١٥٢ولقد صدقكم اللّه . . . . . {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّه وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا } هذا جواب لمن رجع إلى المدينة من المؤمنين قالوا : وعدنا اللّه النصر والإمداد بالملائكة ، فمن أي وجه أتينا فنزلت إعلاماً أنه تعالى صدقهم الوعد ونصرهم على أعدائهم أولاً ، وكان الإمداد مشروطاً بالصبر والتقوى . واتفق من بعضهم من المخالفة ما نص اللّه في كتابه ، وجاءت المخاطبة بجمع ضمير المؤمنين في هذه الآيات ، وإنْ كان لم يصدر ما يعاتب عليه من جميعهم ، وذلك على طريقة العرب في نسبة ما يقع من بعضهم للجميع على سبيل التجوز ، وفي ذلك إبقاء على مع فعل وستر ، إذ لم يعين وزجر لمن لم يفعل أن يفعل . وصدق الوعد : هو أنهم هزموا المشركين أولاً ، وكان لعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب والزبير وأبي دجانة وعاصم بن أبي الأفلح بلاء عظلم في ذلك اليوم ، وهو مذكور في السير . وكان المشركون في ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فرس . والمسلمون في سبعمائة رجل . وتعدت صدق هنا لى اثنين ، ويجوز أن تتعدى إلى الثاني بحرف جر ، تقول : صدقت زيداً الحديث ، وصدقت زيداً في الحديث ، ذكرها بعض النحويين في باب ما يتعدى إلى اثنين . ويجوز أن يتعدى إلى الثاني بحرف الجر ، فيكون من باب استغفر . واختار والعامل في إذ صدقكم . ومعنى تحسونهم : تقتلونهم . وكانوا قتلوا من المشركين اثنين وعشرين رجلاً . وقرأ عبيد بن عمير تحسونهم رباعياً من الإحساس ، أي تذهبون حسهم بالقتل . وتمني القتل بوقت الفشل وهو : الجبن ، والضعف . والتنازع وهو التجاذب في الأمر . وهذا التنازع صدر من الرماة . كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد رتب الرماة على فم الوادي وقال : { اثبتوا مكانكم ، وإن رأيتمونا هزمناهم ، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم } ووعدهم بالنصر إن انتهوا إلى أمره . فلما انهزم المشركون قال بعض الرماة : قد انهزموا فما موقفنا هنا ؟ الغنيمة الغنيمة ، الحقوا بالمسلمين . وقال بعضهم : بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : التنازع هو ما صدر من المسلمين من الاختلاف حين صيح أن محمداً قد قتل . والعصيان هو ذهاب من ذهب من الرماة من مكانه طلباً للنهب والغنيمة ، وكان خالد حين رأى قلة الرماة صاح في خيله وحمل على مَنْ بقي من الرماة فقتلهم ، وحمل على عسكر المسلمين فتراجع المشركون ، فأصيب من المسلمين يومئذ سبعون رجلاً . من بعد ما أراكم ما تحبون ، وهو ظفر المؤمنين وغلبتهم . قال الزبير بن العوام : لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى العسكر يريدون النهب ، وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا وصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ القوم علينا . وإذاً في قوله : إذا فشلتم ، قيل : بمعنى إذ ، وحتى حرف جر ولا جواب لها إذ ذاك ، ويتعلق بتحسونهم أي : تقتلونهم إلى هذا الوقت . وقيل : حتى حرف ابتداء دخلت على الجملة الشرطية ، كما تدخل على جمل الابتداء والجواب ملفوظ به وهو قوله : وتنازعتم على زيادة الواو ، قاله : الفراء وغيره . وثم صرفكم على زيادة ثم ، وهذان القولان واللذان قبلهما ضعاف . والصحيح : أنه محذوف لدلالة المعنى عليه ، فقدره ابن عطية : انهزمتم . والزمخشري : منعكم نصرة ، وغيرهما : امتحنتم . والتقادير متقاربة . وحذفُ جواب الشرط لفهم المعنى جائز لقوله تعالى : { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الاْرْضِ أَوْ } تقديره فافعل ويظهر أن الجواب المحذوف غير ما قدروه وهو : انقسمتم إلى قسمين . ويدل عليه ما بعده ، وهو نظير :{ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } التقدير : انقسموا قسمين : فمنهم مقتصد لا يقال : كيف ، يقال : انقسموا فيمن فشل وتنازع ، وعصى . لأن هذه الأفعال لم تصدر من كلهم ، بل من بعضهم كما ذكرناه في أول الكلام على هذه الآية . وقال أبو بكر الرازي : دلت هذه الآية على تقدم وعد اللّه تعالى للمؤمنين بالنصر على عدوهم ما لم يعصوا بتنازعهم وفشلهم ، وكان كما أخبر به هزموهم وقتلوا ، ودل ذلك على صدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم النبي بأن الأخبار بالغيوب من خصائص الربوبية وصفات الألوهية لا يطلع عليها إلا من أطلعه اللّه عليها ، ولا ينتهي علمها إلينا إلا على لسان رسول يخبر بها عن اللّه تعالى .{ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاْخِرَةَ } قال ابن عباس وجمهور المفسرين : الدنيا الغنيمة . وقال ابن مسعود ، ما شعرنا أن أحداً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ، والذين أرادوا الآخرة هم الذين ثبتوا في مركزهم مع أميرهم عبد اللّه بن جبير في نفر دون العشرة قتلوا جميعاً ، وكان الرماة خمسين ذهب منهم نيف على أربعين للنهب وعصوا الأمر . وممن أراد الآخرة من ثبت بعد تخلخل المسلمين فقاتل حتى قتل ، كأنس بن النضر وغيره ممن لم يضطرب في قتاله ولا في دينه . وهاتان الجملتان اعتراض بين المعطوف عليه والمعطوف .{ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } أي جعلكم تنصرفون .{ لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم على الإيمان عندها . وقيل : صرفكم عنهم أي لم تتماد الكسرة عليكم فيستأصلوكم . وقيل : المعنى لم يكلفكم طلبهم عقيب انصرافهم . وتأولته المعتزلة على معنى : ثم انصرفتم عنهم ، فإضافته إلى اللّه تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين ابتلاء للمؤمنين . وقيل : معنى ليبتليكم أي لينزل بكم ذلك البلاء من القتل والتمحيص .{ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } قيل : عن عقوبتكم على فراركم ، ولم يؤاخذكم به . وقيل : برد العدو عنكم . وقيل : بترك الأمر بالعود إلى قتالهم من فوركم . وقيل : بترك الاستئصال بعد المعصية والمخالفة . فمعنى عفا عنكم أبقى عليكم . قال الحسن : قتل منهم جماعة سبعون ، وقتل عم النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وشج وجهه وكسرت رباعيته . وإنما العفو إن لم يستأصلهم هؤلاء مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وفي سبيل اللّه غضاب للّه يقاتلون أعداء اللّه ، نهوا عن شيء فضيعوه ، فواللّه ما تركوا حتى غموا بهذا الغم . يا فسق الفاسقين اليوم يحل كل كبيرة ، ويركب كل داهية ، ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم انتهى كلام الحسن . والظاهر أن العفو إنما هو عن الذنب ، أي لم يؤاخذكم بالعصيان . ويدل عليه قرينة قوله : وعصيتم . والمعنى : أن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل بكم ، فعفا عنكم ، فهو إخبار بالعفو عما كان يستحق بالذنب من العقاب . وقال بهذا : ابن جريج ، وابن إسحاق ، وجماعة . وفيه مع ذلك تحذير . { وَاللّه ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } أي في الأحوال ، أو بالعفو . وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع ضروباً : من ذلك الاستفهام الذي معناه الإنكار في : أم حسبتم . والتجنيس المماثل في : انقلبتم ومن ينقلب ، وفي ثواب الدنيا وحسن ثواب . والمغاير في قولهم : إلا أن قالوا . وتسمية الشيء باسم سببه في : تمنون الموت أي الجهاد في سبيل اللّه ، وفي قوله : وثبت أقدامنا فيمن فسر ذلك بالقلوب ، لأن ثبات الأقدام متسبب عن ثبات القلوب . والالتفات في : وسنجزي الشاكرين . والتكرار في : ولما يعلم ويعلم لاختلاف المتعلق . أو للتنبيه على فضل الصابر . وفي : أفإن مات أو قتل لأن العرف في الموت خلاف العرف في القتل ، والمعنى : مفارقة الروح الجسد فهو واحد . ومن في ومن يرد ثواب الجملتين ، وفي : ذنوبنا وإسرافنا في قول من سوى بينهما ، وفي : ثواب وحسن ثواب . وفي : لفظ الجلالة ، وفي : منكم من يريد الجملتين . والتقسيم في : ومن يرد وفي منكم من يريد . والاختصاص في : الشاكرين ، والصابرين ، والمؤمنين . والطباق : في آمنوا أن تطيعوا الذين كفروا . والتشبيه في : يردّوكم على أعقابكم ، شبه الرجوع عن الدين بالراجع القهقري ، والذي حبط عمله بالكفر بالخاسر الذي ضاع ربحه ورأس ماله وبالمنقلب الذي يروح في طريق ويغدو في أخرى ، وفي قوله : سنلقى . وقيل : هذا كله استعارة . والحذف في عدة مواضع . |
﴿ ١٥٢ ﴾