١١٩

ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم . . . . .

{وَلاَضِلَّنَّهُمْ وَلامَنّيَنَّهُمْ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الاْنْعَامِ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ اللّه} هذه خمسة أقسم إبليس عليها :

أحدها : اتخاذ نصيب من عباد اللّه وهو اختياره إياهم .

والثاني : إضلالهم وهو صرفهم عن

الهداية وأسبابها . و

الثالث : تمنيته لهم وهو التسويل ، ولا ينحصر في نوع واحد ، لأنه يمني كل إنسان بما يناسب حاله من طول عمر وبلوغ وطر وغير ذلك ، وهي كلها أماني كواذب باطلة .

وقيل : الأماني تأخير التوبة .

وقيل : هي اعتقاد أن لا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا حساب .

وقال الزمخشري : ولأمنينهم الأماني الباطلة من طول الأعمار ، وبلوغ الآمال ، ورحمة اللّه تعالى للمجرمين بغير توبة ، والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة ، ونحو ذلك انتهى . وهذا على منزعه الاعتزالي وولوعه بتفسير كتاب اللّه عليه من غير إشعار لفظ القرآن بما يقوله وينحله . و

الرابع : أمره إياهم الناشىء عنه تبتيك آذان الأنعام ، وهو فعلهم بالبحائر كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن . وجاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها قاله : عكرمة ، وقتادة ، والسدي .

وقيل : فيه إشارة إلى كل ما جعله اللّه كاملاً بفطرته ، فجعل الإنسان ناقصاً بسوء تدبيره . والخامس أمره إياهم الناشىء عنه تغيير خلق اللّه تعالى .

قال ابن عباس ، وابراهيم ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم . أراد تغيير دين اللّه ، ذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله : { فِطْرَةَ اللّه الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه}

أي لدين اللّه . والتبديل يقع موقعه التغيير ، وإن كان التغيير أعم منه . ولفظ لا تبديل لخلق اللّه خبر ، ومعناه : النهي . وقالت فرقة منهم الزجاج : هو جعل الكفار آلهة لهم ما خلق للاعتبار به من الشمس والنار والحجارة ، وغير ذلك مما عبدوه . وقال ابن مسعود ، والحسن : هو الوشم وما جرى مجراه من التصنع للتحسين ، فمن ذلك الحديث في : { لعن الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات المغيرات خلق اللّه ولعن الواصلة والمستوصلة } انتهى .

وقال ابن عباس أيضاً وأنس ، وعكرمة ، وأبو صالح ، ومجاهد ، وقتادة أيضاً : هو الخصاء ، وهو في بني آدم محظور . وكره أنس خصاء الغنم ، وقد رخص جماعة فيه لمنفعة السمن في المأكول ، ورخص عمر بن عبد العزيز في خصاء الخيل .

وقيل للحسن : إن عكرمة قال ؛ هو الخصاء قال : كذب عكرمة ، هو دين اللّه تعالى .

وقيل : التخنت .

وقال الزمخشري : هو فقء عين الحامي وإعفاؤه عن الركوب انتهى . وناسب هذا أنه ذكر أثر ذلك تبتيك آذان الأنعام ، فناسب أن يكون التغيير هذا .

وقيل : تغيير خلق اللّه هو أنَّ كل ما يوجده اللّه لفضيلة فاستعان به في رذيلة فقد غير خلقه . وقد دخل في عمومه ما جعله اللّه تعالى للإنسان من شهوة الجماع ليكون سبباً للتناسل على وجه مخصوص ، فاستعان به في السفاح واللواط ، فذلك تغيير خلق اللّه . وكذلك المخنث إذا نتف لحيته ، وتقنع تشبهاً بالنساء ، والفتاة إذا ترجلت متشبهة بالفتيان . وكل ما حللّه اللّه فحرموه ، أو حرمه تعالى فحللوه . وعلى ذلك : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ اللّه لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً } وإلى هذه الجملة أشار المفسرون ، ولهذا قالوا : هو تغيير أحكام اللّه .

وقيل : هو تغيير الإنسان بالاستلحاق أو النفي .

وقيل : خضاب الشيب بالسواد .

وقيل : معاقبة الولاة بعض الجناة بقطع الآذان ، وشق المناخر ، وسمل العيون ، وقطع الأنثيين . ومن فسر بالوشم أو الخصاء أو غير ذلك مما خو خاص في التغيير ، فإنما ذلك على جهة التمثيل لا الحصر . وفي حديث عياض المجاشعي :{ وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإن الشياطين ألهتهم وأحالتهم عن دينهم ، فحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ، وأمرتهم أن لا يغيروا خلقي} .

ومفعول أمر الثاني محذوف أي : ولآمرنهم بالتبتيك فيبتكن ، ولآمرنهم بالتغير فليغيرن . وحذف لدلالة ما بعده عليه .

وقرأ أبو عمرو : ولآمرنهم بغير ألف ، كذا قاله ابن عطية .

وقرأ أبي : وأضلنهم وأمنينهم وآمرنهم انتهى . فتكون جملاً مقولة ، لا مقسماً عليها . وجاء ترتيب هذه الجمل المقسم عليها في غاية من الفصاحة ، بدأ أولاً باستخلاص الشيطان نصيباً منهم واصطفائه إياهم ، ثم ثانياً بإضلالهم وهو عبارة عما يحصل في عقائدهم من الكفر ، ثم ثالثاً بتمنيتهم الأماني الكواذب والإطماعات الفارغة ، ثم رابعاً بتبتيك آذان الأنعام ، هو حكم لم يأذن اللّه فيه ، ثم خامساً بتغيير خلق اللّه وهو شامل للتبتيك وغيره من الأحكام التي شرعها لهم . وإنما بدأ بالأمر بالتبتيك وإن كان مندرجاً تحت عموم التغيير ، ليكون ذلك استدراجاً لما يكون بعده من التغيير العام ، واستيضاحاً من إبليس طواعينهم في أول شيء يلقيه إليهم ، فيعلم بذلك قبولهم له . فإذا قبلوا ذلك أمرهم بجميع التغييرات التي يريدها منهم ، كما يفعل الإنسان بمن يقصد خداعه : يأمره أولاً بشيء سهل ، فإذا رآه قد قبل ما ألقاه إليه من ذلك أمره بجميع ما يريد منه . وإقسام إبليس على هذه الأشياء ليفعلنها علم ذلك ، وأنها تقع إمّا لقوله تعالى .{ لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } أو لكونه علم ذلك من جهة الملائكة ، أو لكونه لما استنزل آدم علم أن ذريته أضعف منه .

{وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مّن دُونِ اللّه فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } أي من يؤثر حظ الشيطان على حظه من اللّه . وكأنه لما قال إبليس : لأتخذن من عبادك نصيباً ، فذكر أنه يصطفيهم لنفسه ، أخبر أنهم قبلوا ذلك الاتخاذ وانفعلوا له ، فاتخذوه ولياً من دون اللّه . والوليّ هنا قال مقاتل : بمعنى الرب . وقال أبو سليمان لدمشقي : من الموالاة ، ورتب على هذا الاتخاذ الخسران المبين ، لأن من ترك حظه من اللّه لحظ الشيطان فقد خسرت صفقته . وقوله : من دون اللّه ، قيد لازم . لأنه لا يمكن أن يتخذ الشيطان ولياً إلا إذا لم يتخذ اللّه ولياً ، ولا يمكن أن يتخذ الشيطان ولياً ويتخذ اللّه ولياً ، لأنهما طريقان متباينان ، لا يجتمعان هدى وضلالة . وهذه الجملة الشرطية محذرة من اتباع الشيطان .

﴿ ١١٩