٦٩

ومن يطع اللّه . . . . .

{وَمَن يُطِعِ اللّه وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ } قال الكلبي : نزلت في ثوبان مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان شديد الحب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأتى ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه فقال : { يا ثوبان ما غير لونك ؟ } فقال : يا رسول اللّه ما بي مرض ولا وجع ، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك ، واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك ، لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين ، وإنِّي وإن كنت أدخل الجنة كنت في منزل أدنى من منزلك ، وإنْ لم أدخل الجنة فذلك حين لا أراك أبداً . انتهى قول الكلبي .

وحكى مثل قول ثوبان عن جماعة من الصحابة منهم : عبد اللّه بن زيد بن عبد ربه الأنصاري ، وهو الذي أرى الأذان قال : يا رسول اللّه ، إذا مت ومتنا ، كنتَ في عليين فلا نراك ولا نجتمع بك ، وذكر حزنه على ذلك ، فنزلت .

وحكى مكي عن عبد اللّه هذا أنه لما مات النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : اللّهم اعمني حتى لا أرى شيئاً بعده ، فعمى . والمعنى في مع النبيين : إنه معهم في دار واحدة ، وكل من فيها رزق الرضا بحاله ، وهم بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر ، وإنْ بعد مكانه .

وقيل : المعية هنا كونهم يرفعون إلى منازل الأنبياء متى شاؤا تكرمة لهم ، ثم يعودون إلى منازلهم .

وقيل : إنّ الأنبياء والصدّيقين والشهداء ينحدرون إلى من أسفل منهم ليتذاكروا نعمة اللّه ، ذكره المهدوي في تفسيره الكبير . قال أبو عبد اللّه الرازي : هذه الآية تنبيه على أمرين من أحوال المعاد :

الأول : إشراق الأرواح بأنوار المعرفة .

والثاني : كونهم مع النبيين . وليس المراد بهذه المعية في الدرجة ، فإنّ ذلك ممتنع ، بل معناه : إن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا بقيت بعد المفارقة تلك العلائق ، فينعكس الشعاع من بعضها على بعض ، فتصير أنوارها في غاية القوة ، فهذا ما خطر لي انتهى كلامه . وهو شبيه بما قالته الفلاسفة في الأرواح إذا فارقت الأجساد . وأهل الإسلام يأبون هذه الألفاظ ومدلولاتها ، ولكن من غلب عليه شيء وحبه جرى في كلامه . وقوله : مع الذي أنعم اللّه عليهم ، تفسير لقوله : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وهم من ذكر في هذه الآية . والظاهر أن قوله : من النبيين ، تفسير للذين أنعم اللّه عليهم . فكأنه قيل : من يطع اللّه ورسوله منكم ألحقه اللّه بالذين تقدمهم ممن أنعم عليهم . قال الراغب : ممن أنعم عليهم من الفرق الأربع في المنزلة والثواب : النبي بالنبي ، والصديق بالصديق ، والشهيد بالشهيد ، والصالح بالصالح . وأجاز الراغب أن يتعلق من النبيين بقوله : ومن يطع اللّه والرسول . أي : من النبيين ومن بعدهم ، ويكون قوله

فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم إشارة إلى الملأ الأعلى . ثم قال : { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } ويبين ذلك قول النبي صلى اللّه عليه وسلم حين الموت { اللّهمَّ إِنَّكَ أَنتَ الاْعْلَى } وهذا ظاهر انتهى . وهذا الوجه الذي هو عنده ظاهر فاسد من جهة المعنى ، ومن جهة النحو . أما من جهة المعنى فإنّ الرسول هنا هو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، أخبر اللّه تعالى أنْ من يطيعه ويطيع رسوله فهو مع من ذكر ، ولو كان من النبيين معلقاً بقوله : ومن يطع اللّه والرسول ، لكان قوله : من النبيين تفسيراً لمن في قوله : ومن يطع . فيلزم أن يكون في زمان الرسول أو بعده أنبياء يطيعونه ، وهذا غير ممكن ، لأنه قد أخبر تعالى أنّ محمداً هو خاتم النبيين . وقال هو صلى اللّه عليه وسلم : { لا نبي بعدي} .

وأما من جهة النحو فما قبل فاء الجزاء لا يعمل فيما بعدها ، لو

قلت : إنْ تقم هند فعمرو ذاهب ضاحكة ، لم يجز .

واختلفوا في الأوصاف الثلاثة التي بعد النبيين . فقال بعضهم : كلها أوصاف لموصوف واحد ، وهي صفات متداخلة ، فإنه لا يمتنع في الشخص الواحد أنْ يكون صديقاً وشهيداً وصالحاً .

وقيل : المراد بكل وصف صنف من الناس . فأما الصديق فهو فعيل للمبالغة كشريب . فقيل : هو الكثير الصدق ،

وقيل : هو الكثير الصدقة . وللمفسرين في تفسيره وجوه :

الأول : أنّ كل من صدق بكل الذي لا يتخالجه فيه شك فهو صديق لقوله تعالى :{ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللّه وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ}

الثاني : أفاضل أصحاب الرسول .

الثالث : السابق إلى تصديق الرسول . فصار في ذلك قدوة لسائر الناس .

وأما الشهيد : فهو المقتول في سبيل اللّه ، المخصوص بفضل الميتة . وفرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة ، لأنهم أكرم من أن يشفع فيهم . وقد تقدم الكلام في كونهم سموا شهداء ، ولكن لفظ الشهداء في الآية يعم أنواع الشهداء الذين ذكرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقال أبو عبد اللّه الرازي : لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الإنسان مقتول الكافر ، بل نقول : الشهيد فعيل بمعنى فاعل ، وهو الذي يشهد لدين اللّه تارة بالحجة بالبيان ، وتارة بالسيف والسنان . فالشهداء هم القائمون بالقسط ، وهم الذين ذكرهم اللّهفي قوله :{ شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ} والصالح : هو الذي يكون صالحاً في اعتقاده وعمله . وجاء هذا التركيب على هذا القول على حسب التنزل من الأعلى إلى الأدنى ، إلى أدنى منه . وفي هذا الترغيب للمؤمنين في طاعة اللّه وطاعة رسوله ، حيث وعدوا بمرافقة أقرب عباد اللّه إلى اللّه ، وأرفعهم درجات عنده .

وقال الراغب : قسم اللّه المؤمنين في هذه الآية أربعة أقسام ، وجعل لهم أربعة منازل بعضها دون بعض ، وحث كافة الناس أنْ يتأخروا عن منزل واحد منهم :

الأول : الأنبياء الذين تمدهم قوة الإلهية ، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من قريب . ولذلك

قال تعالى :{ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}

الثاني : الصديقون وهم الذين يزاحمون الأنبياء في المعرفة ، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من بعيد وإياه عني أمير المؤمنين حين قيل له : هل رأيت اللّه ؟ فقال : ما كنت لأعبد شيئاً لم أره ثم قال : { لم تره العيون بشواهد الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان .

الثالث : الشهداء وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين . ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب ، كحال حارثة حيث قال : كأني أنظر إلى عرش ربي ، وإياه قصد النبي صلى اللّه عليه وسلم حيث قال :  { اعبد اللّه كأنك تراه}

الرابع : الصالحون ، وهم الذين يعرفون الشيء باتباعات وتقليدات الراسخين في العلم ، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيد في مرآة . وإياه قصد النبي صلى اللّه عليه وسلم بقوله : { اعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك } انتهى كلامه . وهو شبيه بكلام المتصوفة .

وقال عكرمة : النبيون محمد صلى اللّه عليه وسلم ، والصديقون أبو بكر ، والشهداء عمر وعثمان وعلي ، والصالحون صالحو أمّة محمد صلى اللّه عليه وسلم انتهى .

وينبغي أن يكون ذلك على طريق التمثيل ،

وأما على طريق الحصر فلا ، ولا يفهم من قوله : ومن يطع اللّه والرسول ظاهر اللفظ من الاكتفاء بالطاعة الواحدة ، إذ اللفظ الدال على الصفة يكفي في العمل في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة لدخول المنافقين فيه ، لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة ، بل يحمل على غير الظاهر بأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات ، وترك جميع المنهيات .

{وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } أولئك : إشارة إلى النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . لم يكتف بالمعية حتى جعلهم رفقاء لهم ، فالمطيع للّه ولرسوله يوافقونه ويصحبونه ، والرفيق الصاحب ، سمي بذلك للارتفاق به . وعلى هذا يجوز أن ينتصب رفيقاً على الحال من أولئك ، أو على التمييز . وإذا انتصب على التمييز فيحتمل أن لا يكون منقولاً ، فيجوز دخول من عليه ، ويكون هو المميز . وجاء مفرداً إمّا لأن الرفيق مثل الخليط والصديق ، يكون للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد .

وأمّا لإطلاق المفرد في باب التمييز اكتفاء ويراد به الجمع ، ويحسن ذلك هنا كونه فاصلة ، ويحتمل أن يكون منقولاً من الفاعل ، فلا يكون هو المميز والتقدير : وحسن رفيق أولئك ، فلا تدخل عليه مَن ويجوز أن يكون أولئك إشارة إلى مَن يطع اللّه والرسول ، وجمع على معنى من ويجوز في انتصاب رفيقاً إلا وجه السابقة .

وقرأ الجمهور : وحسُن بضم السين ، وهي الأصل ، ولغة الحجاز .

وقرأ أبو السمال : وحسْن بسكون السين وهي لغة تميم . ويجوز : وحُسْن بسكون السين وضم الحاء على تقدير نقل حركة السين إليها ، وهي لغة بعض بني قيس .

قال الزمخشري : وحسن أولئك رفيقاً فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : وما أحسن أولئك رفيقاً . ولاستقلاله بمعنى التعجب : وحسْن بسكون السين . يقول المتعجب . وحسْنُ الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين انتهى كلامه . وهو تخليط ، وتركيب مذهب على مذهب . فنقول : اختلفوا في فعل المراد به المدح والذم ، فذهب الفارسي وأكثر النحويين إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس فقط ، فلا يكون فاعلاً إلا بما يكون فاعلاً لهما . وذهب الأخفش والمبرد إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس ، فيجعل فاعلها كفاعلهما ، وذلك إذا لم يدخله معنى التعجب . وإلى جواز إلحاقه بفعل التعجب فلا يجري مجرى نعم وبئس في الفاعل ، ولا في بقية أحكامهما ، بل يكون فاعله ما يكون مفعولاً لفعل التعجب ، فيقول : لضربت يدك ولضربت اليد . والكلام على هذين المذهبين تصحيحاً وإبطالاً مذكور في علم النحو . والزمخشري لم يتبع واحداً من هذين المذهبين ، بل خلط وركب ، فأخذ التعجب من مذهب الأخفش ، وأخذ التمثيل بقوله : وحسن الوجه وجهك ، وحسن الوجه وجهك من مذهب الفارسي .

وأما قوله : ولاستقلاله بمعنى التعجب ، قرىء : وحسْن بسكون السين ، وذكر أن المتعجب يقول : وحسن وحسن ، فهذا ليس بشيء ، لأن الفرّاء ذكر أن تلك لغات للعرب ، فلا يكون التسكين ، ولا هو والنقل لأجل التعجب .

﴿ ٦٩