٤٥إذ قالت الملائكة . . . . . {إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ يامَرْيَمُ مَرْيَمَ إِنَّ اللّه يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ } العامل في : إذا ، اذكر أو : يختصمون ، أو إذ ، بدل من إذ ، في قوله : إذ يختصمون ، أو من : وإذ قالت الملائكة ، أقوال يلزم في القولين المتوسطين اتحاد زمان الاختصام وزمان قول الملائكة ، وهو بعيد ، وهو قول الزجاج . ويبعد الرابع لطول الفصل بين البدل والمبدل منه . والرابع اختيار الزمخشري وبه بدأ . والخلاف في الملائكة : أَهُمْ جمع من الملائكة أو جبريل وحده على ما سبق قبل في خطابهم لزكريا ولمريم ؟ وتقدم تكليم الملائكة قبل هذا التبشير بذكر الاصطفاء والتطهير من اللّه ، وبالأمن بالعبادة له على سبيل التأنيس واللطف ، ليكون ذلك مقدمة لهذا التبشضير بهذا الأمر العجيب الخارق الذي لم يجر لامرأة قبلها ، ولا يجري لأمرأة بعدها ، وهو أنها تحمل من غير مس ذكر لها ، وكان جرى ذلك الخارق من رزق اللّه لها أيضاً تأنيساً لهذا الخارق . وقرأ ابن مسعود ، وابن عمر : وإذ قال الملائكة . والكلمة من اللّه هو عيسى عليه السلام ، سمي كلمة لصدوره بكلمة : كن ، بلا أب . قاله قتادة . وقيل : لتسميته المسيح ، وهو كلمة من اللّه أي : من كلام اللّه . وقيل : لوعد اللّه به في كتابه التوراة والكتب السابقة . وفي التوراة : أتانا اللّه من سيناء ، وأشرق من ساعر ، واستعلن من جبال فاران . وساعر هو الموضع الذي بعث منه المسيح . وقيل : لأن اللّه يهدي بكلمته . وقيل : لأنه جاء على وفق كلمة جبريل ، وهو :{ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً } فجاء على الصفة التي وصف . وقيل : سماه اللّه بذلك كما سمى من شاء من سائر خلقه بما شاء من الأسماء ، فيكون على هذا علماً موضوعاً له لم تلحظ فيه جهة مناسبة . وقيل : الكلمة هنا لا يراد بها عيسى ، بل الكلمة بشارة الملائكة لمريم بعيسى . وقيل : بشارة النبي لها . {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } الضمير في اسمه ، عائد على : الكلمة ، على معنى : نبشرك بمكون منه ، أو بموجود من اللّه . وسمي : المسيح ، لأنه مسح بالبركة ، قاله الحسن ، وسعيد ، وشمر . أو : بالدهن الذي يمسح به الأنبياء ، خرج من بطن أمّه ممسوحاً به ، وهو دهن طيب الرائحة إذا مسح به شخص علم أنه نبي . أو : بالتطهير من الذنوب ، أو : بمسح جبريل له بجناحه أو : لمسح رجليه فليس فيهما خمص ، والأخمص ما تجافى عن الأرض من باطن الرجل ، وكان عيسى أمسح القدم لا أخمص له . قال الشاعر : بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين ممسوح القدم أو : لمسح الجمال إياه وهو ظهوره عليه ، كما قال الشاعر : على وجه مي مسحة من ملاحة أو : لمسحة من الأقذار التي تنال المولودين ، لأن أمه كانت لا تحيض ولم تدنس بدم نفاس . أقوال سبعة ، ويكون : فعيل ، فيها بمعنى مفعول ، والألف واللام في : المسيح ، للغلبة مثلها في : الدبران والعيوق . وقال ابن عباس : سمي بذلك لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إبلا بريء ، فعلى هذا يكون : فعيل ، مبنياً للمبالغة : كعليم ، ويكون من الأمثلة التي حولت من فاعل إلى فعيل للمبالغة . وقيل : من المساحة ، وكان يجول في الأرض فكأنه كان يمسحها . وقيل : هو مفعل من ساح يسيح من السياحة . وقال مجاهد ، والنخعي : المسيح : الصديق . وقال ابن عباس ، وابن جبير : المسيح : الملك ، سمي بذلك لأنه ملك إحياء الموتى وغير ذلك من الآيات . وقال أبو عبيد : أصله بالعبرانية مشيحاً ، فغير ، فعلى هذا يكون اسماً مرتجلاً ليس هو مشتقاً من المسح ولا من السياحة { عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } الأبناء ينسبون إلى الآباء ، ونسب إليها . وإن كان الخطاب لها إعلاماً أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إليها . والظاهر أن اسمه : المسيح ، فيكون : اسمه المسيح ، مبتدأ وخبراً ، و : عيسى ، جوزوا فيه أن يكون خبراً بعد خبر ، وأن يكون بدلاً ، وأن يكون عطف بيان . ومنع بعض النحويين أن يكون خبراً بعد خبر ، وقال : كان يلزم أن يكون أسماه على المعنى ، أو أسماها على لفظ الكلمة ، ويجوز أن يكون : عيسى ، خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : هو عيسى ابن مريم . قال ابن عطية : ويدعو إلى هذا كون قوله : ابن مريم ، صفة : لعيسى ، إذ قد أجمع الناس على كتبه دون الألف . وأما على البدل ، أو عطف البيان ، فلا يجوز أن يكون : ابن مريم ، صفة : لعيسى ، لأن الاسم هنا لم يرد به الشخص . هذه النزعة لأبي علي . وفي صدر الكلام نظر . إنتهى كلامه . وقال الزمخشري فإن قلت لِمَ قيل :{ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } وهذه ثلاثة أشياء الاسم منها : عيسى ، وأما : المسيح و : الأبن ، فلقب وصفة ؟ . قلت : الاسم للمسمى علامة يعرف بها ، ويتميز من غيره ، فكأنه قيل : الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة . إنتهى كلامه . ويظهر من كلامه أن اسمه مجموع هذه الثلاثة ، فتكون الثلاثة أخباراً عن قوله : اسمه ، ويكون من باب : هذا حلو حامض ، و : هذا أعسر يسر . فلا يكون أحدها على هذا مستقلاً بالخبرية . ونظيره في كون الشيئين أو الأشياء في حكم شيء واحد قول الشاعر : كيف أصبحت كيف أمسيت مما يزرع الود في فؤاد الكريم ؟ أي : مجموع هذا مما يزرع الود ، فلما جاز في المبتدأ أن يتعدد دون حرف عطف إذا كان المعنى على المجموع ، كذلك يجوز في الخبر . وأجاز أبو البقاء أن يكون : ابن مريم ، خبر مبتدأ محذوف أي : هو ابن مريم ، ولا يجوز أن يكون بدلاً مما قبله ، ولا صفة لأن : ابن مريم ، ليس باسم . ألا ترى أنك لا تقول : اسم هذا الرجل ابن عمرو إلاَّ إذا كان علماً عليه ؟ إنتهى . قال بعضهم : ومن قال إن المسيح صفة لعيسى ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير تقديره : اسمه عيسى المسيح ، لأن الصفة تابعة لموصوفها . إنتهى . ولا يصح أن يكون المسيح في هذا التركيب صفة ، لأن المخبر به على هذا اللفظ ، والمسيح من صفة المدلول لا من صفة الدال ، إذ لفظ عيسى ليس المسيح . ومن قال : إنهما اسمان تقدم المسيح على عيسى لشهرته . قال ابن الأنباري : وإنما بدأ بلقبه لأن : المسيح ، أشهر من : عيسى ، لأنه قل أن يقع على سمي يشتبه ، وعيسى قد يقع على عدد كثير ، فقدمه لشهرته . ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم ؟ وهذا يدل على أن المسيح عند ابن الأنباري لقب لا اسم . قال الزجاج : وعيسى معرب من : ايسوع ، وإن جعلته عربياً لم ينصرف في معرفة ولا نكرة لأن فيه ألف تأنيث ، ويكون مشتقاً من : عاسه يعوسه ، إذا ساسه وقام عليه . وقال الزبمخشري : مشتق من العيس كالرقم في الماء . {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ } قال ابن قتيبة : الوجيه ذو الجاه ، يقال : وجه الرجل يوجه وجاهة . وقال ابن دريد : الوجيه المحب المقبول . وقال الأخفش : الشريف ذو القدر والجاه . وقيل : الكريم على من يسأله ، لأنه لا يرده لكرم وجهه . ومعناه في حق عيسى أن وجاهته في الدنيا بنبوته ، وفي الآخرة بعلو درجته . وقيل : في بالدنيا بالطاعة ، وفي الآخرة بالشفاعة . وقيل : في الدنيا بإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ، وفي الآخرة بالشفاعة . وقيل : في الدنيا كريماً لا يرد وجهه ، وفي الآخرة في علية المرسلين . وقال الزمشخري : الوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس ، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة . و قال ابن عطية : وجاهة عيسى في الدنيا نبوته وذكره ورفعه ، وفي الآخرة مكانته ونعميه وشفاعته . {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } معناه من اللّه تعالى . وقال الزمخشري : وكونه من المقرّبين رفع إلى السماء وصحبته الملائكة . وقال قتادة : ومن المقربين عند اللّه يوم القيامة . وقيل : من الناس بالقبول والإجابة ، قاله الماوردي . وقيل : معناه : المبالغ في تقريبهم ، لأن فعل من صغ المبالغة ، فقال : قرّبه يقرّبه إذا بالغ في تقريبه إنتهى . وليس فعل هنا من صبغ المبالغة ، لأن التضعيف هنا للتعدية ، إنما يكون للمبالغة في نحو : جرّحت زيداً و : موّت الناس . {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } معطوف على قوله : وجيهاً ، وتقديره : ومقرباً من جملة المقربين . أعلم تعالى أن ثَمَّ مقربين ، وأن عيسى منهم . ونظير هذا العطف قوله تعالى :{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ } فقوله : وبالليل ، جار ومجرور في موضع الحال ، وهو معطوف على : مصبحين ، وجاءت هذه الحال هكذا لأنها من الفواصل ، فلو جاء : ومقرباً ، لم تكن فاصلة ، وأيضاً فأعلم تعالى أن عيسى مقرب من جملة المقربين ، والتقريب صفة جليلة عظيمة . ألا ترى إلى قوله :{ وَلاَ الْمَلَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } ؟ وقوله :{ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ } وهو تقريب من اللّه تعالى بالمكانة والشرف وعلو المنزلة |
﴿ ٤٥ ﴾