٥٨

إن اللّه يأمركم . . . . .

الزعم : قول يقترن به الإعتقاد الظني . وهو بضم الزاي وفتحها وكسرها . قال الشاعر وهو أبو ذؤيب الهذلي : فإن تزعميني كنت أجهل فيكم

فإني شريت الحلم بعدك بالجهل

وقال ابن دريد : أكثر ما يقع على الباطل . وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم { مطية الرجل زعموا} . وقال الأعشى : ونبئت قيساً ولم أبله

كما زعموا خير أهل اليمن

فقال الممدوح وما هو إلا الزعم وحرمه . وإذا قال سيبويه : زعم الخليل ، فإنما يستعملها فيما انفرد الخليل به ، وكان أقوى . وذكر صاحب العين : أنَّ الأحسن في زعم أنْ توقع على أنْ قال ، قال . وقد توقع في الشعر على الاسم . وأنشد بيت أبي ذؤيب هذا وقول الآخر : زعمتني شيخاً ولست بشيخ

إنما الشيخ من يدب دبيبا

ويقال : زعم بمعنى كفل ، وبمعنى رأس ، فيتعدى إلى مفعول واحد مرة ، وبحرف جر أخرى .

ويقال : زعمت الشاة أي سمنت ، وبمعنى هزلت ، ولا يتعدى . التوفيق : مصدر وفق ، والوفاق والوفق ضد المخالفة .

{إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وقاله : مجاهد والزهري وابن جريج ومقاتل ما ذكروا في قصة مطولة مضمونها : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذ مفتاح الكعبة من سادنيها عثمان بن طلحة ، وابن عمه شيبة بن عثمان بعد تأب منن عثمان ولم يكن أسلم ، فسأل العباس الرسول صلى اللّه عليه وسلم أن يجمع له بين السقاية والسدانة ، فنزلت . فرد المفتاح إليهما وأسلم عثمان . وقال الرسول صلى اللّه عليه وسلم : { خذوها ابني طلحة خالدة تالدة لا يأخذها منكم إلا ظالم} . وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقاله : زيد بن أسلم ،

ومكحول ، واختاره أبو سليمان الدمشقي : نزلت في الأمراء أن يؤدوا الأمانة فيما ائتمنهم اللّه من أمر رعيته .

وقيل : نزلت عامة ، وهو مروي عن : أبي ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين ، وذكر عمل الصالحات ، نبه على هذين العملين الشريفين اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة ، فأحدهما ما يختص به الإنسان فيما بينه وبين غيره وهو أذاء الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ، والثاني ما يكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى ، وهو من الأعمال العظيمة التي أمر اللّه بها رسله وأنبياءه والمؤمنين . ولما كان الترتيب الصحيح أنْ يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار ، ثم يشتغل بحال غيره ، أمر بأداء الأمانة أولاً ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق . والظاهر في : يأمركم أنّ الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة .

وقال ابن جريج : خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم في شأن مفتاح الكعبة . وقال علي ، وابن أسلم ، وشهر ، وابن زيد : خطاب لولاة المسلمين خاصة ، فهو للنبي صلى اللّه عليه وسلم وأمرائه ، ثم يتناول مَن بعدهم .

وقال ابن عباس : في الولاة أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ، ويردوهنّ إلى الأزواج .

وقيل : خطاب لليهود أمروا برد ما عندهم من الأمانة ، من نعتِ الرسول أنْ يظهروه لأهله ، إذ الخطاب معهم قبل هذه الآية . ونقل التبريزي : أنها خطاب لأمراء السرايا بحفظ الغنائم ووضعها في أهلها .

وقيل : ذلك عام فيما كلفه العبد من العبادات . والأظهر ما قدمناه من أنّ الخطاب عام يتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ، ورد الظلامات ، وعدل الحكومات . ومنه دونهم من الناس في الودائع ، والعواري ، والشهادات ، والرجل يحكم في نازلة . قال ابن عباس : لم يرخص اللّه لموسر ولا معسر أنْ يمسك الأمانة .

وقرىء : أن تؤدّوا الأمانة على التوحيد ، وأن تحكموا ، ظاهره : أن يكون معطوفاً على أن تؤدّوا ، وفصل بين حرف العطف والمعطوف بإذا . وقد ذهب إلى ذلك بعض أصحابنا وجعله كقوله : { رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاْخِرَةِ حَسَنَةً }{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً }{ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الاْرْضِ مِثْلَهُنَّ } ففصل في هذه الآية بين الواو والمعطوف بالمجرور . وأبو عليّ يخص هذا بالشعر ، وليس بصواب . فإن كان المعطوف مجروراً أعيد الجار نحو : امرر بزيد وغداً بعمرو . ولكنَّ قوله : وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا ، ليس من هذه الآيات ، لأن حرف الجر يتعلق في هذه الآيات بالعامل في المعطوف ، والظرف هنا ظاهره أنه منصوب بأن تحكموا ، ولا يمكن ذلك لأن الفعل في صلة أن ، ولا يمكن أن ينتصب بالناصب لأنْ تحكموا لأنّ الأمر ليس واقعاً وقت الحكم . وقد خرجه على هذا بعضهم . والذي يظهر أنّ إذاً معمولة لأنْ تحكموا مقدرة ، وأنْ تحكموا المذكورة مفسرة لتلك المقدرة ، هذا إذا فرغنا على قول الجمهور .

وأما إذا قلنا بمذهب الفرّاء فإذا منصوبة بأن تحكموا هذه الملفوظ بها ، لأنه يجير : يعجبني العسل أن يشرب ، فتقدم معمول صلة أنْ عليها .

{إِنَّ اللّه نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } أصله : معم ما ، وما معرفة تامة على مذهب سيبويه والكسائي . كأنه قال : نعم الشيء يعظكم به ، أي شيء يعظكم به . ويعظكم صفة لشيء ، وشيء هو المخصوص بالمدح وموصولة على مذهب الفارسي في أحد قوليه . والمخصوص محذوف التقدير : نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل ، ونكرة في موضع نصب على التمييز و يعظكم صفة له على مذهب الفارسي في أحد قوليه ، والمخصوص محذوف تقديره كتقدير ما قبله . وقد تأولت ما هنا على كل هذه الأقوال ، وتحقيق ذلك في علم النحو . و

قال ابن عطية : وما المردفة على نعم إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في ربما ، ومما في قوله : وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مما يحرك شفتيه وكقول الشاعر

وإنا لمما نضرب الكبشر ضربة

على رأسه تلقى اللسان من الفم

ونحوه . وفي هذا هي بمنزلة ربما ، وهي لها مخالفة في المعنى : لأنّ ربما معناها التقليل ، ومما معناها التكثير . ومع أن ما موطئه ، فهي بمعنى الذي . وما وطأت إلا وهي اسم ، ولكنّ القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل انتهى كلامه . وهو كلام متهافت ، لأنه من حيث جعلها موطئة مهيئة لا تكون اسماً ، ومن حيث جعلها بمعنى الذي لا تكون مهيئة موطئة فتدافعا .

وقرأ الجمهور : نعماً بكسر العين اتباعاً لحركة العين .

وقرأ بعض القراء : نعماً بفتح النون على الأصل ، إذ الأصل نعم على وزن شهد . ونسب إلى أبي عمرو سكون العين ، فيكون جمعاً بين ساكنين .

{إِنَّ اللّه كَانَ سَمِيعاً } أي لأقوالكم الصادرة منكم في الأحكام .

{بَصِيراً } بردّ الأمانات إلى أهلها .

﴿ ٥٨