١٥٩

وإن من أهل . . . . .

{وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } إنْ هنا نافية ، والمخبر عنه محذوف قامت صفته مقامه ، التقدير : وما أحد من أهل الكتاب . كما حذف في قوله :{ وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } والمعنى : وما من اليهود . وقوله :{ وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } أي : وما أحد منا إلا له مقام ، وما أحد منكم إلا واردها . قال الزجاج : وحذف أحد لأنه

مطلوب في كل نفي يدخله الاستثناء نحو : ما قام إلا زيد ، معناه ما قام أحد إلا زيد .

وقال الزمخشري : ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره : وإنْ من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به ونحوه : وما منا إلا له مقام معلوم ، وإن منكم إلا واردها . والمعنى : وما من اليهود أحد إلا ليؤمنن به انتهى .

وهو غلط فاحش إذ زعم أنّ ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف إلى آخره ، وصفة أحد المحذوف إنما هو الجار والمجرور وهو من أهل الكتاب ، والتقدير كما ذكرناه : وإن أحد من أهل الكتاب .

وأما قوله : ليؤمنن به ، فليست صفة لموصوف ، ولا هي جملة قسمية كما زعم ، إنما هي جملة جواب القسم ، والقسم محذوف ، والقسم وجوابه في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو أحد المحذوف ، إذ لا ينتظم من أحد . والمجرور إسناد لأنه لا يفيد ، وإنما ينتظم الإسناد بالجملة القسمية وجوابها ، فذلك هو محط الفائدة وكذلك أيضاً الخبر هو إلا له مقام ، وكذلك إلا واردها ، إذ لا ينتظم مما قبل إلا تركيب إسنادي . والظاهر أن الضميرين في : به ، وموته ، عائدان أنّ على عيسى وهو سياق الكلام ، والمعنى : من أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله .

روي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان ، فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به ، حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام قاله : ابن عباس ، والحسن ، وأبو مالك .

وقال ابن عباس أيضاً وعكرمة ، والضحاك ، والحسن ، أيضاً ومجاهد ، وغيرهم : الضمير في به لعيسى ، وفي موته لكتابي وقالوا : وليس يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ويعلم أنه نبي ، ولكن عند المعاينة للموت فهو إيمان لا ينفعه كما لم ينفع فرعون إيمانه وقت المعاينة . وبدأ بما يشبه هذا لقول الزمخشري . قال : والمعنى ما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى ، وبأنه عبد اللّه ورسوله ؟ يعني : إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف . ثم حكى عن شهر بن حوشب والحجاج حكاية فيها طول يمس بالتفسير منها : إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا : يا عدوّ اللّه أتاك عيسى نبياً فكذبت به ، فيقول : آمنت أنه نبي . وتقول للنصراني : أتاك عيسى نبياً فزعمت أنه اللّهأو ابن اللّه ، فيقول : أمنت أنه عبد اللّه ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه .

وعن ابن عباس أنه فسره كذلك فقال له عكرمة : فإن أتاه رجل فضرب عنقه ؟ قال : لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه . قال : وإن خرجت فوق بيت ، أو احترق ، أو أكله سبع ؟ قال : يتكلم بها في الهوى ، ولا تخرج روحه حتى يؤمن به . ويدل عليه قراءة أُبيّ : إلا ليؤمنن به قبل موتهم ، بضم النون على معنى : وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم ، لأن أحداً يصلح للجمع .

فإن قلت : فما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم ؟

قلت : فائدته الوعيد ، وليكن علمهم بأنهم لا بد لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة ، وأن ذلك لا ينفعهم بعثاً لهم وتنبيهاً على معالجة الإيمان به في أوان الانتفاع به ، وليكون إلزاماً للحجة لهم . وكذلك قوله .

{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } يشهد على اليهود بأنهم كذبوه ، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن اللّه انتهى كلامه . وقال أيضاً : ويجوز أنْ يريد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به ، على أنّ اللّه يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ويعلمهم نزوله وما نزل له ، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم انتهى . وقال عكرمة : الضمير في به لمحمد عليه الصلاة والسلام ، وفي موته للكتابي . قال : وليس يخرج يهودي ولا نصراني من الدنيا حتى يؤمن بمحمد ، ولو غرق أو سقط عليه

جدار فإنه يؤمن في ذلك الوقت .

وقيل : يعود في به على اللّه ، وفي موته على أحد المقدّر . قال ابن زيد : إذا نزل عيسى عليه السلام لقتل الدجال ، لم يبق يهودي ولا نصراني إلا آمن باللّه حين يرون قتل الدجال ، وتصير الأمم كلها واحدة على ملة الإسلام ، ويعزى هذا القول أيضاً إلى ابن عباس ، والحسن ، وقتادة .

وقال العباس بن غزوان : وإنّ من أهل الكتاب بتشديد النون ، وهي قراءة عسرة التخريج ، ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً أي : شهيداً على أهل الكتاب على اليهود بتكذيبهم إياه وطعنهم فيه ، وعلى النصارى بجعلهم إياه آلهاً مع اللّهأو ابناً له ، والضمير في يكون لعيسى . وقال عكرمة : لمحمد صلى اللّه عليه وسلم.

قيل : وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبديع . فمنها التجنيس المغاير في : يخادعون وخادعهم ، وشكرتم وشاكراً . والمماثل في : وإذا قاموا . والتكرار في : اسم اللّه ، وفي : هؤلاء وهؤلاء ، وفي : ويرون ويريدون ، وفي : الكافرين والكافرين ، وفي : أهل الكتاب وكتاباً ، وفي : بميثاقهم وميثاقاً . والطباق في : الكافرين والمؤمنين ، وفي : إن تبدوا أو تخفوه ، وفي : نؤمن ونكفر ، والاختصاص في : إلى الصلاة ، وفي : الدرك الأسفل ، وفي : الجهر بالسوء . والإشارة في مواضع . الاستعارة في : يخادعون اللّه وهو خادعهم استعار اسم الخداع للمجازاة وفي : سبيلاً ، وفي سلطاناً لقيام الحجة والدرك الأسفل لانخفاض طبقاتهم في النار ، واعتصموا للالتجاء ، وفي : أن يفرقوا ، وفي : ولم يفرّقوا وهو حقيقة في الأجسام استعير للمعاني ، وفي : سلطاناً استعير للحجة ، وفي : غلف وبل طبع اللّه . وزيادة الحرف لمعنى في : فبما نقضهم ، وإسناد الفعل إلى غير فاعله في : فأخذتهم الصاعقة وجاءتهم البينات وإلى الراضي به وفي : وقتلهم الأنبياء ، وفي : وقولهم على مريم بهتاناً وقولهم إنا قتلنا المسيح . وحسن النسق في : فبما نقضهم ميثاقهم والمعاطيف عليه حيث نسقت بالواو التي تدل على الجميع فقط . وبين هذه الأشياء أعصار متباعدة فشرك أوائلهم وأواخرهم لعمل أولئك ورضا هؤلاء . وإطلاق اسم كل على بعض وفي : كفرهم بآيات اللّه وهو القرآن والإنجيل ولم يكفروا بشيء من الكتب إلا بهما وفي قولهم إنا قتلنا ولم يقل ذلك إلا بعضهم . والتعريض في رسول اللّه إذا قلنا أنه من كلامهم . والتوجيه في غلف من احتمال المصدر جمع غلاف أو جمع أغلف . وعود الضمير على غير مذكور وهو في ليؤمنن به قبل موته على من جعلهما لغير عيسى . والنقل من صيغة فاعل إلى فعيل في شهيد . والحذف في مواضع .

﴿ ١٥٩