١٢٨

ويوم يحشرهم جميعا . . . . .

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } جميعاً{ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مّنَ الإنْسِ } الظاهر العموم في الثقلين لتقدم ذكر الشياطين وهم الجنّ والكفرة أولياؤهم والمؤمنون الذين { لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ } قال معناه الزمخشري وابن عطية ،

قال ابن عطية : ويدل عليه التأكيد العام بقوله :{ جَمِيعاً} وقال التبريزي : وهذا النداء يدل على أن الضمير في يحشرهم دخل فيه الجنّ حين حشرهم ثم ناداهم ، أما الثقلان فحسب أو هما وغيرهما من الخلائق ؛ انتهى . ومن جعل ويوم معطوفاً على { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ويوم نحشرهم فالعامل في الظرف وليهم وكان الضمير خاصاً بالمؤمنين وهو بعيد ، والأولى أن يكون الظرف معمولاً لفعل القول المحكى به النداء أي { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ نَّقُولُ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } وهو أولى مما أجاز بعضهم من نصبه باذكر مفعولاً به بخروجه عن الظرفية ومما أجاز الزمخشري من نصبه بفعل مضمر غير فعل القول واذكر تقديره عنده { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } وقلنا { كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } كان ما لا يوصف لفظاعته لاستلزامه حذف جملتين من الكلام جملة وقلنا وجملة العامل ، وقدر الزجاج فعل القول المحذوف مبنياً للمفعول التقدير فيقال لهم لأنه يبعد أن يكلمهم اللّه شفاها بدليل قوله { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّه } ونداؤهم نداء شهرة وتوبيخ على رؤوس الأشهاد والمعشر الجماعة ويجمع على المعاشر كما جاء نحن معاشر الأنبياء لا نورث . وقال الأفوه :

فينا معاشر لن يبنوا لقومهم

وإن بنى قومهم ما أفسدوا وعادوا

ومعنى الاستكثار هنا إضلالهم منهم كثيراً وجعلهم أتباعهم كما تقول : استكثر فلان من الجنود واستكثر فلان من الأشياع .

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : أفرطتم في إضلالهم وإغوائهم .

وقرأ حفص يحشرهم بالياء وباقي السبعة بالنون .

{وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا } وقال : أولياء الجن أي الكفار من الإنس { رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ } انتفع { بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } فانتفاع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى التوصلات إليها ، وانتفاع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم في إغوائهم روي هذا المعنى عن ابن عباس وبه قال محمد بن كعب والزجاج .

وقال ابن عباس أيضاً ومقاتل : استمتاع الإنس بالجن قول بعضهم : أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهله إذا بات بالوادي في سفره ، واستمتاع الجن بالإنس افتخارهم على قومهم وقولهم : قد سدنا الإنس حتى صاروا يعوذون بنا . قال الكرماني : كانوا يعتقدون أن الأرض مملوءة جناً وأن من لم يدخله جني في جواره خبله الآخرون ، وكذلك كانوا إذا قتلوا صيد استعاذوا بهم لأنهم يعتقدون أن هذه البهائم للجن منها مراكبهم .

وقيل : في كون عظامهم طعاماً للجن وأرواث دوايهم علفاً واستمتاع الإنس بالجن استعانتهم بهم على مقاصدهم حين يستخدمونهم بالعزائم ، أو يلقون إليهم بالمودة ؛ انتهى . ووجوه الاستمتاع كثيرة تدخل هذه الأقوال كلها تحتها فينبغي أن يعتقد في هذه الأقوال إنها تمثيل في الاستمتاع لا حصر في واحد منها ، وظاهر قوله :{ اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } أي بعض الإنس بالجن وبعض الجن بالإنس .

وقيل : المعنى استمتع بعض الإنس ببعضه وبعض الجن ببعضه ، جعل الاستمتاع لبعض الصنف لبعض والقول السابق بعض الصنفين ببعض الصنفين والأجل الذي بلغوه الموت قاله الجمهور وابن عباس والسدي وغيرهما .

وقيل : البعث والحشر ولم يذكر الزمخشري غيره .

وقيل : هو الغاية التي انتهى إليها جميعهم من الاستمتاع وهذا القول منهم اعتذار عن الجن في كونهم استكثروا منهم وإشارة إلى أن ذلك بقدرك وقضائك إذ لكل كتاب أجل واعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى والتكذيب بالبعث واستسلام وتحسر على حالهم . وقرىء آجالنا على الجمع الذي على التذكير والإفراد . قال أبو علي : هو جنس أوقع الذي موقع التي ؛ انتهى . وإعرابه عندي بدل كأنه قيل : الوقت الذي وحينئذ يكون جنساً ولا يكون إعرابه نعتاً لعدم المطابقة

وفي قوله :{ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا } دليل على المعتزلة في قولهم : بالأجلين لأنهم أقروا بذلك وفيهم المعقول وغيره .

{قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّه} أي مكان نوائكم أي إقامتكم قال الزجاج وقال أبو علي : هو عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي خالدين والموضع ليس فيه معنى فعل فيكون عاملاً والتقدير النار ذات ثوائكم ؛ انتهى . ويصح قول الزجاج على إضمار يدل عليه { مَثْوَاكُمْ } أي يثوون { خَالِدِينَ فِيهَا } والظاهر أن هذا الاستثناء من الجملة التي يليها الاستثناء . وقال أبو مسلم : هو من قوله :{ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا } أي إلا من أهلكته واخترمته . قيل : الأجل الذي سميته لكفره وضلاله وهذا ليس بجيد ، لأنه لو كان على ما زعم لكان التركيب إلا ما شئت ، ولأن القول بالأجلين أجل الاخترام والأجل الذي سماه اللّه باطل والفصل بين المستثنى منه والمستثنى بقوله :{ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا } وفي ذلك تنافر التركيب ، والظاهر أن هذا الاستثناء مراد حقيقة

وليس بمجاز .

وقال الزمخشري : أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يخرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عنه خناقه أهلكني اللّه إن نفّست عنك إلا إذا شئت ، وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد فيكون قوله إلا إذا شئت من أشد الوعيد مع تهكم بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع ؛ انتهى ، وإذا كان استثناء حقيقة فاختلفوا في الذي استثنى ما هو ؟ فقال قوم : هو استثناء أشخاص من المخاطبين وهم من آمن في الدنيا بعذاب كان من هؤلاء الكفرة ، ولما كان هؤلاء صنفاً ساغ في العبارة عنهم ما فصار كقوله : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء } حيث وقعت ما على نوع من يعقل وهذا القول بعد لأن هذا خطاب للكفار يوم القيامة فكيف يصح الاستثناء فيمن آمن منهم في الدنيا وشرط من أخرج بالاستثناء اتحاد زمانه وزمان المخرج منه . فإذا

قلت : قام القوم إلا زيداً فمعناه إلا زيداً فإنه ما قام ، ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيداً فإنه ما يقوم في المستقبل وكذلك سأضرب القوم إلا زيداً معناه إلا زيداً فإني لا أضربه في المستقبل ، ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيداً فإني ضربته أمس إلا إن كان الاستثناء منقطعاً فإنه يسوغ ، كقوله تعالى :{ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الاْولَى } أي لكن الموتة الأولى في الدنيا فإنهم ذاقوها . وقال قوم : المستثنى هم العصاة الذين يدخلون النار من أهل التوحيد أي إلا النوع الذي دخلها من العصاة فإنهم لا يخلدون في النار . وقال قوم : الاستثناء من الأزمان أي { خَالِدِينَ فِيهَا } أبداً إلا الزمان الذي شاء اللّه أن لا يخلدون فيه ، واختلف هؤلاء في تعيين الزمان . فقال الطبري : هي المدّة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار وساغ هذا من حيث العبارة بقوله :{ النَّارُ مَثْوَاكُمْ } لا يخص بصيغتها مستقبل الزمان دون غيره .

وقال الزمخشري : إلا ما شاء اللّه أي يخلدون في عذاب الأبد كله إلا ما شاء اللّه أي الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير ، فقد روي أنهم يدخلون وادياً من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض فيعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم . وقال الحسن : إلا ما شاء اللّه من كونهم في الدنيا بغير عذاب وهذا راجع إلى الزمان أي إلا الزمان الذي كانوا فيه في الدنيا بغير عذاب ، ويرد على هذا القول ما يرد على من جعله استثناء من الأشخاص الذين آمنوا في الدنيا . وقال الفراء : إلا بمعنى سواء والمعنى سواء ما يشاء من زيادة في العذاب ويجيء إلى هذا الزجاج . وقال غيره : إلا ما شاء اللّه من النكال والزيادة على العذاب وهذا راجع إلى الاستثناء من المصدر يدل عليه معنى الكلام ، إذ المعنى تعذبون بالنار { خَالِدِينَ فِيهَا } إلا ما شاء من العذاب الزائد على النار فإنه يعذبكم به ويكون إذ ذاك استثناء منقطعاً إذ العذاب الزائد على عذاب النار لم يندرج تحت عذاب النار ، والظاهر أن هذا الاستثناء هو من تمام كلام اللّه للمخاطبين وعليه جاءت تفاسير الاستثناء . و

قال ابن عطية : ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبة للنبي صلى اللّه عليه وسلم وأمته ، وليس مما يقال يوم القيامة والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم اللّه كأنه لما أخبرهم أنه يقال للكفار { مَثْوَاكُمْ } استثنى لهم من يمكن أن يؤمن ممن يرونه يومئذ كافراً ويقع ما على صفة من يعقل ، ويؤيد هذا التأويل اتصال قوله :{ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } أي من يمكن أن يؤمن منهم ؛ انتهى ، وهو تأويل حسن . وروي عن ابن عباس أنه قال : هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار . قيل : ومعنى ذلك أنها توجب الوقف فيمن لم يمت إذ قد يسلم وروي عنه أيضاً أنه قال : جعل أمرهم في مبلغ عذابهم ومدّته إلى مشيئته حتى لا يحكم اللّه في خلقه ، وعنه أيضاً أنه قال في هذه الآية : أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على اللّه في خلقه لا ينزلهم جنة ولا ناراً .

قال ابن عطية : الإجماع على التخليد الأبدي في الكفار ولا يصح هذا عن ابن عباس

انتهى . وقد تعلق قوم بظاهر هذا الاستثناء فزعموا أن اللّه يخرج من النار كل بر وفاجر ومسلم وكافر وأن النار تخلو وتخرب ، وقد ذكر هذا عن بعض الصحابة ولا يصح ولا يعتبر خلاف هؤلاء ولا يلتفت إليه . { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }

قال الزمخشري : لا يفعل شيئاً إلا بموجب الحكمة عليهم بأن الكفار يستوجبون عذاب الأبد ؛ انتهى . وهذا على مذهبه الاعتزالي . و

قال ابن عطية : صفتان مناسبتان بهذه الآية لأن تخليد هؤلاء الكفرة في النار صادر عن حكمة ، وقال التبريزي :{ حَكِيمٌ } في تدبير المبدإ والمعاد { عَلِيمٌ } بما يؤول إليه أمر العبادة . وقال إسماعيل الضرير :{ حَكِيمٌ } حكم عليهم الخلود { عَلِيمٌ } بهم وبعقوبتهم . وقال البغوي :{ عَلِيمٌ } بالذي استثناه وبما في قلوبهم من البر والتقوى . وقال القرطبي :{ حَكِيمٌ } في عقوبتهم {عليم } بمقدار مجازاتهم .

بمقدار مجازاتهم .

﴿ ١٢٨