١١٠

كنتم خير أمة . . . . .

{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه} قال عكرمة ومقاتل : نزلت في ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل ، وقد قال لهم بعض اليهود : ديننا خير مما تدعوننا إليه ، ونحن خير وأفضل .

وقيل : نزلت في المهاجرين . والذي يظهر أنها من تمام الخطاب الأول في قوله :{ مّسْتَقِيمٍ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللّه } وتوالت بعد هذا مخاطبات المؤمنين من أوامر ونواهٍ ، وكان قد استطرد من ذلك لذكر مَنْ يبيض وجهه ويسودّ ، وشيء من أحوالهم في الآخرة ، ثم عاد إلى الخطاب الأول ف

قال تعالى : كنتم خير أمّة تحريضاً بهذا الإخبار على الانقياد والطواعية . والظاهر أنّ الخطاب هو لمن وقع الخطاب له أولاً وهم : أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فتكون الإشارة بقوله : أمة إلى أمةٍ معينة وهي أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فالصحابة هم خيرها .

وقال الحسن ومجاهد وجماعة : الخطاب لجميع الأمة بأنهم خير الأمم ، ويؤيد هذا التأويل كونهم { شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } وقوله :{ نَحْنُ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } الحديث وقوله :{ نَحْنُ}

وطاهر كان هنا أنها الناقصة ، وخير أمة هو الخبر . ولا يراد بها هنا الدلالة على مضي الزمان وانقطاع النسبة نحو قولك : كان زيد قائماً ، بل المراد دوام النسبة كقوله :{ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّه غَفُوراً رَّحِيماً }{ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } وكون كان تدل على الدوام ومرادفه لم يزل قولاً مرجوحاً ، بل الأصح أنها كسائر الأفعال تدل على الانقطاع ، ثم قد تستعمل حيث لا يراد الانقطاع .

وقيل : كان هنا بمعنى صار ، أيْ صرتم خير أمة .

وقيل : كان هنا تامة ، وخير أمة حال . وأبعد من ذهب إلى أنّها زائدة ، لأن الزائدة لا تكون أول كلام ، ولا عمل لها .

وقال الزمخشري : كان عبارة عن وجود الشيء في من ماض على سبيل الإبهام ، وليس فيه دليل على عدم سابق ، ولا على انقطاع طارىء . ومنه قوله تعالى :{ وَكَانَ اللّه غَفُوراً}

ومنه قوله : كنتم خير أمة ، كأنه قيل : وجدتم خير أمة انتهى كلامه . فقوله : أنها لا تدل على عدم سابق هذا إذا لم تكن بمعنى صار ، فإذا كانت بمعنى صار دلت على عدم سابق . فإذا

قلت : كان زيد عالماً بمعنى صار ، دلت على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم . وقوله : ولا على انقطاع طارىء قد ذكرنا قبل أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يدل لفظ المضي منها على الانقطاع ، ثم قد تستعمل حيث لا يكون انقطاع . وفرقٌ بين الدلالة والاستعمال ، ألا ترى أنك تقول : هذا اللفظ يدل على العموم ؟ ثم تستعمل حيث لا يراد العموم ، بل المراد الخصوص . وقوله : كأنه قال وجدتم خير أمة ، هذا يعارض أنها مثل قوله :{ وَكَانَ اللّه غَفُوراً رَّحِيماً } لأن تقديره وجدتم خير أمة يدل على أنها تامة ، وأن خير أمة حال . وقوله : وكان اللّه غفوراً لا شك أنها هنا الناقصة فتعارضا .

وقيل : المعنى : كنتم في علم اللّه .

وقيل : في اللوح المحفوظ .

وقيل : فيما أخبر به الأمم قديماً عنكم .

وقيل : هو على الحكاية ، وهو متصل بقوله :{ فَفِى رَحْمَةِ اللّه هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي فيقال لهم في القيامة : كنتم في الدنيا خير أمة ، وهذا قول بعيد من سياق الكلام . وخير مضاف للنكرة ، وهي أفعل تفضيل فيجب إفرادها وتذكيرها ، وإن كانت جارية على جمع . والمعنى : أن الأمم إذا فضلوا أمة أمة كانت هذه الأمة خيرها . وحكم عليهم بأنهم خيرُ أمة ، ولم يبين جهة الخيرية في اللفظ وهي : سبقهم إلى الإيما برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وبدارهم إلى نصرته ، ونقلهم عنه علم الشريعة ، وافتتاحهم البلاد . وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل . وكل من عمل بعدهم حسنة فلهم مثل

أجرها ، لأنّهم سببٌ في إيجادها ، إذْ هم الذين سنوها ، وأوضحوا طريقها { من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة } لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً .

ومعنى أخرجت : أظهرت وأبرزت ، ومخرجها هو اللّه تعالى ، وحذف للعلم به .

وقال ابن عباس : أخرجت من مكة إلى المدينة ، وهي جملة في موضع الصفة لأمة ، أي خير أمة مخرجة ، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لخير أمة ، فتكون في موضع نصب أي مخرجة . وعلى هذا الوجه يكون قد روعي هنا لفظ الغيبة ، ولم يراع لفظ الخطاب . وهما طريقان للعرب ، إذا تقدم ضمير حاضر لمتكلم أو مخاطب ، ثم جاء بعده خبره إسماً ، ثم جاء بعد ذلك ما يصلح أن يكون وصفاً ، فتارة يراعى حال ذلك الضمير فيكون ذلك الصالح للوصف على حسب الضمير فتقول : أنا رجل آمر بالمعروف ، وأنت رجل تأمر بالمعروف . ومنه { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } وأنك امرؤ فيك جاهلية : وأنت امرؤ قد كثأت لك لحية

كأنك منها قاعد في جوالق

وتارةً يراعى حال ذلك الاسم ، فيكون ذلك الصالح للوصف على حسبه من الغيبة . فتقول : أنا رجل يأمر بالمعروف ، وأنت امرؤ تأمر بالمعروف . ومنه : كنتم خير أمة أخرجت ولو جاء أخرجتم فيراعى ضمير الخطاب في كنتم لكان عربياً فصيحاً . والأولى جعله أخرجت للناس صفة لأمة ، لا لخير لتناسب الخطاب في كنتم خير أمة مع الخطاب في تأمرون وما بعده . وظاهر قوله : للناس أنه متعلق بأخرجت .

وقيل : متعلق بخير . ولا يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس هذا اللفظ ، بل من موضع آخر .

وقيل : بتأمرون ، والتقدير تأمرون الناس بالمعروف . فلما قدم المفعول جر باللام كقوله :{ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } أي تعبرون الرؤيا ، وهذا فيه بعد . تأمرون بالمعروف كلام خرج مخرج الثناء من اللّه قاله : الربيع . أو مخرج الشرط في الخيرية ، روى هذا المعنى عن : عمرو ، ومجاهد ، والزجاج . فقيل : هو مستأنف بين به كونهم خير أمة كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم . و

قال ابن عطية : تأمرون وما بعده أحوال في موضع نصب انتهى . وقاله الراغب : والاستئناف أمكن وأمدح . وأجاز الحوفي في أن يكون تأمرون خبراً بعد خبر ، وأن كون نعتاً لخير أمة . قيل : وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان ، لأنّ الإيمان مشترك بين جميع الأمم ، فليس المؤثر لحصول هذه الزيادة ، بل المؤثر كونهم أقوى حالاً في الأمر والنهي . وإنا الإيمان شرط للتأثير ، لأنه ما لم يوجد لم يضر شيء من الطاعات مؤثراً في صفة الخيرية ، والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير . وإنما اكتفى بذكر الإيمان باللّه عن الإيمان بالنبوّة لأنه مستلزم له انتهى . وهو من كلام محمد بن عمر الرازي .

وقال الزمخشري : جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيماناً باللّه ، لأن مَن آمن ببعض ، ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه ، فكأنه غير مؤمن باللّه . ويقولون : نؤمن ببعض الآية انتهى .

وقيل : هو على حذف مضاف ، أي وتؤمنون برسول اللّه . والظاهر في المعروف ، والمنكر العموم .

وقال ابن عباس : المعروف الرسول ، والمنكر عبادة الأصنام . وقال أبو العالية : المعروف التوحيد ، والمنكر الشرك .

{وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أي ولو آمن عامّتهم

وسائرهم . ويعني الإيمان التام النافع . واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من آمن كما يقول من صدق كان خيراً له ، أي لكان هو ، أي الإيمان . وعلّق كينونة الإيمان خيراً لهم على تقدير حصوله توبيخاً لهم مقروناً بنصحه تعالى لهم أنْ لو آمنوا لنجوا أنفسهم من عذاب اللّه . وخبر هنا أفعل التفضيل ، والمعنى : لكان خيراً لهم مما هم عليه ، لأنهم إما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً في الرئاسة واستتباع العوام ، فلهم في هذا خط دنيوي . وإيمانهم يحصل به الحظ الدنيوي من كونهم يصيرون رؤساء في الإسلام ، والحظ الأخروي الجزيل بما وعدوه على الإيمان من إيتائهم أجرهم مرتين . و

قال ابن عطية : ولفظة خير صيغة تفضيل ، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير ، وإنما جاز ذلك لما في لفظة خير من الشياع وتشعب الوجوه ، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها انتهى كلامه . وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أولى إذا أمكن ذلك ، وقد أمكن إذ الخيرية مطلقة فتحصل بأدنى مشاركة .

{مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } ظاهر اسم الفاعل التلبس بالفعل ، فأخبر تعالى أنَّ من أهل الكتاب من هو ملتبس بالإيمان كعبد اللّه بن سلام ، وأخيه ، وثعلبة بن سعيد ، ومن أسلم من اليهود . وكالنجاشي ، وبحيرا ، ومن أسلم من النصارى إذ كانوا مصدقين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل أن يبعث وبعده . وهذا يدل على أنّ المراد بقوله :{ وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ } الخصوص ، أي باقي أهل الكتاب إذ كانت طائفة منهم قد حصل لها الإيمان .

وقيل : المراد باسم الفاعل هنا الاستقبال . أي منهم من يؤمن ، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب العموم ، ويكون قوله : منهم المؤمنون إخباراً بمغيب وأنه سيقع من بعضهم الإيمان ، ولا يستمرون كلهم على الكفر . وأخبر تعالى أن أكثرهم الفاسقون ، فدل على أن المؤمنين منهم قليل . والألف واللام في المؤمنون وفي الفاسقون يدل على المبالغة والكمال في الوصفين ، وذلك طاهر لأن من آمن بكتابه وبالقرآن فهو كامل في إيمانه ، ومن كذب بكتابه إذ لم يتبع ما تضمنه من الإيمان برسول اللّه ، وكذب بالقرآن فهو أيضاً كامل في فسقه متمرد في كفره .

﴿ ١١٠