٢٦قل اللّهم مالك . . . . . {قُلِ اللّهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } قال الكلبي : ظهرت صخرة في الخندق ، فضربها صلى اللّه عليه وسلم ، فبرق برق فكبر ، وكذا في الثانية والثالثة ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : { في الأولى : قصور العجم ، وفي الثانية : قصور الروم . وفي الثالثة : قصور اليمن فأخبرني جبريل عليه السلام : أن أمتي ظاهرة على الكل} . فعيره المنافقون بأنه يضرب المعول ويحفر الخندق فرقاً ، ويتمنى ملك فارس والروم ، فنزلت . اختصره السجاوندي هكذا ، وهو سبب مطول جد . وقال ابن عباس : لما فتحت مكة ، كبر على المشركين وخافوا فتح العجم ، فقال عبد اللّه بن أبي : هم أعز وأمنع ، فنزلت . وقال ابن عباس ، وأنس : لما فتح صلى اللّه عليه وسلم مكة ، وعد أمته ملك فارس والروم ، فنزلت . وقيل : بلغ ذلك اليهود فقالو : هيهات هيهات فنزلت ، فذلوا وطلبوا المواصمة . وقال الحسن : سأل صلى اللّه عليه وسلم ملك فارس والروم لأمته ، فنزلت على لفظ النهي . وروي نحوه عن قتادة أنه ذكر له ذلك . وقال أبو مسلم الدمشقي : قالت اليهود : واللّه لا نطيع رجلاً جاء بنقل النبوّة من بني إسرائيل إلى غيرهم ، فنزلت . وقيل : نزلت رداً على نصارى نجران في قولهم : إن عيسى هو اللّه ، وليس فيه شيء من هذه الأوصاف . والملك هنا ظاهره السلطان والغلبة ، وعلى هذا التفسير جاءت أسباب النزول . وقال مجاهد : الملك النبوّة ، وهذا يتنزل على نقل أبي مسلم في سبب النزول . وقيل : المال والعبيد ، وقيل : الدنيا والآخرة . وقال الزجاج : مالك العباد وما ملكوا . وقال الزمخشري : أي تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون . وقال معناه ابن عطية ، وقد تكلم في لفظة : اللّهم ، من جهة النحو ، فقال : أجمعوا على أنها مضمومة الهاء مشدّدة الميم المفتوحة ، وأنها منادى . إنتهى . وما ذكر من الإجماع على تشديد الميم قد نقل الفراء تخفيف ميمها في بعض اللغات ، قال : وأنشد بعضهم : كَحْلَفةٍ من أبي رِيَاح يسمعها اللّهم الكبار قال الراد عليه : تخفيف الميم خطأ فاحش خصوصاً عند الفراء ، لأن عنده هي التي في أمّنا ، إذ لا يحتمل التخفيف أن تكون الميم فيه بقية أمّنا . قال : والرواية الصحيحة يسمعها لاهه الكبار . إنتهى . وإن صح هذا البيت عن العرب كان فيه شذوذ آخر من حيث استعماله في غير النداء ، ألا ترى أنه جعله في هذا البيت فاعلاً بالفعل الذي قبله ؟ قال أبو رجاء العطاردي : هذه الميم تجمع سبعين اسماً من اسمائه وقال النضر بن شميل : من قال اللّهم فقد دعا اللّه بجيع أسمائه كلها . وقال الحسن : اللّهم مجمع الدعاء . ومعنى قول النضر : إن اللّهم هو اللّه زيدت فيه الميم ، فهو الأسم العلم المتضمن لجميع أوصاف الذات ، لأنك إذا قلت : جاء زيد ، فقد ذكرت الأسم الخاص ، فهو متضمن جميع أوصافه التي هي فيه من شهلة أو طول أو جود أو شجاعة ، أو اضدادها وما أشبه ذلك . وانتصاب : مالك الملك ، على أنه منادى ثانٍ أي : يا مالك الملك ، ولا يوصف اللّهم عند سيبويه ، وأجاز أبو العباس وأبو إسحاق وصفه ، فهو عندهما صفة للاهم ، وهي مسألة خلافية يبحث عنها في علم النحو . {تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء } الظاهر أن الملك هو السلطان والغلبة ، كما أن ظاهر الملك الأوّل كذلك ، فيكون الأوّل عاماً ، وهذان خاصين . والمعنى : إنك تعطي من شئت قسماً من الملك ، وتنزع ممن شئت قسماً من الملك وقد فسر الملك هنا بالنبوّة أيضاً ، ولا يتأتى هذا التفسير في : تنزع الملك ، لأن اللّه لم يؤت النبوّة لأحد ثم نزعها منه إلاَّ أن يكون تنزع مجازاً بمعنى : تمنع النبوّة ممن تشاء ، فيمكن . وقال أبو بكر الوراق : هو ملك النفس ومنعها من اتباع الهوى . وقيل : العافية ، وقيل : القناعة . وقيل : الغلبة بالدين والطاعة . وقيل : قيام الليل . وقال الشبلي : هو الاستغناء بالمكون عن الكونين . وقال عبد العزيز بن يحيى : هو قهر إبليس كما كان يفرّ من ظل عمر ، وعكسه من كان يجري الشيطان منه مجرى الدم . وقيل : ملك المعرفة بلا علة ، كما أتى سحرة فرعون ، ونزع من بلعام . وقال أبو عثمان : هو توفيق الإيمان . وإذا حملناه على الأظهر : وهو السلطنة والغلبة ، وكون المؤتَى هو الآمر المتبع ، فالذي آتاه الملك هو محمد صلى اللّه عليه وسلم وأمته ، والمنزوع منهم فارس والروم . وقيل : المنزوع منه أبو جهل وصناديد قريش . وقيل : العرب وخلفاء الإسلام وملوكه ، والمنزوع فارس والروم . وقال السدي : الأنبياء أمر الناس بطاعتهم ، والمنزوع منه الجبارون أمر الناس بخلافهم . وقيل : داود عليه السلام ، والمنزوع منه طالوت . وقيل : صخر ، والمنزوع منه سليما أيام محنته . وقيل : المعنى تؤتي الملك في الجنة من تشاء وتنزع الملك من ملوك الدنيا في الآخرة ممن تشاء . وقيل : الملك العزلة والانقطاع ، وسموه الملك المجهول . وهذه أقوال مضطربة ، وتخصيصات ليس في الكلام ما يدل عليها ، والأولى أن يحمل على جهة التمثيل لا الحصر في المراد . {وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء } قيل : محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، حين دخلوا مكة في اثني عشر ألفاً ك ظاهرين عليها ، وأذل أبا جهل وصناديد قريش حتى حزت رؤوسهم وألقوا في القليب . وقيل : بالتوفيق والعرفان ، وتذل بالخذلان . وقال عطاء : المهاجرين والأنصار وتذل فارس والروم . وقيل : بالطاعة وتذل بالمعصية . وقيل : بالظفر والغنيمة وتذل بالقتل والجزية . وقيل : بالإخلاص وتذل بالرياء . وقيل بالغنى وتذل بالفقر . وقيل : بالجنة والرؤية وتذل بالحجاب والنار ، قاله الحسن بن الفضل . وقيل : بقهر النفس وتذل باتباع الخزي ، قاله الوراق . وقيل : بقهر الشيطان وتذل بقهر الشيطان اياه ، قاله الكتاني . وقيل : بالقناعة والرضا وتذل بالحرص والطمع . ينبغي حمل هذه الأقاويل على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية ، بل الذي يقع به العز والذل مسكوت عنه ، وللمعتزلة هنا كلام مخالف لكلام أهل السنة ، قال الكعبي : تؤتى الملك على سبيل الاستحقاق من يقوم به ، ولا تنزعه إلاَّ ممن فسق ، يدل عليه { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }{ إِنَّ اللّه اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ } جعل الاصطفاء سبباً للملك ، فلا يجوز أن يكون ملك الظالمين بإيتائه وقد يكون ، وقد ألزمهم أن لا يتملكوه ، فصح أن الملوك العادلين هم المخصوصون بايتاء اللّه الملك ، وأما الظالمون فلا . أما النزع فبخلافه ، فكما ينزعه من العادل لمصلحة ، فقد ينزعه من الظالم . وقال القاضي عبد الجبار : الإعزاز المضاف إليه تعالى يكون في الدين بالإمداد بالألطاف ومدحهم وتغلبهم على الأعداء ، ويكون في الدنيا بالمال وإعطاء الهيبة . وأشرف أنواع العزة في الدين هو الإيمان ، وأذل الأشياء الموجبه للذلة هو الكفر ، فلو كان حصول الإيمان والكفر من العبد لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز اللّه إياه وإذلاله ، ولو كان كذلك كان حظه من هذا الوصف أتم من حظه سبحانه ، وهو باطل قطعاً . وقال الجبائي : يذل أعداءه في الدنيا والآخرة ، ولا يذل أولياءه وإن أفقرهم وأمرضهم وأخافهم وأحوجهم إلى غير ذلك ، لأن ذلك لعزهم في الآخرة بالثواب أو العوض فصار كالفصد يؤلم في الحال ويعقب نفعاً . قال : ووصف الفقر بكونه ذلاً مجازاً ، كقوله أذلة على المؤمنين } وإذلال اللّه المبطل بوجوه بالذم واللعن ، وخذلانهم بالحجة والنصرة ، وبجعلهم لأهل دينه غنيمة ، وبعقوبتهم في الآخرة . وإذلال اللّه المبطل بوجوه بالذم واللعن ، وخذلانهم بالحجة والنصرة ، وبجعلهم لأهل دينه غنيمة ، وبعقوبتهم في الآخرة . {بِيَدِكَ الْخَيْرُ } أي : بقدرتك وتصديقك وقع الخير ، ويستحيل وجود اليد بمعنى الجارحه للّه تعالى . قيل : المعنى والشر ، نحو : تقيكم الحرّ ، أي والبرد . وحذف المعطوف جائز لفهم المعنى ، إذ أحد الضدين يفهم منه الآخر ، وهو تعالى قد ذكر إيتاء الملك ونزعه ، والإعزاز والإذلال ، وذلك خير لناس وشر لآخرين ، فلذلك كان التقدير : بيدك الخير والشر ، ثم ختمها بقوله { إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } فجاء بهذا العام المندرج تحته الأوصاف السابقة ، وجمع الخيور والشرور ، وفي الاقتصار على ذكر الخير تعليم لنا كيف نمدح بأن نذكر أفضل الخصال . وقال الزمخشري . فإن قلت : كيف قال { بِيَدِكَ الْخَيْرُ } فذكر الخير دون الشر ؟ قلت لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين ، وهو الذي أنكرته الكفرة ، فقال :{ بِيَدِكَ الْخَيْرُ } تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك ، ولأن كل أفعال اللّه من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله . انتهى كلامه ، وهو يدافع آخرهُ أولَه ، لأنه ذكر في السؤال ؛ لَم اقتصر على ذكر الخير دون الشر ؟ وأجاب بالجواب الأول ، وذلك يدل على أن بيده تعالى الخير والشر ، وإنما كان اقتصاره على الخير لأن الكلام إنما وقع فيما يسوقه تعالى من الخير للمؤمنين ، فناسب الاقتصار على ذكر الخير فقط . وأجاب بالجواب الثاني : وذلك يدل على أنه تعالى جميع أفعاله خير ليس فيها شر ، وهذا الجواب يناقض الأول . و قال ابن عطية : خص الخير بالذكر ، وهو تعالى بيده كل شيء ، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة ، فكان المعنى :{ بِيَدِكَ الْخَيْرُ } فأجزل حظي منه . وقال الراغب : لما كانت في الحمد والشكر لا للحكم ، ذكر الخير إذ هو المشكور عليه . وقال الرازي : الخير فيه الألف واللام الدالة على العموم ، وتقديم : بيدك ، يدل على الحصر ، فدل على أن لا خير إلاَّ بيده ، وأفضل الخيرات الإيمان ، فوجب أن يكون بخلق اللّه . ولأن فاعل الأشرف أشرف ، والإيمان أشرف . |
﴿ ٢٦ ﴾