فتنة واحدة وهي جمع المال .

وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء ، وفروع عنهنّ ، وشقائق النساء في الفتن ، الولد مبخلة مجبنة : وإنما أولادنا بيننا

أكبادنا تمشي على الأرض

لو هبت الريح على بعضهم

لامتنعت عيني من الغمض

وقدّموا على الأموال لأن حب الإنسان ولده أكثر من حبه ماله ، وحيث ذكر الامتنان والإنعام أو الاستعانة والغلبة . قدمت الأموال على الأولاد .

وظاهر قوله : والبنين ، الذكران .

وقيل يشمل : الإناث ، وغلب التذكير .

{وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ } ثلث بالأموال لما في المال من الفتنة ، ولأنه يحصل به غالب الشهوات ، ولأن المرء يرتكب الأخطار في تحصيله للولد .

واختلف في : القنطار ، أهو عدد مخصوص ، أم ليس كذلك ؟ فقيل : ألف ومائتا أوقية ،

وقيل : اثنا عشر ألف أوقية ،

وقيل : ألف ومائتا دينار . وكل هذه رويت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم :

الأول : رواه أبيّ ، وقال به معاذ ، وابن عمر ، وعاصم بن أبي النجود ، والحسن في رواية .

والثاني : رواه أبو هريرة وقال به . و

الثالث : رواه الحسن ، ورواه العوفي عن ابن عباس .

وقيل : اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار ذهباً ، وروي عن ابن عباس ، وعن الحسن ، والضحاك .

وقال ابن المسيب : ثمانون ألفاً . وقال مجاهد ، وروي عن ابن عمر : سبعون ألف دينار . وقال السدي : ثمانية آلاف مثقال ، وهي مائة رطل . وقال الكلبي : ألف مثقال ذهب أو فضة . وقال قتادة : مائة رطل من الذهب ، أو ثمانون ألف درهم من الفضة . وقال سعيد بن جبير ، وعكرمة : مائة ألف ، ومائة منّ ، ومائة رطل ، ومائة مثقال ، ومائة درهم . ولقد جاء الإسلام يوم جاء ، وبمكة مائة رجل قد قنطروا .

وقيل : أربعون أوقية من ذهب أو فضة ، ذكره مكي ، وقاله ابن سيده في } المحكم} .

وقيل : ثمانية آلاف مثقال ، وهي مائة رطل . وقال ابن سيده في { المحكم} القنطار : بلغة بربر : ألف مثقال . وروى أنس ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في تفسير : { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ } قال : ألف دينار .

وحكى الزجاج أنه قيل : إن القنطار هو رطل ذهباً أو فضة . قال ابن عطية ، وأظنه وهماً ، وإن القول مائة رطل ، فسقطت مائة للناقل . انتهى . وقال أبو حمزة الثمالي : القنطار بلسان أفريقية والأندلس : ثمانية آلاف مثقال وهذا يكون في الزمان الأول .

وأما الآن فهو عندنا : مائة

رطل ، والرطل عندنا ، ستة عشر أوقية . وقال أبو بصرة ، وأبو عبيدة : ملء مسك ثور ذهباً . قال ابن سيده : وكذا هو بالسريانية . وقال ابن الكلبي : وكذا هو بلغة الروم . وقال الربيع بن أنس : المال الكثير بعضه على بعض . وقال ابن كيسان : المال العظيم . وقال أبو عبيدة : القنطار عند العرب وزن لا يحد ، وقال الحكم : القنطار ما بين السماء والأرض من مال . و

قال ابن عطية : القنطار معيار يوزن به ، كما أن الرطل معيار .

ويقال : لما بلغ ذلك الوزن قنطاراً . أي يعدل القنطار ، وأصح الأقوال الأول ، والقنطار يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية . انتهى .

والمقنطرة : مفعللة ، أو مفيعلة من القنطار . ومعناه المجتمعة ، كما يقول : الألوف المؤلفة ، والبدرة المبدرة . اشتقوا منها وصفاً للتوكيد .

وقيل : المقنطرة المضعفة ، قاله قتادة والطبري .

وقيل : المقنطرة تسعة قناطير ، لأنه جمع جمع ، قاله النقاش . وهذا غير صحيح . وقال ابن كيسان : لا تكون المقنطرة أقل من تسعة . وقال الفراء : لا تكون أكثر من تسعة ، وهذا كله تحكم . وقال السدي : المقنطرة المضروبة دنانير ، أو دراهم . وقال الربيع والضحاك المنضد : الذي بعضه فوق بعض ،

وقيل : المخزونة المدخورة . وقال يمان : المدفونة المكنوزة .

وقيل : الحاضرة العتيدة ، قاله ابن عطية . .

وقال مروان بن الحكم ، ما المال إلاَّ ما حازته العيان { مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } تبيين للقناطير ، وهو في موضع الحال منها ، أي كائناً من الذهب { وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ } أي : الراعية في المروج ، سامت سرحت وأخذت سومها من الرعي : أي غاية جهدها ، ولم تقصر على حال دون حال ، فيكون قد عدى الفعل بالتضعيف ، كما عدى بالهمزة في قولهم : أسمتها ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن ، وعبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبزى ، ومجاهد ، والربيع . وروي عن مجاهد : أنها المطهمة الحسان . وقال السدي : هي الرائقة من سيما الحسن . وقال عكرمة : سومها الحسن ، واختاره النحاس .

من قولهم : رجل وسيم ، ولا يكون ذلك لاختلاف المادتين ، إلاَّ إن ادعى القلب . وقال أبو عبيدة ، والكسائي : المعلمة بالشيات وروي عن ابن عباس ، وهو من السومة ، وهي العلامة قال أبو طالب : أمين محب للعباد مسوّم

بخاتم ربّ طاهر للخواتم

قال أبو زيد : أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها لتبين من غيرها في المرعى : وقال ابن فارس في { المجمل} المسومة : هي المرسل عليها ركبانها . وقال ابن زيد : المعدّة للجهاد . وقال ابن المبرد : المعروفة في البلدان . وقال ابن كيسان : البلق .

وقيل : ذوات الأوضاح من الغرة والتحجيل .

وقيل : هي الهماليج .

{وَالانْعَامِ وَالْحَرْثِ } يحتمل أن يكون المعاطيف من قوله : والقناطير ، إلى آخرها . غير ما أتى تبييناً معطوفاً على الشهوات ، أي : وحب القناطير وكذا وكذا . ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله : من النساء ، فيكون مندرجاً في الشهودات . ولم يجمع الحرث لأنه مصدر في الأصل .

وقيل : يراد به المفعول ، وتقدّم الكلام فيه عند قوله { وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ}

{ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } أشار : بذلك ، وهو مفرد إلى الأشياء السابقة وهي كثيرة ، لأنه أراد ذلك المذكور ، أو المتقدم ذكره . والمعنى : تحقير أمر الدنيا ، والإشارة إلى فنائها وفناء ما يستمتع به فيها ، وأدغم أبو عمر وفي الإدغام الكبير ثاء : والحرث ، في : ذال : ذلك ، واستضعف لصحة الساكن قبل الثاء .

{وَاللّه عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ } أي : المرجع ، وهو إشارة إلى نعيم الآخرة الذي لا يفني ولا ينقطع .

ومن غريب ما استنبط من الأحكام في هذه الآية أن فيها دلالة على إيجاب الصدقة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة ، فالنساء والبنون فيهم النفقة ، وباقيها فيها الصدقة ، قاله الماتريدي .

وذكروا في هذه الآية أنواعاً من الفصاحة والبلاغة : الخطاب العام : ويراد به الخاص في قوله :{ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } على قول عامّة المفسرين هم اليهود ، وهذا من تلوين الخطاب . والتجنيس المغاير : في { تَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ } والاحتراس : في

{رَأْىَ الْعَيْنِ } قالوا لئلا يعتقد أنه من رؤية القلب ، فهو من باب الحزر وغلبة الظن . والإبهام : في { زُيّنَ لِلنَّاسِ} والتجنيس المماثل : في { وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ} والحذف : في مواضع ، وهي كل موضع يضطر فيه إلى تصحيح المعنى بتقدير محذوف .

﴿ ١٤