٨٣

{فَإِن رَّجَعَكَ اللّه إِلَى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِىَ عَدُوّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ } : الخطاب للرسول والمعنى : فإن رجعك اللّه من سفرك هذا وهو غزوة تبوك . قيل : ودخول إنْ هنا وهي للمكن وقوعه غالباً إشارة إلى أنه صلى اللّه عليه وسلم لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وغيره ، إلا أن يعلمه اللّه ، وقد صرح بذلك في قوله تعالى :{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا فِعْلَ بِى وَلاَ بِكُمْ وَلاَ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوء } قال نحوه ابن عطية وغيره ، إلى طائفة منهم لأنّ منهم من مات ، ومنهم من تاب وندم ، ومنهم من تخلف لعذر صحيح . فالطائفة هنا الذين خلصوا في النفاق وثبتوا عليه هكذا قيل . وإذا كان الضمير في منهم عائداً على المخلفين الذين خرجوا وكرهوا أن يجاهدوا ، فالذي يظهر أنّ ذكر الطائفة هو لأجل أنّ منهم من مات .

قال ابن عطية : ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد حتم عليها بالموافاة على النفاق ، وعينوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، وإلا فكيف يترتب على أن يصلي على موتاهم إنْ لم يعينهم . وقوله : وما تواوهم فاسقون ، نص في موافاتهم . ومما يؤيد هذا أنّ النبي صلى اللّه عليه وسلم عينهم لحذيفة بن اليمان ، وكانت الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها . وروي عن حذيفة أنه قال يوماً : بقي من المنافقين كذا وكذا . وقال له عمرو بن الخطاب : أنشدك اللّه أنا منهم ؟ فقال : لا واللّه ، لا أمنت منها أحداً بعدك . وأمر اللّه نبيه أن يقول لهم : لن تخرجوا معي هو عقوبة لهم وإظهار لدنائة منزلتهم وسوء حالهم ، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته ، ولا خزي أعظم من أن يكون إنسان قدر فضه الشرع ورده كالجمل الأجرب .

قال الزمخشري : فاستأذنوك للخروج يعني إلى غزوة بعد غزوة تبوك ، وكان إسقاطهم من ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم اللّه تعالى أنه لم يدعهم إليه إلا النفاق ، بخلاف غيرهم من المحلفين انتهى . وانتقل بالنفي من الشاق عليهم وهو الخروج إلى الغزاة ، إلى الأشق وهو قتال العدو ، لأنه عظم الجهاد وثمرة الخروج وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة ، ثم علل انتفاء الخروج والقتال بكونهم رضوا بالقعود أول مرة ، ورضاهم ناشىء عن نفاقهم وكفرهم وخداعهم وعصيانهم أمر اللّهفي قوله :{ انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً } وقالوا هم : لا تنفروا في الحر ، فعلل بالمسبب وهو الرضا الناشىء عن السبب وهو النفاق . وأولمرة هي الخرجة إلى غزوة تبوك ، ومرة مصدر كأنه قيل :أو خرجة دعيتم إليها ، لأنها لم تكن أول خرجة خرجها الرسول للغزاة ، فلا بد من تقييدها ، إذ الأولية تقتضي السبق .

وقيل : التقدير أول خرجة خرجها الرسول لغزوة الروم بنفسه .

وقيل : أول مرة قبل الاستئذان . وقال أبو البقاء : أول مرة ظرف ، ونعني ظرف زمان ، وهو بعيد .

وقال الزمخشري: { فإن قلت } : مرة نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل ، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها

وهو دال على واحدة من المرات ؟ { قلت} : أكثر اللغتين هند . أكبر النساء ، وهي أكبرهن . ثم إنّ قولك هي كبرى امرأة لا تكاد تعثر عليه ، ولكن هي أكبر امرأة ، وأول مرة ، وآخر مرة انتهى . فاقعدوا مع الخالفين أي : أقيموا ، وليس أمراً بالقعود الذي هو نظير الجلوس ، وإنما المراد منعهم من الخروج معه . قال أبو عبيدة : الخالف الذي خلف بعد خارج فقعد في رحله ، وهو الذي يتخلف عن القوم .

وقيل : الخالفين المخالفين من قولهم : عبد خالف أي : مخالف لمولاه .

وقيل : الإخساء الأدنياء من قولهم : فلان خالفة قومه لا خسهم وأرذلهم . ودلت هذه الآية على توقي صحبة من يظهر منه مكر وخداع وكيد ، وقطع العلقة بينهما ، والاحتراز منه . وعن قتادة : ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلاً .

قال ابن عطية : والخالفون جميع من تخلف من نسائ وصبيان وأهل عذر . غلب المذكر ، فجمع بالواو والنون ، وإن كان ثمّ نساء وهو جمع خالف . وقال قتادة : الخالفون النساء ، وهذا مردود .

وقال ابن عباس : هم الرجال . وقال الطبري : يحتمل قوله في الحالتين أن يريد الفاسدين ، فيكون ذلك مأخوذاً من خلف الشيء إذا فسد ، ومنه خلوف فم الصائم .

وقرأ مالك بن دينار وعكرمة : مع الخلفين ، وهو مقصور من الخالفين كما قال : عدداً وبدداً يريد عاددا وباددا ، وكما قال الآخر :

مثل النقي لبده ضرب الظلل

يريد الظلال .

﴿ ٨٣