٥٩إن مثل عيسى . . . . . {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّه كَمَثَلِ ءادَمَ } قال ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي وغيرهم : جادل وفد نجران النبي صلى اللّه عليه وسلم في أمر عيسى ، وقالوا : بلغنا أنك تشتم صاحبنا ، وتقول : هو ، عبد ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : { وما يضرّ ذلك عيسى ، أجل هو عبد اللّه ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه} . فقالوا : فهل رأيت بشراً قط جاء من غير فحل أو سمعت به ؟ فخرجوا ، فنزلت . وفي بعض الروايات أنهم قالوا : فإن كنت صدقاً فأرنا مثله فنزلت . وروي وكيع عن مبارك عن الحسن قال : جاء راهباً نجران فعرض عليهما الإسلام فقال أحدهما : قد أسلمنا قبلك ، فقال : { كذبتما ، يمنعكما من الإسلام ثلاث : عبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير ، وقولكما للّه ولد . قالا : من أبو عيسى ؟ وكان لا يعجل حتى يأمره ربه . فأنزل { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى } وتقدم الكلام في تفسير نحو هذا التركيب في قولهم :{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً} وقال الزمخشري : إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم ، فجعل المثل بمعنى الشأن والحال . وهو راجع لقول من قال : المثل هنا الصفة : كقوله :{ مَّثَلُ الْجَنَّةِ } وفي هذا إقرار الكاف في قوله :{ كَمَثَلِ ءادَمَ } على معناها التشبيهي . و قال ابن عطية : في قول من قال إن المثل هنا بمعنى الصفة ما نصه : وهذا عندي خطأ وضعف في فهم الكلام ، وإنما المعنى : أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول ، من عيسى فهو كالمتصور من آدم ، إذ الناس كلهم مجمعون على أن اللّه تعالى خلقه من تراب من غير فحل . وكذلك { مَّثَلُ الْجَنَّةِ } عبارة عن المتصوّر منها . وفي هذه الآية صحة القياس أي إذا تصور أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى . والكاف في { كَمَثَلِ ءادَمَ } اسم على ما ذكرناه من المعنى . إنتهى كلامه . ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا ، وكلام من جعل المثل بمعنى الشأن والحال . أو بمعنى الصفة ، وفي { ري الظمآن} قيل : المثل بمعنى الصفة ، وقولك صفة عيسى كصفة آدم كلام مطرد ، على هذا جل اللغويين والمفسرين ، وخالف أبو علي الفارسي الجميع ، وقال : المثل بمعنى الصفة لا يمكن تصحيحه في اللغة ، إنما المثل الشبه . على هذا تدور تصاريف الكلمة ، ولا معنى للوصفية في التشابه . والمثل كلمة يرسلها قائلها لحكمة يشبه بها الأمور ، ويقابل بها الأحوال . إنتهى . ومن جعل المثل هنا مرادفاً للمثل ، كالشبه : والشبه . قال : جمع بين أداتي تشبيه على طريق التأكيد للشبه ، والتنبيه على عظم خطره وقدره . وقال بعض هؤلاء : الكاف زائدة . وقال بعضهم : مثل زائدة ، وجعل بعضهم المثل هنا من ضرب الأمثال . وقال : العرب تضرب الأمثال لبيان ما خفي معناه ودق إيضاحه ، لما خفي سر ولادة عيسى من غير أب ، لأنه خالف المعروف ، ضرب اللّه المثل بآدم الذي استقرّ في الأذهان . وعلم أنه أوجد من غير أب ولا أمّ ، كذلك خلق عيسى بلا أب ، ولا بد من مشاركة معنوية بين من ضرب به المثل ، وبين من ضرب له المثل ، من وجه واحد ، أو من وجوه لا يشترط الإشتراك في سائر الصفات . والمعنى الذي وقعت فيه المشاركة بين آدم وعيسى كون كل واحد منهما خلق من غير أب . وقال بعض أهل العلم : المشاركة بين } آدم وعيسى في خمسة عشر وصفاً : في التكوين ، و : في الخلق من العناصر التي ركب اللّه منها الدنيا . وفي العبودية ، وفي النبوّة . وفي المحنة : عيسى باليهود ، وآدم بابليس ، وفي : أكلهما الطعام والشراب ، وفي الفقر إلى اللّه . وفي الصورة ، وفي الرفع إلى بالسماء والإنزال منها إلى الأرض ، وفي الإلهام ، عطس آدم فألهم ، فقال الحمد للّه . وألهم عيسى ، حين أخرج من بطن أمّة فقال :{ إِنّى عَبْدُ اللّه } وفي العلم ، قال :{ وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء } وقال :{ وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } وفي نفخ الروح فيهما { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى }{ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } وفي الموت ، وفي فقد الأب ، ومعنى : عند اللّه أي عند من يعرف حقيقة الأمر ، وكيف هو . أي : هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه . والعامل في : عند ، العامل في : كاف التشبيه ، وهذا التشبيه هو من أحد الطرفين كما تقدّم ، وهو الوجود من غير أب وهما نظيران في أن كلاًّ منهما أوجده اللّه خارجاً عما استقروا واستمرّ في العادة من خلق الإنسان متولداً من ذكر وأنثى ، كما قال تعالى :{ رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى } والوجود من غير أب وأمّ أغرب في العادة من وجود من غير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه ، وأسر بعض العلماء بالروم فقال لهم لم تعبدون عيسى ؟ قالوا : لأنه لا أب له . قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له . قالوا : كان يحيي الموتى . قال : فخرقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر ، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف . فقالوا : كان يبريء الأكمه والأبرص . قال : فجر جيس أولى لأنه طحن وأحرق ، ثم قام سالماً . إنتهى . وصح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ردّ عين قتادة بعد ما قلعت ، وردّ اللّه نورها ، وصح أن أعمى دعا له فردّ اللّه له بصره . وفي حديث الشاب الذي أتي به ليتعلم من سحر الساحر ، فترك الساحر ودخل في دين عيسى وتعبد به ، فصار يبرىء الأكمه والأبرص ، وفيه انه دعا لجليس الملك وابن عمه ، وكان أعمى ، فردّ اللّه عليه بصره . {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } هي من تسمية الشيى باسم أصله . كقوله { اللّه الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } كان تراباً ثم صار طيناً وخلق منه آدم . كما قال :{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مّن طِينٍ } وقال تعالى :{ إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ } وقال :{ قَالَ أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} والضمير المنصوب في : خلقه ، عائد على آدم ، وهذه الجملة تفسيرية لمثل آدم ، فلا موضع لها من الإعراب . وقيل : هي في موضع الحال ، وقدر مع خلقه مقدرة ، والعامل فيها معنى التشبيه . قال ابن عطية : ولا يجوز أن يكون خلقه صفة لآدم ولا حالاً منه . قال الزجاج : إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيها ، بل هو كلام مقطوع منه مضمنه تفسير المثل . إنتهى كلامه . وفيه نظر ، والمعنى : قدره جسداً من طين { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن } أي أنشأه بشراً ، قاله الزمشخري ، وسبقه إلى معناه أبو مسلم . قلنا : ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء . لا بمعنى التقدير ، لم يأت بقوله :{ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن } لأن ما خلق لا يقال له : كن ، ولا ينشأ إلاَّ إن كان معنى { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن } عبارة عن نفخ الروح فيه ، وقاله عبد الجبار . فيمكن أن يكون خلقه بمعنى أنشأه لا بمعنى قدّره . قيل : أو يكون : كن ، عبارة عن كونه لحماً ودماً ، وقوله : فيكون ، حكاية حال ماضية ولا قول هناك حقيقة ، وإنما ذلك على سبيل التمثيل ، وكناية عن سرعة الخلق والتمكن من ايجاد ما يريد تعالى إيجاده ، إذ المعدوم لا يمكن أن يؤمر . و : ثم ، قيل لترتيب الخبر ، لأن قوله : كن ، لم يتأخر عن خلقه ، وإنما هو في المعنى تفسير للخلق ، ويجوز أن يكون للترتيب الزماني أي : أنشأه أولاً من طين ، ثم بعد زمان أوجد فيه الروح أي صيره لحماً ودماً على من قال ذلك . وقال الراغب : ومعنى : كن . بعد : خلقه من تراب : كن إنساناً حياً ناطقاً ، وهو لم يكن كذلك ، بل كان دهراً ملقىً لا روح فيه ، ثم جعل له الروج . وقوله : كن عبارة عن إيجاد الصورة التي صار بها الإنسان إنساناً . إنتهى . والضمير في : له ، عائد على آدم وأبعد من زعم أنه عائد على عيسى ، وأبعد من هذا قول من زعم أنه يجوز أن يعود على كل مخلوق خلق بكن ، وهو قول الحوفي . |
﴿ ٥٩ ﴾