١٧

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللّه شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ } قرأ ابن السميفع : أنْ يُعمِروا بضم الياء وكسر الميم ، أن يعينوا على عمارته .

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والجحدري : مسجد بالإفراد ، وباقي السبعة ومجاهد وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشبية بالجمع .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر البراءة من المشركين وأنواعاً من قبائحهم توجب البراءة منهم ، ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة توجب انتفاء البراءة منها كونهم عامري المسجد الحرام . روي أنه أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك ، وطفق عليّ يوبخ العباس ، فقال الرسول : واقطيعة الرحم ، وأغلظ له في القول . فقال العباس : تظهرون مساوينا ، وتكتمون محاسننا ؟ فقال : أو لكم محاسن ؟ قالوا : نعم ، ونحن أفضل منكم أجراً ، إنا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني ، فأنزل اللّه هذه الآية رداً عليهم . ومعنى ما كان للمشركين : أي بالحق الواجب ، وإلا فقد عمروه قديماً وحديثاً على سبيل التغلب .

وقال الزمخشري : أي ما صح وما استقام انتهى . وعمارته وحوله والقعود فيه والمكث من قولهم : فلان يعمر المسجد أي يكثر غشيانه ، أو رفع بنائه ، وإصلاح ما تهدّم منه ، أو التعبد فيه ، والطواف به . والصلاة ثلاثة أقوال . ومن قرأ بالإفراد فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام لقوله :{ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أو الجنس فيدخل تحته المسجد الحرام ، إذ هو صدر ذلك الجنس مقدّمته . ومن قرأ بالجمع فيحتمل أنْ يراد به المسجد الحرام ، وأطلق عليه الجمع إما باعتبار أنّ كل مكان منه مسجد ،

وإما لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها ، فكان عامره عامر المساجد . ويحتمل أن يراد الجمع ، فيدخل تحته المسجد الحرام وهو آكد ، لأن طريقته طريقة الكناية كما لو

قلت : فلان لا يقرأ كتب اللّه ، كنت أنفي لقراءة القرآن من تصريحك بذلك . وانتصب شاهدين على الحال ، والمعنى : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة متعبدات اللّه تعالى مع الكفر به وبعبادته .

وقرأ زيد بن علي : شاهدون على إضمارهم شاهدون ، وشهادتهم على أنفسهم بالكفر قولهم في الطواف : لبيك لبيك لا شريك لك ، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك . أو قولهم إذا سئلوا عن دينهم : نعبد اللات والعزى ، أو تكذيبهم الرسول ، أو قول المشرك : أنا مشرك كما يقول اليهودي : هو يهودي ، والنصراني هو نصراني ، والمجوسي هو مجوسي ، والصابىء هو صابىء ، أو ظهور أفعال الكفرة من نصب أصنامهم وطوافهم بالبيت عراة ، وغير ذلك أقوال خمسة ، هذا إذا حمل على أنفسهم على ظاهره ،

وقيل : معناه شاهدين على رسولهم ، وأطلق عليه أنفسهم لأنه ما من بطن من بطون العرب إلا وله فيهم ولادة ، ويؤيد هذا القول قراءة من قرأ على أنفسهم بفتح الفاء ، أي أشرفهم وأجلهم قدراً .

{أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة وغيرها مما ذُكر أنه من الأعمال الحميدة .

قال الزمخشري : وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها ، فما ظنك بالمقارن ؟ وإلى ذلك أشار تعالى بقوله :{ شَاهِدِينَ } حيث جعله حالاً عنهم ، ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة ، وذلك محال غير مستقيم انتهى . وقوله : أو الكبيرة ، دسيسة اعتزال لأن الكبيرة عندهم من المعاصي تحبط الأعمال .

{وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } ذكر مآل المشركين وهو النار خالدين فيها .

وقرأ زيد بن علي : بالياء نصباً على الحال ، وفي النار هو الخبر . كما تقول : في الدار زيد قاعداً . وقال الواحدي : دلت الآية على أنّ الكفار ممنوعون من عمارة مسجد المسلمين ، ولو أوصى لم تقبل وصيته ، ويمنع من دخول المساجد ، فإنْ دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير ، وإن دخل بإذن لم يعزر ، والأولى تعظم المساجد ومنعها منهم . وقد أنزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد ثقيف وهم كفار المسجد ، وربط ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد وهو كافر .

﴿ ١٧