٨

{كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } كيف تأكيد لنفي ثباتهم على العهد . والظاهر أن الفعل المحذوف بعدها هو من جنس أقرب مذكور لها ، وحذف للعلم به في كيف السابقة ، والتقدير : كيف لهم عهد وحالهم هذه ؟ وقد جاء حذف الفعل بعد كيف لدلالة المعنى عليه كقوله تعالى :{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} وقال الشعر :

ضع وخبرتماني إنما الموت بالقرى

فكيف وهاتا هضبة وكثيب

أي : فكيف مات وليس في قرية ؟ وقال الحطيئة :

فكيف ولم أعلمهم خذلوكم

على معظم وأن أديمكم قدّوا

أي فكيف تلومونني على مدحهم ؟ واستغنى عن ذلك لأنه جرى في القصيدة ما دل على ما أضمر . وقدر أبو البقاء الفعل المحذوف بعد كيف بقوله : كيف تطمئنون إليهم ؟ وقدره غيره : كيف لا يقتلونهم ؟ والواو في { وإن يظهروا} واو الحال . وتقدم الكلام على وقوع جملة الشرط حالاً في قوله : { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } ومعنى الظهور العلو والظفر ، تقول : ظهرت على فلان علوته . والمعنى : وإنْ يقدروا عليكم ويظفروا بكم .

وقرأ زيد بن علي : وإنْ يظهروا مبنياً للمفعول . لا يرقبوا : لا يحفظوا ولا يرعوا إلا عهداً أو قرابة أو حلفاً أو سياسة أو اللّه تعالى ، أو جؤاراً أي : رفع صوت بالتضرع ، أقوال .

قال مجاهد وأبو مجلز : إنْ اسم اللّه بالسريانية وعرب . ومن ذلك قول أبي بكر حين سمع كلام مسيلمة ، فقال : هذا كلام لم يخرج من إل . وقرأت فرقة : ألا بفتح الهمزة ، وهو مصدر من فعل الأل الذي هو العهد .

وقرأ عكرمة : إيلا بكسر الهمزة وياء بعدها ، فقيل : هو اسم اللّه تعالى . ويجوز أن يراد به إلى أبدل من أحد المضاعفين ياء ، كما قالوا في : إما إيما . قال الشاعر :

يا ليتما أمنا سالت نعامتها

إيما إلى الجنة إيما إلى نار

قال ابن جني : ويجوز أن يكون مأخوذاً من آل يؤول إذا ساس ، أبدل من الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، أي : لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة ، من رأى أنّ الإل هو العهد جعله والذمة لفظين لمعنى واحد أو متقاربين ، ومن رأى أن الإل غير العهد فهما لفظان متباينان . ولما ذكر حالهم مع المؤمنين أنْ ظهروا عليهم ذكر حالهم معهم ذا كانوا غير ظاهرين ، فقال : يرضونكم بأفواههم . واستأنف هذا الكلام أي : حالهم في الظاهر يخالف لباطنهم ، وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد ، وإباء القلب مخالفته لما يجري على اللسان من القول الحسن .

وقيل : يرضونكم بأفواههم في العدة بالإيمان ، وتأبى قلوبهم إلا الكفر .

وقيل : يرضونكم في الطاعة ، وتأبى قلوبهم

إلا المعصية . والظاهر بقاء الأكثر على حقيقته فقيل : وأكثرهم ، لأن منهم من قضى اللّه له بالإيمان .

وقيل : لأن منهم من له حفظ لمراعاة الحال الحسنة من التعفف عما يثلم العرض ، ويجر أحدوثة السوء ، وأكثرهم خبثاً لأنفس خريجون في الشر لا مروءة تردعهم ، ولا طباع مرضية تزعهم ، لا يحترزون عن كذب ولا مكر ولا خديعة ، ومن كان بهذا الوصف كان مذموماً عند الناس وفي جميع الأديان . ألا ترى إلى أهل الجاهلية وهم كفار كيف يمدحون أنفسهم بالعفاف وبالصدق وبالوفاء بالعهد وبالأخلاق الحسنة .

وقيل : معنى وأكثرهم وكلهم فاسقون ، قاله ابن عطية والكرماني .

﴿ ٨