٦يا أيها الذين . . . . . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } نزلت في قصة عائشة رضي اللّه عنها حين فقدت العقد بسبب فقد الماء ومشروعية التيمم ، وكان الوضوء متعذراً عندهم ، وإنما جيء به للاستطراد منه إلى التيمم ، وذلك في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ، وفيها كان هبوب الريح وقول عبد اللّه بن أبي بن سلول : لئن رجعنا إلى المدينة وحديث الافك . وقال علقمة بن الفعواء وهو من الصحابة : إنها نزلت رخصة للرسول لأنه كان لا يعمل عملاً إلا على وضوء ، ولا يكلم أحداً ولا يرد سلاماً على غير ذلك ، فأعلمه اللّه أنّ الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما افتتح بالأمر بإيفاء العهود ، وذكر تحليلاً وتحريماً في المطعم والمنكح واستقصى ذلك ، وكان المطعم آكد من المنكح وقدمه عليه ، وكان النوعان من لذات الدنيا الجسمية ومهماتها للإنسان وهي معاملات دنيوية بين الناس بعضهم من بعض ، استطرد منها إلى المعاملات الأخروية التي هي بين العبد وربه سبحانه وتعالى ، ولما كان أفضل الطاعات بعد الإيمان الصلاة ، والصلاة لا تمكن إلا بالطهارة ، بدأ بالطهارة وشرائط الوضوء ، وذكر البدل عنه عند تعذر الماء . ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام ، جاءت العبارة : إذا قمتم أي : إذا أردتم القيام إلى فعل الصلاة . وعبر عن إرادة القيام بالقيام ، إذ القيام متسبب عن الإرادة ، كما عبروا عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم : الأعمى لا يبصر أي لا يقدر على الأبصار ، وقوله :{ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } أي قادرين على الإعادة . وقوله :{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ } أي إذا أردت قراءة القرآن لما كان الفعل متسبباً عن القدرة والإرادة أقيم المسبب مقام السبب . وقيل : معنى قمتم إلى الصلاة ، فصدتموها ، لأنّ من توجه إلى شيء وقام إليه كان قاصداً له ، فعبر عن القصد له بالقيام إليه . وظاهر الآية يدل على أنّ الوضوء واجب على كل من قام إلى الصلاة متطهراً كان أو محدثاً ، وقال به جماعة منهم : داود . وروى فعل ذلك عن عليّ وعكرمة . وقال ابن شيرين : كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة . وذهب الجمهور : إلى أنه لا بد في الآية من محذوف وتقديره : إذا قمتم إلى الصلاة محدثين ، لأنه لا يجب الوضوء إلا على المحدث ، ويدل على هذا المحذوف مقابلته بقوله :{ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ } وكأنه قيل : إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا هذه الأعضاء ، وامسحوا هذين العضوين . وإن كنتم محدثين الحدث الأكبر فاغسلوا جميع الجسد . وقال قوم منهم : السدي ، وزيد بن أسلم : إذا قمتم من المضاجع يعنون النوم . وقالوا : في الكلام تقديم وتأخير أي : إذا قمتم إلى الصلاة من النوم ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء أي الملامسة الصغرى فاغسلوا وجوهكم . وهذا التأويل ينزه حمل كتاب اللّه عليه ، وإنما ذكروا ذلك طلباً لأن يعم الإحداث بالذكر . وقال قوم : الخطاب خاص وإن كان بلفظ العموم ، وهو رخصة للرسول صلى اللّه عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق عليه ذلك ، فأمر بالسواك ، فرفع عنه الوضوء إلا من حدث . وقال قوم : الأمر بالوضوء لكل صلاة على سبيل الندب ، وكان كثير من الصحابة بفعله طلباً للفضل منهم : ابن عمر . وقال قوم : الوضوء عند كل صلاة كان فرضاً ونسخ . وقيل : فرضاً على الرسول خاصة ، فنسخ عنه عام الفتح . وقيل : فرضاً على الأمة فنسخ عنه وعنهم . ولا يجوز أن يكون : فاغسلوا ، أمر للمحدثين على الوجوب وللمتطهرين على الندب ، لأنّ تناول الكلام لمعنيين مختلفين من باب الألغاز والتعمية قاله الزمخشري . فاغسلوا وجوهكم ، الوجه : ما قابل الناظر وحده ، طولاً منابت الشعر فوق الجهة مع آخر الذقن . والظاهر أنّ اللحية ليست داخلة في غسل الوجه ، لأنها ليست منه . وكذلك الأذنان عرضاً من الأذن إلى الأذن . ومن رأى أن الغسل هو إيصال الماء مع إمرار شيء على المغسول أوجب الدلك ، وهو مذهب مالك ، والجمهور لا يوجبونه . والظاهر أن المضمضة والاستنشاق ليس مأموراً بهما في الآية في غسل الوجه ، ويرون ذلك سنة . وقال مجاهد : الاستنشاق شطر الوضوء . وقال عطاء ، والزهري ، وقتادة ، وحماد بن أبي سليمان ، وابن أبي ليلى ، وإسحاق : من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة . وقال أحمد : يعيد من ترك الاستنشاق ، ولا يعيد من ترك المضمضة : والإجماع على أنه لا يلزم غسل داخل العينين ، إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه . وأيديكم إلى المرافق ، اليد : في اللغة من أطراف الأصابع إلى المنكب ، وقد غيا الغسل إليها . واختلفوا في دخولها في الغسل ، فذهب الجمهور إلى وجوب دخولها ، وذهب زفر وداود إلى أنه لا يجب . وقال الزمخشري : إلى ، تفيد معنى الغاية مطلقاً ، ودخولها في الحكم وخروجها أمر يدور مع الدليل . ثم ذكر مثلاً مما دخل وخرج ثم قال : وقوله : { إِلَى الْمَرَافِقِ وَإِلَى الْكَعْبَينِ } لا دليل فيه على أحد الأمرين انتهى كلامه . وذكر أصحابنا أنه إذا لم يقترن بما بعد إلى قرينة دخول أو خروج فإنّ في ذلك خلافاً . منهم من ذهب إلى أنه داخل ، ومنهم من ذهب إلى أنه غير داخل ، وهو الصحيح وعليه أكثر المحققين : وذلك أنه إذا اقترنت به قرينة فإن الأكثر في كلامهم أن يكون غير داخل ، فإذا عرى من القرينة فيجب حمله على الأكثر . وأيضاً فإذا قلت : اشتريت المكان إلى الشجرة فما بعد إلى هو داخل الموضع الذي انتهى إليه المكان المشتري ، فلا يمكن أن تكون الشجرة من المكان المشتري ، لأن الشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء إلا أن يتجوز ، فيجعل ما قرب من الانتهاء انتهاء . فإذا لم يتصوّر أن يكون داخلاً إلا بمجاز ، وجب أن يحمل على أنه غير داخل ، لأنه لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة إلا أن يكون ثمّ قرينة مرجحة المجاز على الحقيقة . فقول الزمخشري : عند انتفاء قرينة الدخول أو الخروج ، لا دليل فيه على أحد الأمرين ، مخالف لنقل أصحابنا ، إذ ذكروا أنّ النحويين على مذهبين : أحدهما : الدخول ، والآخر : الخروج . وهو الذي صححوه . وعلى ما ذكره الزمخشري يتوقف ، ويكون من المحمل حتى يتضح ما يحمل عليه من خارج عن الكلام . وعلى ما ذكره أصحابنا يكون من المبين ، فلا يتوقف على شيء من خارج في بيانه . و قال ابن عطية : تحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال : إذا كان ما بعد إلى ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها ، فإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط بعطى أنّ الحد آخر المذكور بعدها ، ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل . فالرّوايتان محفوظتان عن مالك . روى أشهب عنه : أنهما غير داخلتين ، وروى غيره أنهما داخلتان انتهى . وهذا التقسيم ذكره عبد الدائم القيرواني فقال : إنْ لم يكن ما بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم . والظاهر أنّ الوضوء شرط في صحة الصلاة من هذه الآية ، لأنه أمر بالوضوء للصلاة ، فالآتي بها دونه تارك للمأمور ، وتارك المأمور يستحق العقاب . وأيضاً فقد بيّن أنه متى عدم الوضوء انتقل إلى التيمم ، فدل على اشتراطه عند القدرة عليه . والظاهر أنّ أول فروض الوضوء هو غسل الوجه ، وبه قال أبو حنيفة . وقال الجمهور : النية أولها . وقال أحمد وإسحاق : تجب التسمية في أول الوضوء ، فإن تركها عمداً بطل وضوءه . وقال بعضهم : يجب ترك الكلام على الوضوء ، والجمهور على أنه يستحب . والظاهر أنّ الواجب في هذه المأمور بها هو مرة واحدة . والظاهر وجوب تعميم الوجه بالغسل بدأت بغسل أي موضع منه . والظاهر وجوب غسل البياض الذي بين العذار والأذن ، وبه قال : أبو حنيفة ، ومحمد ، والشافعي . وقال أبو يوسف وغيره : لا يجب . والظاهر أنّ ما تحت اللحية الخفيفة لا يجب غسله ، وبه قال أبو حنيفة . وقال الشافعي : يجب وأنّ ما استرسل من الشعر تحت الذقن لا يجب غسله . وبه قال أبو حنيفة . وقال مالك والمزني : يجب . وعن الشافعي القولان . والظاهر أن قوله : وأيديكم ، لا ترتيب في غسل اليدين ، ولا في الرجلين ، بل تقديم اليمنى على اليسرى فيهما مندوب إليه من السنة . وقال أحمد : هو واجب . والظاهر أنّ التغيية بإلى تقتضي أن يكون انتهاء الغسل إلى ما بعدها ، ولا يجوز الابتداء من المرفق حتى يسيل الماء إلى الكف ، وبه قال بعض الفقهاء . وقال الجمهور : لا يخل ذلك بصحة الوضوء . والسنة أن يصبّ الماء من الكف بحيث يسيل منه إلى المرفق . {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ } هذا أمر بالمسح بالرأس ، واختلفوا في مدلول باء الجرّ هنا فقيل : إنها للإلصاق . وقال الزمخشري : المراد إلصاق المسح بالرأس ، وما مسح بعضه ومستوفيه بالمسح كلاهما ملصق المسح برأسه انتهى . وليس كما ذكر ، ليس ماسح بعضه يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه ، إنما يطلق عليه أنه ملصق المسح ببعضه . وأما أنْ يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه حقيقة فلا ، إنما يطلق عليه ذلك على سبيل المجاز ، وتسمية لبعض بكل . وقيل : الباء للتبعيض ، وكونها للتبعيض ينكره أكثر النحاة حتى قال بعضهم ، وقال من لا خبرة له بالعربية . الباء في مثل هذا للتبعيض وليس بشيء يعرفه أهل العلم . وقيل : الباء زائدة مؤكدة مثلها في قوله { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ }{ وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ }{ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } أي إلحاد أو جذع وأيديكم . وقال الفراء : تقول العرب هزه وهزّ به ، وخذ الخطام وبالخطام ، وحز رأسه وبرأسه ، ومده ومد به . وحكى سيبويه : خشنت صدره وبصدره ، ومسحت رأسه وبرأسه في معنى واحد ، وهذا نص في المسألة . وعلى هذه المفهومات ظهر الاختلاف بين العلماء في مسح الرأس ، فروي عن ابن عمر : أنه مسح اليافوخ فقط ، وعن سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه ، وعن إبراهيم والشعبي : أي نواحي رأسك مسحت أجزأك ، وعن الحسن : إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها . وأما فقهاء الأمصار فالمشهور من مذهب مالك : وجوب التعميم . والمشهور من مذهب الشافعي : وجوب أدنى ما ينطلق عليه اسم المسح ، ومشهور أبي حنيفة والشافعي : أن الأفضل استيعاب الجميع . ومن غريب ما نقل عمن استدل على أنّ بعض الرأس يكفي أن قوله تعالى : وامسحوا برؤسكم ، كقولك : مسحت بالمنديل يدي ، فكما أنه لا يدل هذا على تعميم جميع اليد بجزء من أجزاء المنديل فكذلك الآية ، فتكون الرأس والرجل آلتين لمسح تلك اليد ، ويكون الفرض إذ ذاك ليس مسح الرأس والأرجل ، بل الفرض مسح تلك اليد بالرأس والرجل ، ويكون في اليد فرضان : أحدهما : غسل جميعها إلى المرفق ، والآخر : مسح بللّها بالرأس والأرجل . وعلى من ذهب إلى التبعيض يلزم أن يكون التبعيض في قوله في قصة التيمم :{ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } أن يقتصر على مسح بعض الوجه وبعض اليد ، ولا قائل به . وعلى من جعل الباء آلة يلزم أيضاً ذلك ، ويلزم أن يكون المأمور به في التيمم هو مسح الصعيد بجزء من الوجه واليد . والظاهر أنّ الأمر بالغسل والمسح بقع الامتثال فيه بمرة واحدة ، وتثليث المعسول سنة . وقال أبو حنيفة ومالك : ليس بسنة . وقال الشافعي : بتثليث المسح . وروي عن أنس ، وابن جبير ، وعطاء مثله . وعن ابن سيرين : يمسح مرتين . والظاهر من الآية : أنه كيفما مسح أجزأه . واختلفوا في الأفضل ابتداء بالمقدم إلى القفا ، ثم إلى الوسط ، ثلاثة أقوال الثابت منها في السنة الصحيحة الأول ، وهو قول : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وجماعة من الصحابة والتابعين . والثاني : منها قول الحسن بن حي . و الثالث : عن ابن عمر . والظاهر أنّ رد اليدين على شعر الرأس ليس بفرض ، فتحقق المسح بدون الرد . وقال بعضهم : هو فرض . والظاهر أن المسح على العمامة لا يجزىء ، لأنه ليس مسحاً للرأس . وقال الأوزاعي ، والثوري ، وأحمد : يجزىء ، وأنّ المسح يجزىء ولو بأصبع واحدة . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : لا يجزىء بأقل من ثلاث أصابع . والظاهر أنه لو غسل رأسه لم يجزه ، لأن الغسل ليس هو المأمور به وهو قول : أبي العباس بن القاضي من الشافعية ، ويقتضيه مذهب الظاهرية . وقال ابن العربي : لا نعلم خلافاً في أنّ الغسل يجزيه من المسح إلا ما روى لنا الشاشي في الدرس عن ابن القاضي أنه لا يجزئه . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر ، وهي قراءة أنس ، وعكرمة ، والشعبي ، والباقر ، وقتادة ، وعلقمة ، والضحاك : وأرجلِكم بالخفض . والظاهر من هذه القراءة اندراج الأرجل في المسح مع الرأس . وروى وجوب مسح الرجلين عن : ابن عباس ، وأنس ، وعكرمة ، والشعبي ، وأبي جعفر الباقر ، وهو مذهب الإمامية من الشيعة . وقال جمهور الفقهاء : فرضهما الغسل . وقال داود : يجب الجمع بين المسح والغسل ، وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية . وقال الحسن البصري ، وابن جرير الطبري : يخير بين المسح والغسل ومن أوجب الغسل تأول أنّ الجر هو خفض على الجواز ، وهو تأويل ضعيف جداً ، ولم يرد إلا في النعت ، حيث لا يلبس على خلاف فيه قد قرر في علم العربية ، أو تأول على أنّ الأرجل مجرورة بفعل محذوف يتعدى بالباء أي : وافعلوا بأرجلكم الغسل ، وحذف الفعل وحرف الجرّ ، وهذا تأويل في غاية الضعف . أو تأول على أنّ الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة مظنة الإسراف المذموم المنهى عنه ، فعطف على الرابع الممسوح لا ليمسح ، ولكن لينبّه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها . وقيل : إلى الكعبين ، فجيء بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة ، لأنّ المسح لم يضرب له غاية انتهى هذا التأويل . وهو كما ترى في غاية التلفيق وتعمية في الأحكام . وروي عن أبي زيد : أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحاً ويقولون : تمسحت للصلاة بمعنى غسلت أعضائي . وقرأ نافع ، والكسائي ، وابن عامر ، وحفص : وأرجلكم بالنصب . واختلفوا في تخريج هذه القراءة ، فقيل : هو معطوف على قوله : وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين ، وفيه الفصل بين المتعاطفين بجملة ليست باعتراض ، بل هي منشئة حكماً . وقال أبو البقاء : هذا جائز بلا خلاف . وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : وقد ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، قال : وأقبح ما يكون ذلك بالجمل ، فدل قوله هذا على أنه ينزه كتاب اللّه عن هذا التخريج . وهذا تخريج من يرى أنّ فرض الرجلين هو الغسل ، وأما مَن يرى المسح فيجعله معطوفاً على موضع برؤوسكم ، ويجعل قراءة النصب كقراءة الجرِّ دالة على المسح . وقرأ الحسن : وأرجلكم بالرفع ، وهو مبتدأ محذوف الخبر أي : اغسلوها إلى الكعبين على تأويل من يغسل ، أو ممسوحة إلى الكعبين على تأويل من يمسح . وتقدم مدلول الكعب . قال ابن عطية : قول الجمهور هما حدّ الوضوء بإجماع فيما علمت ، ولا أعلم أحداً جعل حدّ الوضوء إلى العظم الذي في وجه القدم . وقال غيره : قالت الإمامية : وكل من ذهب إلى وجوب مسح الكعب هو الذي في وجه القدم ، فيكون المسح مغياً به . و قال ابن عطية : روى أشهب عن مالك : الكعبان هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب ، وليس الكعب بالظاهر الذي في وجه القدم ، ويظهر ذلك من الآية في قوله : في الأيدي إلى المرافق ، إذ في كل يد مرفق . ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب ، فلما كان في كل رجل كعبان خصتا بالذكر انتهى . ولا دليل في قوله في الآية على أن موالاة أفعال الوضوء ليست بشرط في صحته لقبول الآية التقسيم في قولك : متوالياً وغير متوال ، وهو مشهور مذهب أبي حنيفة ومالك ، وروي عن مالك والشافعي في القديم : أنها شرط . وعلى أن الترتيب في الأفعال ليس بشرط لعطفها بالواو وهو مذهب مالك وأبي حنيفة ، ومذهب الشافعي أنه شرط واستيفاء حجج . هذه المسائل مذكورة في الفقه ، ولم تتعرّض الآية للنص على الأذنين . فمذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري ، والأوزاعي ، ومالك فيما روى عنه أشهب وابن القاسم : أنهما من الرأس فيمسحان . وقال الزهري : هما من الوجه فيغسلان معه . وقال الشافعي : من الوجه هما عضو قائم بنفسه ، ليسا من الوجه ولا من الرأس ، ويمسحان بماء جديد . وقيل : ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر من الرأس ، وعلى هذه الأقوال تبنى فرضية المسح أو الغسل وسنية ذلك . {وإن كنتم جنباً فاطهروا } لما ذكر تعالى الطهارة الصغرى ذكر الطهارة الكبرى ، وتقدم مدلول الجنب في { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } والظاهر أنّ الجنب مأمور بالاغتسال . وقال عمر ، وابن مسعود : لا يتيمم الجنب البتة ، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء ، والجمهور على خلاف ذلك ، وأنه يتيمم ، وقد رجعا إلى ما عليه الجمهور . والظاهر أنّ الغسل والمسح والتطهر إنما تكون بالماء لقوله :{ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء } أي للوضوء والغسل فتيمموا صعيداً طيباً فدل على أنه لا واسطة بين الماء والصعيد ، وهو قول الجمهور . وذهب الأوزاعي والأصم : إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة . والظاهر أنّ الجنب لا يجب عليه غير التطهير من غير وضوء . ولا ترتيب في الأعضاء المغسولة ، ولا دلك ، ولا مضمضة ، ولا استنشاق ، بل الواجب تعميم جسده بوصول الماء إليه . وقال داود وأبو ثور : يجب تقديم الوضوء على الغسل . وقال إسحاق : تجب البداءة بأعلى البدن . وقال مالك : يجب الدلك ، وروى عنه محمد بن مروان الظاهري : أنه يجزئه الانغماس في الماء دون تدلك . وقال أبو حنيفة : وزفر ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والليث ، وأحمد : تجب المضمضة والاستنشاق فيه ، وزاد أحمد الوضوء . وقال النخعي : إذا كان شعره مفتولاً جدّاً يمنع من وصول الماء إلى جلدة الرأس لا يجب نقضه . وقرأ الجمهور : فاطّهروا بتشديد الطاء والهاء المفتوحتين ، وأصله : تطهروا ، فأدغم التاء في الطاء ، واجتلبت همزة الوصل . وقرىء : فاطْهروا بسكون الطاء ، والهاء مكسورة من أطهر رباعياً ، أي : فأطهروا أبدانكم ، والهمزة فيه للتعدية . {وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ } تقدّم تفسير هذه الجملة الشرطية وجوابها في النساء ، إلا أنّ في هذه الجملة زيادة منه وهي مرادة في تلك التي في النساء . وفي لفظه : منه دلالة على إيصال شيء من الصعيد إلى الوجه واليدين ، فلا يجوز التيمم بما لا يعلق باليد كالحجر والخشب والرمل العاري عن أن يعلق شيء منه باليد فيصل إلى الوجه ، وهذا مذهب الشافعي . وقال أبو حنيفة ، ومالك : إذا ضرب الأرض ولم يعلق بيده شيء من الغبار ومسح بها أجزأه . وظاهر الأمر بالتيمم للصعيد ، والأمر بالمسح ، أنه لو يممه غيره ، أو وقف في مهب ريح فسفت على وجهه ويديه وأمرّ يده عليه ، أو لم يمر ، أو ضرب ثوباً فارتفع منه غبار إلى وجهه ويديه ، أنّ ذلك لا يجزئه . وفي كل من المسائل الثلاث خلاف . {مَا يُرِيدُ اللّه لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ } أي من تضييق ، بل رخص لكم في تيمم الصعيد عند فقد الماء . والإرادة صفة ذات ، وجاءت بلفظ المضارع مراعاة للحوادث التي تظهر عنها ، فإنها تجيء مؤتنقة من نفي الحرج ، ووجود التطهير ، وإتمام النعمة . وتقدم الكلام على مثل اللام في ليجعل في قوله :{ يُرِيدُ اللّه لِيُبَيّنَ لَكُمْ } فأغنى عن إعادته . ومن زعم أنّ مفعول يريد محذوف تتعلق به اللام ، جعل زيادة من في الواجب للنفي الذي في صدر الكلام ، وإن لم يكن النفي واقعاً على فعل الحرج ، ويجري مجرى هذه الجملة ما جاء في الحديث { دين اللّه يسر وبعثت بالحنيفية السمحة } وجاء لفظ الدين بالعموم ، والمقصود به الذي ذكر بقرب وهو التيمم . {وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ } أي بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء . وفي الحديث : { التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج} . وقال الجمهور : المقصود بهذا التطهير إزالة النجاسة الحكمية الناشئة عن خروج الحدث . وقيل : المعنى ليطهركم من أدناس الخطايا بالوضوء والتيمم ، كما جاء في مسلم : { سقط : إذا تؤضأ العبد المسلم ، أو المؤمن فغسل وجهه ، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء} إلى آخر الحديث . وقيل : المعنى ليطهركم عن التمرّد عن الطاعة . وقرأ ابن المسيب : ليطهرْكم بإسكان الطاء وتخفيف الهاء . {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } أي وليتم برخصة العامة عليكم بعزائمه . وقيل : الكلام متعلق بما دل عليه أوّل السورة من إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح ، ثم قال بعد كيفية الوضوء : ويتم نعمته عليكم ، أي النعمة المذكورة ثانياً وهي نعمة الدين . وقيل : تبيين الشرائع وأحكامها ، فيكون مؤكداً لقوله :{ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى } وقيل : بغفران ذنوبهم . وفي الخبر :{ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي تشكرونه على تيسير دينه وتطهيركم وإتمام النعمة عليكم . |
﴿ ٦ ﴾