١٠٤

ولتكن منكم أمة . . . . .

{وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الأمر متوجه لمت بتوجه الخطاب عليهم . قيل : وهو الأوس والخزرج على ما ذكره الجمهور . وأمرُه لهم بذلك أمرٌ لجميع المؤمنين ، ومن تابعهم إلى يوم القيامة ، فهو من الخطاب الخاص الذي يراد به العموم . ويحتمل أن يكونَ الخطاب عاماً فيدخل فيه الأوس والخزرج . والظاهرُ أنَّ قوله { مّنكُمْ } يدل على التبعيض ، وقاله : الضحاك والطبري . لأن الدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصلح إلا لمن علم المعروف والمنكر ، وكيف يرتب الأمر في إقامته ، وكيف يباشر ؟ فإن الجاهل ربما أمر بمنكر ، ونهى عن معروف ، وربما عرف حكماً في مذهبه مخالفاً لمذهب غيره ، فينهى عن غير منكر ويأمر بغير معروف ، وقد يغلظ في مواضع اللين وبالعكس . فعلى هذا تكون مِنْ للتبعيض ، ويكون متعلق الأمر ببعض الأمة ، وهم الذين يصلحون لذلك . وذهب الزجاج إلى أن مِنْ لبيان الجنس ، وأتى على زعمه بنظائر من القرآن وكلام العرب ، ويكون متعلق الأمر جميع الأمة يكونون يدعون جميع العالم إلى الخير ، الكفار إلى الإسلام ، والعصاة إلى الطاعة . وظاهر هذا الأمر الفرضية ، فالجمهور على أنه فرض كفاية ، فإذا قام به بعض سقط عن الباقين . وذهب جماعة ، من العلماء إلى أنه فرض عين ، فيتعين على كل مسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متى قدر على ذلك وتمكّن منه . واختلفوا في الذي يسقط الوجوب . فقال قوم : الخشية على النفس ، وما عدا ذلك لا يسقطه . وقال قوم : إذا تحقق ضرباً أو حبساً أو إهانة سقط عنه الفرض ، وانتقل إلى الندب والأمر والنهي وإن كانا مطلقين في القرآن فقد تقيّد ذلك بالسنَّة بقولِه صلى اللّه عليه وسلم : { من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده ، فإنْ لم يستطعْ فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان } ولم يدفع أحد من علماء الأمة سَلَفها وخلَفها وجوب ذلك الأقوم من الحشوية وجهَّال أهل الحديث ، فإنّهم أنكروا فعال الفئة الباغية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح ، مع ما سمعوا من قوله تعالى : { فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ اللّه } وزعموا أنّ السلطان لا يُنكرُ عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم اللّه ، وإنما ينكر على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح . وقد ذكر أبو بكر الرازي في أحكامه فصلاً مشبعاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ذكر فيه أنّ دماء أصحابِ الضرائب والمكوس مباحة ، وأنه يجب على المسلمين قتلهم ، ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار له ولا تقدم بالقول .

يدعون إلى الخير هو الإسلام قاله مقاتل ، أو العمل بطاعة اللّه قاله أبو سليمان الدمشقي ، أو الجهاد والإسلام .

وقرأ الجمهور : ولْتكن بسكون اللام .

وقرأ أبو عبد الرحمن ، والحسن ، والزهري ، وعيسى بن عمر ، وأبو حيوة : بكسرها ، وعلَّةُ بنائها على الكسر مذكورة في النحو . وجوزوا في { ولتكن } أن تكون تامة ، فيكون منكم متعلقاً بها ، أو بمحذوف على أنه حال ، إذ لو تأخر لكان صفة لأمّة . وأن تكون ناقصة ، ويدعون الخبر ، وتعلق من على الوجهين السابقين . وجوزوا أيضاً أنْ يكونَ منكم الخبر ، ويدعون صفة . ومحط الفائدة إنما هو في يدعون فهو الخبر .

و { يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ذكر أولاً الدعاء إلى الخير وهو عام في التكاليف من الأفعال والتروك ، ثم جيء بالخاص إعلاماً بفضله وشرفه لقوله :{ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}

و { الصَّلَواةِ الْوُسْطَى } وفسر بعضهم المعروف بالتوحيد ، والمنكر بالكفر . ولا شك أن التوحيد رأس المعروف ، والكفر رأس المنكر . ولكنَّ الظاهر العموم في كل معروف مأمور به في الشرع ، وفي كل منهي نهي عنه في الشرع . وذكر المفسرون أحاديث مروية في فضل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وفي إثم من ترك ذلك ، وآثاراً عن الصحابة وغيرهم في ذلك ، وما طريق الوجوب هل السمع وحده كما ذهب إليه أبو هاشم ؟ أم السمع والعقل كما ذهب إليه أبوه أبو علي ؟ وهذا على آراء المعتزلة .

وأما شرائط النهي والوجوب ، ومن يباشر ، وكيفية المباشرة ، وهل ينهى عما يرتكبه ، لم تتعرض الآية لشيء من ذلك ، وموضوع هذا كله علم الفقه .

وقرأ عثمان ، وعبد اللّه ، وابن الزبير : وينهون عن المنكر ، ويستعينون اللّه على ما أصابهم . ولم تثبت هذه الزيادة في سواد المصحف ، فلا يكون قرآناً . وفيها إشارة إلى ما يصيب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من الأذى كما

قال تعالى :{ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } وأولئك هم المفلحون : تقدم الكلام على هذه الجملة في أول البقرة . وهو تبشير عظيم ، ووعد كريم لمن اتصف بما قبل هذه الجملة .

﴿ ١٠٤