٧٨أينما تكونوا يدرككم . . . . . {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } أي : هذا التأخر الذي سألوه لا فائدة فيه ، لأنه لا منجي من الموت سواء أكان بقتل أم بغيره ، فلا فائدة في خور الطبع وحب الحياة . وتحتمل هذه الجملة أن يكون ذلك تحت معمول قل ، ويحتمل أن يكون إخباراً من اللّه مستأنفاً بأنه لا ينجو من الموت أحد . والبروج هنا القصور في الأرض ، قاله : مجاهد ، وابن جريج ، والجمهور . أو القصور من حديد ، روي عن ابن عباس . أو قصور في سماء الدنيا مبنية قاله : السدّي . أو الحصون والآكام والقلاع قاله : ابن عباس . أو البيوت التي تكون فوق الحصون قاله : بعضهم . أو بروح السماء التي هي منازل القمر قاله : الربيع أنس ، والثوري ، وحكاه ابن القاسم عن مالك . وقال : ألا ترى إلى قوله : { وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ } وجعل فيها بروجاً{ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاء بُرُوجًا } وقال زهير : ومن هاب أسباب المنية يلقها ولو رام أسباب السماء بسلم مشيدة مطولة قاله : أبو مالك ، ومقاتل ، وابن قتيبة ، والزجاج . أو مطلية بالشيد قاله : أبو سليمان الدمشقي . أو حصينة قاله : ابن عباس ، وقتادة . ومن قال : أنها بروج في السماء فلأنها بيض شبهها بالمبيض بالشيد ، ولهذا قال الذي هي قصور بيض في السماء مبنية . والجزم في يدرككم على جواب الشرط ، وأينما تدل على العموم ، وكأنه قيل : في أي مكان تكونون فيه أدرككم الموت . ولو هنا بمعنى إن ، وجاءت لدفع توهم النجاة من الموت بتقدير : إن لو كانوا في بروج مشيدة ، ولإظهار استقصاء العموم في أينما . وقرأ طلحة بن سليمان : يدرككم برفع الكافين ، وخرجه أبو الفتح : على حذف فاء الجواب أي : فيدرككم الموت وهي قراءة ضعيفة . قال الزمخشري : ويجوز أن يقال : حمل على ما يقع موقع أينما تكونوا ، وهو : أينما كنتم كما حمل ولا ناعب على ما يقع موقع ليسوا مصلحين ، وهو ليسوا بمصلحين . فرفع كما رفع زهير يقول : لا غائب ما لي ولا حرم . وهو قول نحوي سيبويهي انتهى . ويعني : أنه جعل يدرككم ارتفع لكون أينما تكونوا في معنى أينما كنتم ، بتوهم أنه نطق به . وذلك أنه متى كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ فإنه يجوز في المضارع بعده وجهان : أحدهما : الجزم على الجواب . والثاني : الرفع . وفي توجيه الرفع خلاف ، الأصح أنّه ليس الجواب ، بل ذلك على التقديم والتأخير ، والجواب محذوف . وإذا حذف الجواب فلا بد أن يكون فعل الشرط ماضي اللفظ ، فتخريج هذه القراءة على هذا يأباه كون فعل الشرط مضارعاً . وحمله علي ولا ناعب ليس بجيد ، لان ولا ناعب عطف على التوهم ، والعطف على لتوهم لا ينقاس . وقال الزمخشري أيضاً ويجوز أن يتصل بقوله :{ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي : لا تنقصون شيئاً مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها . ثم ابتدأ بقوله : يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ، والوقف على هذا الوجه أينما تكونوا انتهى كلامه . وهذا تخريج ليس بمستقيم ، لا من حيث المعنى ، ولا من حيث الصناعة النحوية . أما من حيث المعنى فإنه لا يناسب أن يكون متصلاً بقوله : ولا تظلمون فتيلاً ، لأن ظاهر انتفاء الظلم إنما هو في الآخرة لقوله :{ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالاْخِرَةُ خَيْرٌ لّمَنِ اتَّقَى } وأما من حيث الصناعة النحوية فإنه على ظاهر كلامه يدل على أنَّ أينما تكونوا متعلق بقوله : ولا تظلمون ، ما فسره من قوله أي : لا تنقصون شيئماً مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم الحرب أو غيرها ، وهذا لا يجوز ، لأن أينما اسم شرط ، فالعامل فيه إنما هو فعل الشرط بعده . ولأن اسم الشرط لا يتقدم عليه عامله ، فلا يمكن أن يعمل فيه ، ولا تظلمون . بل إذا جاء نحو : اضرب زيداً متى جاء ، لا يجوز أن يكون الناصب لمتى اضرب . فإن قال : يقدّر له جواب محذوف يدل عليه ما بله وهو : ولا تظلمون ، كما تقدر في اضرب زيداً : متى جاء ، فالتقدير : أينما تكونوا فلا تظلمون فتيلاً أي : فلا ينقص شيء من آجالكم وحذفه لدلالة ما قبله عليه . قيل له : لا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط بصيغة الماضي ، وفعل الشرط هنا مضارع . تقول العرب : أنت ظالم إن فعلت ، ولا تقل أنت ظالم إن تفعل . وقرأ نعيم بن ميسرة : مشيدة بكسر الياء وصفاً لها بفعل فاعلها مجازاً ، كما قال : قصيدة شاعرة ، وإنما الشاعر ناظمها . {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللّه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ } قال ابن عباس : الضمير للمنافقين واليهود ، وقال الحسن : للمنافقين ، وقال السدي : لليهود . والظاهر أنه للمنافقين لأن مثل هذا لا يصدر من مؤمن ، واليهود لم يكونوا في طاعة الإسلام حتى يكتب عليهم القتال . وروي عن ابن عباس : أن الحسنة هنا هي السلامة والأمن ، والسيئة الأمراض والخوف . وعنه أيضاً : الحسنة الخصب والرخاء ، والسيئة الجدب والغلاء . وعنه أيضاً : الحسنة السراء ، والسيئة الضراء . وقال الحسن وابن زيد : الحسنة النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر ، والسيئة البلية والشدة والقتل يوم أحد . وقيل : الحسنة الغنى ، والسيئة الفقر . والمعنى : أن هؤلاء المنافقين إذا أصابتهم حسنة نسبوها إلى اللّه تعالى ، وأنها ليست باتباع الرسول ، ولا الإيمان به ، وإنّ تصبهم سيئة أضافوها إلى الرسول وقالوا : هي بسببه ، كما جاء في قوم موسى :{ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ } وفي قوم صالح :{ قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} وروى جماعة من المفسرين أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قدم المدينة قال اليهود والمنافقون : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه . {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ اللّه} أمر اللّه نبيه أن يخبرهم أنَّ كلاً من الحسنة والسيئة إنما هو من عند اللّه ، لا خالق ولا مخترع سوا ، فليس الأمر كما زعمتم ، فاللّه تعالى وحده هو النافع الضار ، وعن إرادته تصدر جميع الكائنات . {فَمَالِ هَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } هذا استفهام معناه التعجب من هذه المقالة ، وكيف ينسب ما هو من عند اللّه لغير اللّه ؟ أي أن هؤلاء كانوا ينبغي لهم أن يكونوا ممن يتفهم الأشياء ، ويتوقفون عما يريدون أن يقولوا حتى يعرضوه على عقولهم . وبالغ تعالى في قلة فهمهم وتعلقهم ، حتى نفى مقاربه الفقه ، ونفى المقاربة أبلغ من نفي الفعل . وهذا النوع من الاستفهام يتضمن إنكار ما استفهم عن علته ، وأنه ينبغي أن يوجد مقابله . فإذا قيل : ما لك قائماً ، فهو إنكار للقيام ، ومتضمن أن يوجد مقابله . وإذا قيل : ما لك لا تقوم ، فهو إنكار لترك القيام ، ومتضمن أن يوجد مقابله . قيل في قوله : حديثاً ، أي القرآن لو تدبروه لبصرهم في الدين ، وأورثهم اليقين . وقال ابن بحر : لامهم على ترك التفقه فيما أعلمهم به وأدبهم في كتابه . ووقف أبو عمرو والكسائي على قوله : فما ، ووقف الباقون على اللام في قوله : فمال ، اتباعاً للخط . ولا ينبغي تعمد ذلك ، لأن الوقف على فما فيه قطع عن الخبر ، وعلى اللام فيه قطع عن المجرور دون حرف الجر ، وإنما يكون ذلك لضرورة انقطاع النفس . |
﴿ ٧٨ ﴾