١٠٦يوم تبيض وجوه . . . . . {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } الجمهور على أن ابيضاض الوجوه واسودادها على حقيقة اللون . والبياض من النور ، والسواد من الظلمة . قال الزمخشري : فمن كان من أهل نور الدين وُسمَ ببياض اللون وإسفاره وإشراقه ، وابيضت صحيفته وأشرقت ، وسعى النور بين يديه وبيمينه . ومن كان من أهل ظلمة الباطل وُسمَ بسواد اللون وكسوفه وكمده واسودت صحيفته وأظلمت ، وأحاطت به الظلمة من كل جانب . انتهى كلامه . و قال ابن عطية : وبياض الوجوه عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة اللّه قاله الزجاج وغيره . ويحتمل عندي أن تكون من آثار الوضوء كما قال صلى اللّه عليه وسلم : { أأنتم الغر المحجلون} من آثار الوضوء . وأما سوادُ الوجوه ف قال المفسرون : هو عبارة عن ارتدادها وأظلامها بغمم العذاب . ويحتملُ أنْ يكونَ ذلك تسويداً ينزله اللّه بهم على جهة التشويه والتمثيل بهم ، على نحو حشرهم زرقاً ، وهذه أقبح طلعة . ومن ذلك قول بشار : وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود انتهى كلامه . وقال قوم : البياض والسواد مثلان عبر بهما عن السرور والحزن لقوله تعالى : { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا } وكقول العرب لمن نال أمنيته : ابيض وجهه . ولمن جاء خائباً : جاء مسودّ الوجه . وقال أبو طالب : وأبيض يستسقي الغمام بوجهه وقال امرؤ القيس : وأوجههم عند المشاهد غران وقال زهير : وأبيض فياض يداه غمامة وبدأ بالبياض لشرفه ، وأنه الحالة المثلى . وأسند الابيضاضَ والإسوداد إلى الوجوه وإنْ كان جميع الجسد أبيض أو أسود ، لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه ، وهو أشرف أعضائه . والمراد : وجوه المؤمنين ووجوه الكافرين قاله أبيُّ بن كعب . وقيل : وجوه المهاجرين والأنصار ، ووجوه بني قريظة والنضير . وقيل : وجوه أهل السنة ، ووجوه أهل البدعة . وقال عطاء : وجوه المخلصين ، ووجوه المنافقين . وقيل : وجوه المؤمنين ، ووجوه أهل الكتاب والمنافقين . وقيل : وجوه المجاهدين ، ووجوه الفرار من الزحف . وقيل : تبيض بالقناعة ، وتسودّ بالطمع . وقال الكلبي : تسفر وجوه من قدر على السجود إذا دعوا إليه ، وتسودّ وجوه مَنْ لم يقدر . واختلفوا في وقت ابيضاض الوجوه واسودادها ، فقيل : وقت البعث من القبور . وقيل : وقت قراءة الصحف . وقيل : وقت رجحان الحسنات والسيئات في الميزان . وقيل : عند قوله :{ وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} وقيل : وقت أنْ يُؤمَرَ كل فريق بأن يتبع معبوده والعامل في { يَوْمَ تَبْيَضُّ } ما يتعلق به . ولهم عذاب عظيم أيْ وعذابٌ عظيم كائن لهم يوم تبيض وجوه . وقال الحوفي : العامل ، فيه محذوف تدل عليه الجملة السابقة ، أي : يعذبون يوم تبيض وجوه . وقال الزمخشري : بإضمار اذكروا ، أو بالظرف وهو لهم . وقال قوم : العامل عظيم ، وضعف من جهة المعنى لأنه يقتضي أنّ عظمَ العذاب في ذلك اليوم ، ولا يجوز أنْ يعمل فيه عذاب ، لأنه مصدر قد وصف . وقرأ يحيى بن وثاب ، وأبو رزين العقيلي ، وأبو نهيك : تبيض وتسودّ بكسر التاء فيهما ، وهي لغة تميم : وقرأ الحسن ، والزهري ، وابن محيصن ، وأبو الجوزاء : تبياض وتسواد بألف فيهما . ويجوز كسر التاء في تبياض وتسواد ، ولم ينقل أنه قرىء بذلك . {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } هذا تفصيل لأحكام من تبيض وجوههم وتسودّ . وابتدىء بالذين اسودّت للاهتمام بالتحذير من حالهم ، ولمجاورة قوله : وتسودّ وجوه ، وللابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم . فيكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع ، ويشرح الصدر . وقد تقدّم الكلام على أما في أول البقرة وأنها حرف شرط يقتضي جواباً ، ولذلك دخلت الفاء في خبر المبتدأ بعدها ، والخبر هنا محذوف للعلم به . والتقدير : فيقال لهم : أكفرتم ؟ كما حذف القول في مواضع كثيرة كقوله :{ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ } أي يقولون : سلام عليكم . ولمّا حذف الخبر حذفت الفاء ، وإنْ كان حذفُها في غير هذا لا يكون إلا في الشعر نحو قوله : فأمّا القتال لا قتال لديكم ولكنّ سيرا في عرض المواكب يريد فلا قتال ، وقال الشيخ كمال الدين عبد الواحد بن عبد اللّه بن خلف الأنصاري في كتابه الموسوم بنهاية التأميل في أسرار التنزيل : قد اعترض على النحاة في قولهم : لما حذف . يقال : حذفت الفاء بقوله تعالى :{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ } تقديره فيقال لهم : أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف فيقال ، ولم تحذف الفاء . فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ، فوقع ذلك جواباً له . ولقوله : أكفرتم ، ومن نظم العرب : إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً ثم يجعلون لهما جواباً واحداً ، كما في قوله تعالى :{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } فقوله : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جواب للشرطين ، وليس أفلم جواب أمّا ، بل الفاء عاطفة على مقدّر والتقدير : أأهملتكم ، فلم أتل عليكم آياتي . انتهى ما نقل عن هذا الرجل وهو كلام أديب لا كلام نحوي . أمّا قوله : قد اعترض على النحاة فيكفي في بطلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة ، لأنه ما من نحوي إلا خرّج الآية على إضمار فيقال لهم : أكفرتم ، وقالوا : هذا هو فحوى الخطاب ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدّر لا يستغني المعنى عنه ، فالقول بخلافه مخالف للإجماع ، فلا التفات إليه . وأمّا ما اعترض به من قوله :{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى } وأنهم قدروه فيقال لهم : أفلم تكن آياتي ، فحذف فيقال : ولم تحذف الفاء ، فدل على بطلان هذا التقدير فليس بصحيح ، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في أفلم ليست فاء ، فيقال التي هي جواب أمّا حتى يقال حذف ، فيقال : وبقيت الفاء ، بل الفاء التي هي جواب أمّا ، ويقال بعدها محذوف . وفاء أفلم تحتمل وجهين ، أحدهما أن تكون زائدة . وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قولَ الشاعر : يموت أناس أو يشيب فتاهم ويحدث ناس والصغير فيكبر يريد : يكبر وقول الآخر : لما اتقى بيد عظيم جرمها فتركت ضاحي جلدها بتذبذب يريد : تركت . وقال زهير : أراني إذا ما بت بتّ على هوى فثم إذا أصبحت أصبحت غادياً يريد ثم . وقول الأخفش : وزعموا أنهم يقولون أخوك ، فوجد يريدون أخوك وجد . والوجه الثاني : أن تكون الفاء تفسيرية ، وتقدم الكلام فيقال لهم : ما يسوؤهم ، فالم تكن آياتي ، ثم اعتنى بهمزة الاستفهام فتقدمت على الفاء التفسيرية ، كما تقدم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ } وهذا على مذهب من يثبت أن الفاء تكون تفسيرية نحو : توضأ زيد فغسل وجهه ويديه إلى آخر أفعال الوضوء . فالفاء هنا ليست مرتبة ، وإنما هي مفسرة للوضوء . كذلك تكون في {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ } مفسرة للقول الذي يسوؤهم وقول هذا الرجل . فلما بطل هذا يعني أن يكون الجواب فذوقوا أي تعين بطلان حذف ما قدره النحويون من قوله ، فيقال لهم لوجود هذا الفاء في أفلم تكن ، وقد بينا أن ذلك التقدير لم يبطل ، وأنه سواء في الآيتين . وإذا كان كذلك فجواب أمّا هو ، فيقال في الموضعين ، ومعنى الكلام عليه . وأمّا تقديره : أأهملتكم ، فلم تكن آياتي ، فهذه نزعة زمخشرية ، وذلك أن الزمخشري يقدر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلاً يصح عطف ما بعدها عليه ، ولا يعتقد أن الفاء والواو وثم إذا دخلت عليها الهمزة أصلهن التقديم على الهمزة ، لكنْ اعتنى بالاستفهام ، فقدم على حروف العطف كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين . وقد رجع الزمخشري أخيراً إلى مذهب الجماعة في ذلك ، وبطلان قوله الأول مذكور في النحو . وقد تقدم في هذا الكتاب حكاية مذهبه في ذلك . وعلى تقدير قول هذا الرجل : أأهملتكم ، فلا بدّ من إضمار القول وتقديره ، فيقال : أأهملتكم لأن هذا المقدر هو خبر المبتدأ ، والفاء جواب أما . وهو الذي يدل عليه الكلام ، ويقتضيه ضرورة . وقول هذا الرّجل : فوقع ذلك جواباً له ، ولقوله : أكفرتم ، يعني أنْ فذوقوا العذاب جواب لأمّا ، ولقوله : أكفرتم ؟ والاستفهام هنا لا جواب له ، إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم . وأمّا قول هذا الرّجل : ومن نظم العرب إلى آخره ، فليس كلام العرب على ما زعم ، بل يجعل لكل جواب أنَّ لا يكن ظاهراً فمقدر ، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً ، وأما دعواه ذلك في قوله تعالى :{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم } الآية . وزعمه أن قوله تعالى :{ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } جواب للشرطين . فقولٌ روي عن الكسائي . وذهب بعض الناس إلى أن جواب الشرط الأول محذوف تقديره : فاتبعوه . والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه هو جواب الشرط الأول . وتقدمت هذه الأقوال الثلاثة عند الكلام على قوله :{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم } الآية . والهمزة في { أَكْفَرْتُمْ } للتقرير والتوبيخ والتعجيب من حالهم . والخطاب في أكفرتم إلى آخره يتفرع على الاختلاف في الذين اسودت وجوههم ، فإنْ كانوا الكفار فالتقدير : بعد أن آمنتم حين أخذ عليكم الميثاق وأنتم في صلب آدم الكذّر ، وإن كانوا أهل البدع فتكون البدعة المخرجة عن الإيمان . وإن كانوا قريظة والنضير فيكون إيمانهم به قبل بعثه ، وكفرهم به بعده ، أو إيمانهم بالتوراة وما جاء فيها من نبوته ووصفه والأمر باتباعه ، وإن كانوا المنافقين فالمراد بالكفر كفرهم بقلوبهم ، وبالإيمان الإيمان بألسنتهم . وإن كانوا الحرورية أو المرتدين فقد كان حصل منهم الإيمان حقيقة وفي قوله :{ أَكْفَرْتُمْ} قالوا : تلوين الخطاب وهو أحد أنواع الالتفات ، لأن قوله : فأما الذين اسودت غيبة ، وأكفرتم مواجهة بما كنتم ، الباء سببية وما مصدرية . |
﴿ ١٠٦ ﴾