٩١

ستجدون آخرين يريدون . . . . .

{سَتَجِدُونَ ءاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا } لمّا ذكر صفة المحقين في المتاركة ، المجدّين في إلقاء السلم ، نبّه على طائفة أخرى مخادعة يريدون الإقامة في مواضعهم مع أهليهم يقولون لهم : نحن معكم وعلى دينكم ، ويقولون للمسلمين كذلك إذا وجدوا . قيل : كانت أسد وغطفان بهذه الصفة فنزلت فيهم ، قاله : مقاتل .

وقيل : نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي كان ينقل بين النبي صلى اللّه عليه وسلم الأخبار قاله : السدي .

وقيل : في قوم يجيئون من مكة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم رياء ويظهرون الإسلام ثم يرجعون إلى قريش يكفرون ، ففضحهم اللّه تعالى ، وأعلم أنهم ليسوا على صفة من تقدّم قاله : مجاهد .

وقيل : إنهم من أهل تهامة قاله : قتادة .

وقيل : إنهم من المنافقين قاله : الحسن .

والظاهر من قوله : ستجدون آخرين ، أنهم قوم غير المستثنين في قوله :{ إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ} وذهب قوم : إلى أنها بمنزلة الآية الأولى ، والقوم الذين نزلت فيهم هم الذين نزلت فيهم الأولى ، وجاءت مؤكدة لمعنى الأولى مقررة لها . والسين في ستجدون ليست للاستقبال قالوا : إنما هي دالة

على استمرارهم على ذلك الفعل في الزمن المستقبل كقوله : { سَيَقُولُ السُّفَهَاء } وما نزلت إلا بعد قوله :{ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ } فدخلت السين إشعاراً بالاستمرار انتهى . ولا تحرير في قولهم : إن السين ليست للاستقبال وإنما تشعر بالاستمرار ، بل السين للاستقبال ، لكنْ ليس في ابتداء الفعل ، لكن في استمراره أن يأمنوكم أي : يأمنوا أذاكم ويأمنوا أذى قومهم . والفتنة هنا : المحنة في إظهار الكفر . ومعنى أركسوا فيها رجعوا أقبح رجوع وأشنعه ، وكانوا شراً فيها من كل عدو .

وحكى أنهم كانوا يرجعون إلى قومهم فيقال لأحدهم : قل ربي الخنفساء ، وربي القردة ، وربي العقرب ، ونحوه فيقولها .

وقرأ ابن وثاب والأعمش : ردّوا بكسر الراء ، لما أدغم نقل الكسرة إلى الراء .

وقرأ عبد اللّه : ركسوا بضم الراء من غير ألف مخففاً . وقال ابن جني عنه : بشدّ الكاف .

{فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ } أمر تعالى بقتل هؤلاء في أي مكان ظفر بهم ، على تقدير انتفاء الاعتزال وإلقاء السلم ، وكف الأيدي . ومفهوم الشرط يدل على أنه إذا وجهوا الاعتزال وإلقاء السلم وكف الأيدي ، لم يؤخذوا ولم يقتلوا .

قال ابن عطية : وهذه الآية حضّ على قتل هؤلاء المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم إلى حال الآخرين المعتزلين الملقين للسلم . وتأمل فصاحة الكلام في أنْ ساقه في الصيغة المتقدّمة قبل هذه سياق إيجاب الاعتزال ، وإيجاب إلقاء السلم ، ونفى المقاتلة ، إذ كانوا محقين في ذلك معتقدين له . وسياقه في هذه الصيغة المتأخرة سياق نفى الاعتزال ، ونفى إلقاء السلم ، إذ كانوا مبطلين فيه مخادعين ، والحكم سواء على السياقين . لأن الذين لم يجعل عليهم سبيلاً لو لم يعتزلوا ، لكان حكمهم ، حكم هؤلاء الذين جعل عليهم السلطان المبين . وكذلك هؤلاء الذين عليهم السلطان إذا لم يعتزلوا ، لو اعتزلوا كان حكمهم حكم الذين لا سبيل عليهم ، ولكنهم بهذه العبارة تحت القتل إن لم يعتزلوا انتهى كلامه . وهو حسن . ولما كان أمر الفرقة الأولى أخف ، رتّب تعالى انتفاء جعل السبيل عليهم على تقدير سببين : وجود الاعتزال ، وإلقاء السلم . ولما كان أمر هذه الفرقة المخادعة أشدّ ، رتب أخذهم وقتلهم على وجود ثلاثة أشياء : نفي الاعتزال ، ونفي إلقاء السلم ، ونفي كف الأذى . كل ذلك على سبيل التوكيد في حقهم والتشديد .

{وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } أي على أخذهم وقتلهم حجة واضحة ، وذلك لظهور عداوتهم ، وانكشاف حالهم في الكفر والغدر ، وإضرارهم بأهل الإسلام ، أو حجة ظاهرة حيث أذنا لكم في قتلهم . قال عكرمة : حيثما وقع السلطان في كتاب اللّه فالمراد به الحجة .

﴿ ٩١