٧٣

ولئن أصابكم فضل . . . . .

الفضل هنا : الظفر بالعدو والغنيمة .

وقرأ الجمهور : ليقولن بفتح اللام .

وقرأ الحسن : ليقولن بضم اللام ، أضمر فيه ضمير الجمع على معنى من .

وقرأ ابن كثير وحفص . كأنْ لم تكن بتاء التأنيث ، والباقون بالياء .

وقرأ الحسن ويزيد النحوي : فأفوزُ برفع الزاي عطفاً على كنت ، فتكون الكينونة معهم والفوز بالقسمة داخلين في التمني ، أو على الاستئناف أي فأنا أفوز .

وقرأ الجمهور : بنصب الزاي ، وهو جواب التمني ، ومذهبُ جمهور البصريين : أنّ النصب بإضمار أن بعد الفاء ، وهي حرف عطف عطفت المصدر المنسبك من أن المضمرة والفعل المنصوب بها على مصدر متوهم . ومذهب الكوفيين : أنه انتصب بالخلاف ، ومذهب الجرمي : أنه انتصب بالفاء نفسها ، ويا عند قوم للنداء ، والمنادي محذوف تقديره : يا قوم ليتني . وذهب أبو علي : إلى أن يا للتنبيه ، وليس في الكلام منادى محذوف ، وهو الصحيح . وكأنْ هنا مخففة من الثقيلة ، وإذا وليتها الجملة الفعلية فتكون مبدوءة بقد ، نحو قوله : لا يهولنك اصطلاؤك للحر

ب فمحذورها كان قد ألما

أو بلم كقوله : { كان لم يكن } كان لم { تغن بالأمس} ووجدت في شعر عمار الكلبي ابتداءها في قوله : بددت منها الليالي شملهم

فكأن لما يكونوا قبل ثم

وينبغي التوقف في جواز ذلك حتى يسمع من لسان العرب . و

قال ابن عطية : وكأنْ مضمنة معنى التشبيه ، ولكنها ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر ، وإنما تجيء بعدها الجمل انتهى . وهذا الذي ذكره غير محرر ، ولا على إطلاقه . أما إذا خفقت ووليها ما كان يليها وهي ثقيلة ، فالأكثر والأفصح أن ترتفع تلك الجملة على الابتداء والخبر ، ويكون اسم كان ضمير شأن محذوفاً ، وتكون تلك الجملة في موضع رفع خبر كان . وإذا لم ينو ضمير الشأن جاز لها أن تنصب الاسم إذا كان مظهراً ، وترفع الخبر هذا ظاهر كلام سيبويه . ولا يخص ذلك بالشعر ، فنقول : كأن زيداً قائم . قال سيبويه : وحدثنا من يوثق به أنه سمع من العرب من يقول : إن عمر المنطلق وأهل المدينة يقرؤون : وأن كلا لما يخففون وينصبون كما قال : كأن ثدييه حقان ، وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل ، فلما حذف من نفسه شيء لم يغير عمله ، كما لم يغير عمل لم يك ، ولم أبل حين حذف انتهى . فظاهر تشبيه سيبويه أن عمر المنطلق بقوله : كأن ثدييه حقان جواز ذلك في الكلام ، وأنه لا يختص بالشعر .

وقد نقل صاحب رؤوس المسائل : أن كأنْ إذا خفقت لا يجوز إعمالها عند الكوفيين ، وأن البصريين أجازوا ذلك . فعلى مذهب الكوفيين قد يتمشى قول ابن عطية في أنَّ كانْ المخففة ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر ،

وأما على مذهب البصريين فلا ، لأنها عندهم لا بد لها من اسم وخبر .

والجملة من قوله : كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة اختلف المفسرون فيها ونحن نسرد كلام من وقفنا على كلامه فيها . فنقول :

قال الزمخشري : اعتراض بين الفعل الذي هو ليقولن ، وبين مفعوله وهو يا ليتني ، والمعنى : كأنْ لم يتقدم له معكم مودة ، لأنّ المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر ، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن . والظاهر أنه تهكم ، لأنهم كانوا أعدى عدوّ للمؤمنين وأشدهم حسداً لهم ، فكيف يوصفون بالمودة إلا على وجه العكس تهكماً بحالهم ؟ و

قال ابن عطية : المنافق يعاطي المؤمنين المودة ، ويعاهد على التزام كلف الإسلام ، ثم يتخلف نفاقاً وشكاً وكفراً باللّه ورسوله ، ثم يتمنى عندما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين . فعلى هذا يجيء قوله تعالى : كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ، التفاتة بليغة واعتراضاً بين القائل والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم . وقال الزجاج : هذه الجملة اعتراض ، أخبر تعالى بذلك لأنهم كانوا يوادون المؤمنين . وقال أيضاً ، وتبعه الماتريدي هذا على التقديم والتأخير تقديره : فإنْ أصابتكم مصيبة قال : قد أنعم اللّه عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً ، كأنْ لم تكن بينكم وبينه مودة ، ولئن أصابكم فضل من اللّه . قال الراغب : وذلك مستقبح ، فإنه لا يفصل بين الجملة وبعض ما يتعلق بجملة أخرى . وقال أيضاً : وتبعه أبو البقاء :

موضع الجملة نصب على الحال كما تقول : مررت بزيد وكان لم يكن بينك وبينه معرفة ، فضلاً عن مودة . وقال أبو علي الفارسي : هذه الجملة من قول المنافقين الذين أقعدوهم عن الجهاد وخرجوا هم ، كأن لم تكن بينكم وبينه أي : وبين النبي صلى اللّه عليه وسلم مودة فيخرجكم معهم لتأخذوا من الغنيمة ، ليبغضوا بذلك الرسول إليهم . وتبع أبو علي في ذلك مقاتلاً . قال مقاتل : معناه كأنه ليس من أهل ملتكم ولا مودة بينكم ، يريد : أنّ المبطىء قال لمن تخلف عن الغزو من المنافقين وضعفة المؤمنين ، ومن تخلف بإذن كأن لم تكن بينكم وبين محمد مودة فيخرجكم إلى الجهاد ، فتفوزون بما فاز . وقال أبو عبد اللّه الرازي : هو اعتراض في غاية الحسن ، لأن من أحب إنساناً فرح عند فرحه ، وحزن عند حزنه ، فإذا قلب القضية فذلك إظهار للعداوة . فنقول : حكى تعالى عن المنافق سروره وقت نكبة المسلمين ، ثم أراد أن يحكي حزنه عند دولة المسلمين بسبب أنه فاتته الغنيمة ، فقبل أن يذكر الكلام بتمامه ألقى قوله : كأن لم يكن بينكم وبينه ، والمراد التعجب . كأنه يقول تعالى : انظروا إلى ما يقوله هذا المنافق ، كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة أيها المؤمنون ولا مخالطة أصلاً ، فهذا هو المراد من الكلام .

وقال قتادة وابن جريج : قول المنافق : يا ليتني كنت معهم على معنى الحسد منه للمؤمنين في نيل رغبته .

وتلخص من هذه الأقوال أن هذه الجملة : إمّا أن يكون لها موضع من الإعراب نصب على الحال من الضمير المستكن في ليقولن ، أو نصب على المفعول بيقولن على الحكاية ، فيكون من جملة المقول ، وجملة المقول هو مجموع الجملتين : جملة التشبيه ، وجملة التمني . وضمير الخطاب للمتخلفين عن الجهاد ، وضمير الغيبة في وبينه للرسول . وعلى الوجه الأول ضمير الخطاب للمؤمنين ، وضمير الغيبة للقائل .

وإمّا أن لا يكون لها موضع من الإعراب لكونها اعتراضاً في الأصل بين جملة الشرط وجملة القسم وأخرت ، والنية بها التوسط بين الجملتين . أو لكونها اعتراضاً بين : ليقولن ومعموله الذي هو جملة التمني ، ولبس اعتراضاً يتعلق بمضمون هذه الجملة المتأخرة ، بل يتعلق بمضمون الجملتين ، والضمير الذي للخطاب هو للمؤمنين ، وفي بينه للقائل . واعترض به بين أثناء الحملة الأخيرة ، ولم يتأخر بعدها وإنْ كان من حيث المعنى متأخراً إذ معناه متعلق بمضمون الجملتين ، لأن معمول القول النية به التقديم ، لكنه حسن تأخيره كونه وقع فاصلة . ولو تأخرت جملة الاعتراض لم يحسن لكونها ليست فاصلة ، والتقدير : ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة ، إذ صدر منه قوله وقت المصيبة : قد أنعم اللّه عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً . وقوله : وقت الغنيمة يا ليتني كنت معهم ، وهذا قول من لم تسبق منه مودة لكم .

وفي الآيتين تنبيه على أنهم لا يعدّون من المنح إلا أغراض الدنيا ، يفرحون بما ينالون منها ، ولا من المحن إلا مصائبها فيتألمون لما يصيبهم منها كقوله تعالى : { فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ } الآية . وتضمنت هذه الجملة أنواعاً من الفصاحة والبديع : دخول حرف الشرط على ما ليس بشرط في الحقيقة في قوله : إن كنتم تؤمنون . والإشارة في ذلك : خير أولئك الذين يعلم اللّه ، فأولئك مع الذين ، وحسن أولئك رفيقاً ، ذلك الفضل من اللّه . والاستفهام المراد به التعجب في : ألم تر إلى الذين يزعمون . والتجنيس المغاير في : أن يضلهم ضلالاً ، وفي : أصابتهم مصيبة ، وفي : وقل لهم في أنفسهم قولاً ، وفي : يصدّون عنك صدوداً ، وفي : ويسلموا تسليماً ، وفي : فإنْ أصابتكم مصيبة ، وفي : فأفوز فوزاً عظيماً . والاستعارة في : فإن تنازعتم ، أصل المنازعة الجذب باليد ، ثم استعير للتنازع في الكلام . وفي : ضلالاً بعيداً استعار البعد المختص بالأزمنة والأمكنة للمعاني المختصة بالقلوب لدوام القلوب عليها ، وفي : فيما شجر بينهم استعار ما اشتبك وتضايق من الشجر للمنازعة التي يدخل بها بعض الكلام في بعض استعارة المحسوس للمعقول وفي : أنفسهم حرجاً أطلق اسم الحرج الذي هو من وصف الشجر إذا تضايق على الأمر الذي يشق على النفس للمناسبة التي بينهما وهو من الضيق والتتميم ، وهو أن يتبع الكلام كلمة تزيد المعنى تمكناً وبياناً للمعنى المراد وهو في

قوله قولاً بليغاً أي : يبلغ إلى قلوبهم ألمه أو بالغاً في زجرهم . وزيادة الحرف لزيادة المعنى في : من رسول أتت للاستغراق إذ لو لم تدخل لا وهم الواحد . والتكرار في : استغفر واستغفروا أنفسهم ، وفي أنفسهم واسم اللّه في مواضع . والالتفات في : واستغفر لهم الرسول . والتوكيد بالمصدر في : ويسلموا تسليماً . والتقسيم البليغ في قوله : من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . وإسناد الفعل إلى ما لا يصح وقوعه منه حقيقة في : أصابتكم مصيبة ، وأصابكم فضل . وجعل الشيء من الشيء وليس منه لمناسبة في قوله : وإن منكم لمن ليبطئن . والاعتراض على قول الجمهور في قوله : كان لم يكن بينكم وبينه مودّة . والحذف في مواضع .

﴿ ٧٣