٥اليوم أحل لكم . . . . . {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ } فائدة إعادة ذكر إحلال الطيبات التنبيه بإتمام النعمة فيما يتعلق بالدنيا ، ومنها إحلال الطيبات كما نبه بقوله :{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى } على إتمام النعمة في كل ما يتعلق بالدين . ومن زعم أنّ اليوم واحد قال : كرره ثلاث مرات تأكيداً ، والظاهر أنها أوقات مختلفة . وقد قيل في الثلاثة : إنها أوقات أريد بها مجرد الوقت ، لا وقت معين . والظاهر أنّ الطيبات هنا هي الطيبات المذكورة قبل . {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } طعامهم هنا هي الذبائح كذا قال معظم أهل التفسير . قالوا : لأنّ ما كان من نوع البر والخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى ذكاة لا يختلف في حلها باختلاف حال أحد ، لأنها لا تحرم بوجه سواء كان المباشرة لها كتابياً ، أو مجوسياً ، أم غير ذلك . وأنها لا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة ، ولأن ما قبل هذا في بيان الصيد والذبائح فحمل هذه الآية على الذبائح أولى . وذهب قوم إلى أنّ المراد بقوله : وطعام ، جميع مطاعمهم . ويعزي إلى قوم ومنهم بعض أئمة الزيدية حمل الطعام هنا على ما لا يحتاج فيه إلى الذكاة كالخبز والفاكهة ، وبه قالت الإمامية . قال الشريف المرتضى : نكاح الكتابية حرام ، وذبائحهم وطعامهم وطعام من يقطع بكفره . وإذا حملنا الطعام على ما قاله الجمهور من الذبائح فقد اختلفوا فيما هو حرام عليهم ، أيحل لنا أم يحرم ؟ فذهب الجمهور إلى أنّ تذكية الذمي مؤثرة في كل الذبيحة ما حرم عليهم منها وما حل ، فيجوز لنا أكله . وذهب قوم إلى أنه لا تعمل الذكاة فيما حرم عليهم ، فلا يحل لنا أكله كالشحوم المحضة ، وهذا هو الظاهر لقوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب ، وهذا المحرم عليهم ليس من طعامهم . وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك . والظاهر حل طعامهم سواء سموا عليه اسم اللّه ، أم اسم غيره ، وبه قال : عطاء ، والقاسم بن بحصرة ، والشعبي ، وربيعة ، ومكحول ، والليث ، وذهب إلى أنّ الكتابي إذا لم يذكر اسم اللّه على الذبيحة وذكر غير اللّه لم تؤكل وبه قال : أبو الدرداء ، وعبادة بن الصامت ، وجماعة من الصحابة . وبه قال : أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، ومالك . وكره النخعي والثوري أكل ما ذبح وأهلّ به لغير اللّه . وظاهر قوله : { أوتوا الكتاب } أنه مختص ببني إسرائيل والنصارى الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل ، دون مَن دخل في دينهم من العرب أو العجم ، فلا تحل ذبائحهم لنا كنصارى بني تغلب وغيرهم . وقد نهى عن ذبائحهم عليّ رضي اللّه عنه ، وقال : لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر . وذهب الجمهور ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وابن المسيب ، والشعبي ، وعطاء ، وابن شهاب ، والحكم ، وقتادة ، وحماد ، ومالك ، وأبو حنيفة وأصحابه : أنه لا فرق بين بني إسرائيل والنصارى ومن تهوّد أو تنصر من العرب أو العجم في حل أكل ذبيحتهم . والظاهر أنّ ذبيحة المجوسي لا تحل لنا لأنهم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب . وما روي عن مالك أنه قال : هم أهل كتاب وبعث إليهم رسول يقال : رزادشت لا يصح . وقد أجاز قوم أكل ذبيحتهم مستدلين بقوله : { وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وقال ابن المسيب : إذا كان المسلم مريضاً فأمر المجوسي أن يذكر اللّه ويذبح فلا بأس . وقال أبو ثور : وإنْ أمر بذلك في الصحة فلا بأس . والظاهر أنّ ذبيحة الصابىء لا يجوز لنا أكلها ، لأنهم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب . وخالف أبو حنيفة فقال : حكمهم حكم أهل الكتاب . وقال صاحباه : هم صنفان ، صنف يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة ، وصنف لا يقرؤون كتاباً ويعبدون النجوم ، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب . {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } أي : ذبائحكم وهذه رخصة للمسلمين لا لأهل الكتاب . لما كان الأمر يقتضي أن شيئاً شرعت لنا فيه التذكية ، ينبغي لنا أن نحميه منهم ، فرخص لنا في ذلك رفعاً للمشقة بحسب التجاوز ، فلا علينا بأس أن نطعمهم ولو كان حراماً عليهم طعام المؤمنين ، لما ساغ للمؤمنين إطعامهم . وصار المعنى : أنه أحل لكم أكل طعامهم ، وأحل لكم أن تطعموهم من طعامكم ، والحل الحلال ويقال في الاتباع هذا حل بل . {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ } هذا معطوف على قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب . والمعنى : وأحل لكم نكاح المحصنات من المؤمنات . {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } والإحصان أن يكون بالإسلام وبالتزويج ، ويمتنعان هنا ، وبالحرية وبالعفة . فقال عمر بن الخطاب ، ومجاهد ، ومالك ، وجماعة : الإحصان هنا الحريّة ، فلا يجوز نكاح الأمة الكتابية . وقال جماعة : منهم مجاهد ، والشعبي ، وأبو ميسرة ، وسفيان ، الإحصان هنا العفة ، فيجوز نكاح الأمة الكتابية . ومنع بعض العلماء من نكاح غير العفيفة بهذا المفهوم الثاني . قال الحسن : إذا اطلع الإنسان من امرأته على فاحشة فليفارقها . وعن مجاهد : يحرم البغايا من المؤمنات ومن أهل الكتاب . وقال الشعبي إحصان اليهودية والنصرانية أن لا تزني ، وأن تغتسل من الجنابة . وقال عطاء : رخص في التزويج بالكتابية ، لأنه كان في المسلمات قلة ، فأما الآن ففيهنّ الكثرة ، فزالت الحاجة إليهن . والرخصة في تزويجهن ولا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار في إباحة نكاح الحرائر الكتابيات ، واتفق على ذلك الصحابة إلا شيئاً روي عن ابن عمر أنه سأله رجل عن ذلك فقال : اقرأ آية التحليل يشير إلى هذه الآية ، وآية التحريم يشير إلى { وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ } وقد تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن . وتزوج عثمان بن عفان رضي اللّه عنه نايلة بنت الفرافصة الكلبية على نسائه ، وتزوج طلحة بن عبد اللّه يهودية من الشام ، وتزوج حذيفة يهودية . { فإن قلت} : يكون ثم محذوف أي : والمحصنات اللاتي كن كتابيات فأسلمن ، ويكون قد وصفهن بأنهن من الذين أوتوا الكتاب باعتبار ما كن عليه كما قال : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّه} وقال :{ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} ثم قال بعد { يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاْخِرِ قلت} : إطلاق لفظ أهل الكتاب ينصرف إلى اليهود والنصارى دون المسلمين ودون سائر الكفار ، ولا يطلق على مسلم أنه من أهل الكتاب ، كما لا يطلق عليه يهودي ولا نصراني . فأما الآيتان فأطلق الاسم مقيداً بذكر الإيمان فيهما ، ولا يوجد مطلقاً في القرآن بغير تقييد ، إلا والمراد بهم اليهود والنصارى . وأيضاً فإنه قال : والمحصنات من المؤمنات ، فانتظم ذلك سائر المؤمنات ممن كن مشركات أو كتابيات ، فوجب أن يحمل قوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، على الكتابيات اللاتي لم يسلمن وإلاّ زالت فائدته ، إذ قد اندرجن في قوله : والمحصنات من المؤمنات . وأيضاً فمعلوم من قوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } أنه لم يرد به طعام المؤمنين الذين كانوا من أهل الكتاب ، بل المراد اليهود والنصارى ، فكذلك هذه الآية . {فإن قيل} : يتعلق في تحريم الكتابيات بقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } { قيل} : هذا في الحربية إذا خرج زوجها مسلماً ، أو الحربي تخرج امرأته مسلمة : ألا ترى إلى قوله : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ } ولو سلمنا العموم لكان مخصوصاً بقوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، والظاهر جواز نكاح الحربية الكتابية لاندراجها في عموم . والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم . وخص ابن عباس هذا العموم بالذمية ، فأجاز نكاح الذمية دون الحربية ، وتلا قوله تعالى :{ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } إلى قوله { وَهُمْ صَاغِرُونَ } ولم يفرق غيره من الصحابة من الحربيات والذميات . وأما نصارى بني تغلب فمنع نكاح نسائهن عليّ وابراهيم وجابر بن زيد ، وأجازه ابن عباس . {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ } أي مهورهن . وانتزع العلماء من هذا أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل لها من المهر ما يستحلها به ، ومن جوز أن يدخل دون بذل ذلك رأى أنه محكم الالتزام في حكم المؤتى . وفي ظاهر قوله : إذا آتيتموهن أجورهن ، دلالة على أنّ إماء الكتابيات لسن مندرجات في قوله : والمحصنات ، فيقوى أن يراد به الحرائر ، إذ الإماء لا يعطون أجورهن ، وإنما يعطي السيد . إلا أن يجوز فنجعل إعطاء السيد إعطاء لهن . وفيه دلالة أيضاً على أن أقل الصداق لا يتقدر ، إذ سماه أجراً ، والأجر في الإجارات لا يتقدر . {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ } تقدم تفسيره نظيره في النساء . {وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابن عباس : أنه تعالى لما أرخص في نكاح الكتابيات قلن بينهن : لولا أن اللّه رضي ديننا وقبل عملنا لم يبح للمؤمنين تزويجنا ، فنزلت . وقال مقاتل : فيما أحصن المسلمون من نكاح نساء أهل الكتاب يقول : ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر انتهى . ولما ذكر فرائض وأحكاماً يلزم القيام بها ، أنزل ما يقتضي الوعيد على مخالفتها ليحصل تأكيد الزجر عن تضييعها . وقال القفال : ما معناه ، لما حصلت لهم في الدنيا فضيلة مناكحة نسائهم ، وأكل ذبائحهم ، من الفرق في الآخرة بأنَّ من كفر حبط عمله انتهى . والكفر بالإيمان لا يتصور . فقال ابن عباس ، ومجاهد : أي : ومن يكفر باللّه . وحسن هذا المجاز أنه تعالى رب الإيمان وخالقه . وقال الكلبي : ومن يكفر بشهادة أن لا إله إلا اللّه ، جعل كلمة التوحيد إيماناً . وقال قتادة : إن ناساً من المسلمين قالوا : كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير ديننا ؟ فأنزل اللّه تعالى : ومن كفر بالإيمان ، أي بالمنزل في القرآن ، فسمي القرآن إيماناً لأنه المشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان . قال الزجاج : معناه من أحل ما حرم اللّه ، أو حرم ما أحل اللّه فهو كافر . وقال أبو سليمان الدمشقي : من جحد ما أنزله اللّه من شرائع الإسلام وعرفه من الحلال والحرام . وتبعه الزمخشري في هذا التفسير فقال : ومن يكفر بالإيمان أي : بشرائع الإسلام ، وما أحل اللّه وحرم . وقال ابن الجوزي : سمعت الحسن بن أبي بكر النيسابوري يقول : إنما أباح اللّه الكتابيات لأن بعض المسلمين قد يعجبه حسنهن ، فحذر نكاحهن من الميل إلى دينهن بقوله : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله . وقرأ ابن السميقع : حبط بفتح الباء وهو في الآخرة من الخاسرين حبوط عمله وخسرانه . في الآخرة مشروط بالموافاة على الكفر . |
﴿ ٥ ﴾