١٥٧وقولهم إنا قتلنا . . . . . {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّه} الظاهر أن رسول اللّه من قولهم قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء ، كقول فرعون أن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وقوله :{ إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } ويجوز أن يكون من كلام اللّه تعالى وضع الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنه رفعاً لعيسى عليه السلام ، كما كانوا يذكرونه به . ذكر الوجهين الزمخشري ، ولم يذكر ابن عطية سوى الثاني قال : هو إخبار من اللّه تعالى بصفة عيسى عليه السلام ، وهي الرسالة على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل ولزمهم الذنب ، وهم لم يقتلوا عيسى ، لأنهم صلبوا ذلك الشخص على أنه عيسى ، وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول . ولكن لزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أنّ قتلهم وقع في عيسى ، فكأنهم قتلوه ، وليس يدفع الذنب عنهم اعتقادهم أنه غير رسول . {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبّهَ لَهُمْ } هذا إخبار منه تعالى بأنهم ما قتلوا عيسى وما صلبوه . واختلف الرواة في كيفية القتل والصلب ، ولم يثبت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك شيء غير ما دل عليه القرآن . ومنتهى ما آل إليه أمر عيسى عليه السلام أنه طلبته اليهود فاختفى هو والحواريون في بيت ، فدلوا عليه وحضروا ليلاً وهم ثلاثة عشر ، أو ثمانية عشر ، ففرقهم تلك الليلة ووجههم إلى الآفاق ، وبقي هو ورجل معه ، فرفع عيسى ، وألقى شبهه على الرجل فصلب . وقيل : هو اليهودي الذي دل عليه . وقيل : قال لأصحابه : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل ويخلص هؤلاء ، وهو رفيقي في الجنة ؟ فقال سرجس : أنا ، فألقي عليه شبه عيسى . وقيل : ألقي شبهه على الجميع ، فلما أخرجوا نقص واحد من العدّة ، فأخذوا واحداً ممن عليه الشبه فصلب . وروي أنّ الملك والمتناولين لم يخف عليهم أمر عيسى لما رأوه من نقصان العدة واختلاط الأمر ، فصلب ذلك الشخص ، وأبعد الناس عن خشبته أياماً حتى تغير ، ولم تثبت له صفة ، وحينئذ دنا الناس منه ، ومضى الحواريون يتحدثون في الآفاق أن عيسى صلب . وقيل : لم يلق شبهه على أحد ، وإنما معنى : ولكن شبه لهم ، أي شبه عليهم الملك المخرق ليستديم بما نقص واحد من العدة ، وكان بادر بصلب واحد وأبعد الناس عنه ، وقال : هذا عيسى ، وهذا القول هو الذي ينبغي أن يعتقد في قوله : ولكن شبه لهم . أمّا أن يلقى شبهه على شخص ، فلم يصح ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيعتمد عليه . وقد اختلف فيمن ألقي عليه الشبه اختلافاً كثيراً . فقيل : اليهودي الذي دل عليه . وقيل : خليفة قيصر الذي كان محبوساً عنده . وقيل : واحد من اليهود . وقيل : دخل ليقتله . وقيل : رقيب وكلته به اليهود . وقيل : ألقى الشبه على كل الحواريين . وقيل : ألقى الشبه على الوجه دون البدن ، وهذا الوثوق مما يدفع الوثوق بشيء من ذلك . ولهذا قال بعضهم : إن جاز أن يقال : إنّ اللّه تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر ، فهذا يفتح باب السفسطة . وقيل : سبب اجتماع اليهود على قتله هو أنّ رهطاً منهم سبوه وسبوا أمّه فدعا عليهم : { اللّهم أنت ربي ، وبكلمتك خلقتني ، اللّهم العن من سبني وسب والدتي } فمسخ اللّه من سبهما قردة وخنازير ، فاجتمعت اليهود على قتله . وشبه مسند إلى الجار والمجرور كقوله : خيل إليه ، ولكن وقع لهم التشبيه . ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول الدال عليه : إنا قتلنا أي : ولكن شبه لهم من قتلوه . ولا يجوز أن يكون ضمير المسيح ، لأن المسيح مشبه به لا مشبه . {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكّ مّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنّ } اختلف فيه اليهود فقال بعضهم : لم يقتل ولم يصلب ، الوجه وجه عيسى ، والجسد جسد غيره . وقيل : أدخلوا عليه واحداً ليقتله ، فألقى الشبه عليه فصلب ، ونقص من العدد واحد . وكانوا علموا عدد الحواريين فقالوا : إنْ كان المصلوب صاحبنا فأين عيسى ؟ وإن كان عيسى فأين صاحبنا ؟ وقيل : قال العوامّ : قتلنا عيسى ، وقال من عاين : رفعه إلى السماء ما قتل ولا صلب . قال ابن عطية : واليقين الذي صح فيه نقل الكافة عن حواسها هو أنّ شخصاً صلب ، وهل هو عيسى أم لا ؟ فليس هو من علم الحواس ، فلذلك لم يقع في ذلك نقل كافة . والضمير في فيه عائد على القتل معناه : في قتله ، وهذا هو الظاهر الذي يدل عليه ما قبله وما بعده . وقيل : الضمير في اختلفوا عائد على اليهود أيضاً ، واختلافهم فيه قول بعضهم : إنه آلة . وقول بعضهم : إنه ابن اللّه تعالى . وقيل : اختلافهم فيه أن النسطورية قالوا : وقع الصلب على ناسوته دون لاهوته . وقيل : وقع القتل والصلب عليهما . وقيل : عائد على اليهود والنصارى ، فإن اليهود قالوا : هو ابن زنا . وقالت النصارى : هو ابن اللّه . وقيل : اختلافهم من جهة أن النصارى قالوا : إن اليهود قتلته وصلبته ، واليهود الذين عاينوا رفعه قالوا : رفع إلى السماء . والجمهور على أنّ إلا اتباع الظنّ استثناء منقطع ، لأن اتباع الظنّ ليس من جنس العلم . أي : ولكنّ اتباع الظنّ لهم . وقال الزمخشري : يعني ولكنهم يتبعون الظنّ ، وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب . و قال ابن عطية : هو استثناء متصل ، إذ الظنّ والعلم يضمهما أنهما من معتقدات اليقين . وقد يقول الظان على طريق التجوّز : علمي في هذا الأمر أنه كذا ، وهو يعني ظنه انتهى . وليس كما ذكر ، لأنّ الظنّ ليس من معتقدات اليقين ، لأنه ترجيح أحد الجائزين ، وما كان ترجيحاً فهو ينافي اليقين ، كما أن اليقين ينافي ترجيح أحد الجائزين . وعلى تقدير أنّ الظنّ والعلم يضمهما ما ذكر ، فلا يكون أيضاً استثناء متصلاً ، لأنه لم يستثني الظنّ من العلم . فليست التلاوة ما لهم به من علم إلا الظنّ ، وإنما التلاوة إلا اتباع الظنّ ، والاتباع للظنّ لا يضمه والعلم جنس ما ذكر . وقال الزمخشري . فإن قلت : لم وصفوا بالشك والشك أنّ لا يترجح أحد الجائزين ؟ ثم وصفوا بالظنّ والظنّ أن يترجح أحدهما ، فكيف يكونون شاكين ظانين ؟ قلت : أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط ، ولكن لاحت لهم أمارة فظنوا انتهى . وهو جواب سؤاله ، ولكن يقال : لا يرد هذا السؤال لأنّ العرب تطلق الشك على ما لم يقع فيه القطع ، واليقين فيدخل فيه كلما يتردّد فيه ، إما على السواء بلا ترجيح ، أو بترجيح أحد الطرفين . وإذا كان كذلك اندفع السؤال . {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } قال ابن عباس والسدي وجماعة : الضمير في قتلوه عائد على الظن . تقول : قتلت هذا الأمر علماً إذا قطعت به وجزمت الجزم الذي لا يخالجه شيء . فالمعنى : وما صح ظنهم عندهم وما تحققوه يقيناً ، ولا قطعوا الظن باليقين . وقال الفراء وابن قتيبة ؛ الضمير عائد على العلم أي : ما قتلوا العلم يقيناً . يقال : قتلت العلم والرأي يقيناً ، وقتلته علماً ، لأن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء ، فكأنه قيل : لم يكن علمهم بقتل المسيح علماً أحيط به ، إنما كان ظناً . قال الزمخشري : وفيه تهكم ، لأنه إذا نفى عنهم العلم نفياً كلياً بحرف الاستغراق ثم قيل : وما علموه علم يقين ، وإحاطة لم يكن إلا تهكما ً انتهى . والظاهر قول الجمهور : إن الضمير يعود على عيسى بجعل الضمائر كلها كشيء واحد ، فلا تختلف . والمعنى صحيح بليغ ، وانتصاب يقيناً على أنه مصدر في موضع الحال من فاعل قتلوه أي : متيقنين أنه عيسى كما ادعوا ذلك في قولهم : إنا قتلنا المسيح قاله : السدي . أو نعت لمصدر محذوف أي : قتلاً يقيناً جوزه الزمخشري . وقال الحسن : وم قتلوه حقاً انتهى . فانتصابه على أنه مؤكد لمضمون الجملة المنفية كقولك : وما قتلوه حقاً أي : حق انتفاء قتله حقاً . وما حكي عن ابن الأنباري أنه في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وإن يقيناً منصوب برفعه اللّه أيه ، والمعنى : بل رفعه اللّه إليه يقيناً ، فلعله لا يصح عنه . وقد نص الخليل على أن ذلك خطأ ، لأنه لا يعمل ما بعد بل في ما قبلها . |
﴿ ١٥٧ ﴾