٢

{الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ } : هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات ، فإنها نزلت بالمدينة ، وهي فإن كنت في شك إلى آخرهن ، قاله ابن عباس . وقال الكلبي : إلا قوله ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به فإنها نزلت في اليهود بالمدينة . وقال قوم : نزل من أولها نحو من أربعية آية بمكة ، ونزل باقيها بالمدينة . وقال الحسن وعطاء وجابر : هي مكية وسبب نزولها : أنّ أهل مكة قالوا : لم يجد اللّه رسولاً إلا يتيم أبي طالب فنزلت . وقال ابن جريج : عجبت قريش أن يبعث رجل منهم فنزلت .

وقيل : لما حدثهم عن البعث والمعاد والنشور تعجبوا .

ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أنزل { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ } وذكر تكذيب المنافقين ثم قال :{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ } وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم أتبع ذلك بذكر الكتاب الذي أنزل ، والنبي الذي أرسل ، وأن ديدن الضالين وأحد متابعيهم ومشركيهم في التكذيب بالكتب الإلهية وبمن جاء بها ، ولما كان ذكر القرآن مقدّماً على ذكر الرسول في آخر السورة ، جاء في أول هذه السورة كذلك فتقدم ذكر الكتاب على ذكر الرسول ، وتقدم ما قاله المفسرون في أوائل هذه السورة المفتتحة بحروف المعجم ، وذكروا هنا أقوالاً عن المفسرين منها : أنا اللّه أرى ، ومنها أنا اللّه الرحمن ، ومنها أنه يتركب منها ومن رحم ومن نون الرحمن . فالراء بعض حروف الرحمن مفرقة ، ومنها أنا الرب وغير ذلك . والظاهر أن تلك باقية على موضوعها من استعمالها البعد المشار إليه . فقال مجاهد وقتادة : أشار بتلك إلى الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل

والزبور ، فيكون الآيات القصص التي وصفت في تلك الكتب . وقال الزجاج : إشارة إلى آيات القرآن التي جرى ذكرها .

وقيل : إشارة إلى الكتاب المحكم الذي هو محزون مكتوب عند اللّه ، ومنه نسخ كل كتاب كما قال : { بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } وقال :{ وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ }

وقيل : إشارة إلى الرائ وأخواتها من حروف المعجم ، أي تلك الحروف المفتتح بها السور وإن قربت ألفاظها فمعانيها بعيدة المنال . وهي آيات الكتاب أي الكتاب بها يتلى ، وألفاظه إليها ترجع ذكره ابن الأنباري .

وقيل : استعمل تلك بمعنى هذه ، والمشار إليه حاضر قريب قاله ابن عباس ، واختاره أبو عبيدة . فقيل : آيات القرآن .

وقيل : آيات السور التي تقدمّ ذكرها في قوله :{ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ }

وقيل : المشار إليه هو الراء ، فإنها كنوز القرآن ، وبها العلوم التي استأثر اللّه بها .

وقيل : إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب السورة .

والحكيم : الحاكم ، أو ذو الحكمة لاشتماله عليها . وتعلقه بها ، أو المحكم ، أو المحكوم به ، أو المحكم أقوال . والهمزة في أكان للاستفهام على سبيل الإنكار لوقوع العجب من الإيحاء إلى بشر منهم بالإنذار والتبشير ، أي : لا عجب في ذلك فهي عادة اللّه في الأمم السالفة ، أوحي إلى رسلهم الكتب بالتبشير والإنذار على أيدي من اصطفاه منهم . واسم كان إن أوحينا ، وعجباً الخبر ، وللناس فقيل : هو في موضع الحال من عجباً لأنه لو تأخر إذا كان بمعنى المفعول جاز تقدم معموله عليه كاسم المفعول .

وقيل : هو تبيين أي أعنى للناس .

وقيل : يتعلق بكان وإن كانت ناقصة ، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت دالة على الحدث فإنها إنْ تمحضت للدلالة على الزمان لم يصح تعلق بها .

وقرأ عبد اللّه : عجب ، فقيل : عجب اسم كان ، وأن أوحينا هو الخبر ، فيكون نظير : يكون مزاجها عسل وماء ، وهذا محمول على الشذوذ ، وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية .

وقيل : كان تامة ، وعجب فاعل بها ، والمعنى : أحدث للناس عجب لأن أوحينا ، وهذا التوجيه حسن . ومعنى للناس عجباً : أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها ، ونصبوه علماً لم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم .

وقرأ رؤبة : إلى رجل بسكون الجيم وهي لغة تميمية يسكنون فعلاً نحو سبع وعضد في سبع وعضد . ولما كان الإنذار عاماً كان متعلقه وهو الناس عامًّا ، والبشارة خاصة ، فكان متعلقها خاصاً وهو الذين آمنوا . وأن أنذر : أن تفسيرية أو مصدرية مخففة من الثقيلة ، وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس ، قالهما الزمخشري : ويجوز أن تكون أنْ المصدرية الثنائية الوضع ، لا المخففة من الثقيلة لأنها توصل بالماضي والمضارع والأمر ، فوصلت هنا بالأمر ، وينسبك منها معه مصدر تقديره : بإنذار

الناس . وهذا الوجه أولى من التفسيريه ، لأنّ الكوفيين لا يثبتون لأنّ أن تكون تفسيرية . ومن المصدرية المخففة من الثقيلة لتقدير حذف اسمها وإضمار خبرها ، وهو القول فيجتمع فيها حذف الاسم والخبر ، ولأنّ التأصيل خبر من دعوى الحذف بالتحفيف . وبشر الذين آمنوا أن لهم أي : بأن لهم ، وحذفت الباء . وقدم صدق قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وابن زيد : هي الأعمال الصالحة من العبادات . وقال الحسن وقتادة : هي شفاعة محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقال زيد بن أسلم وغيره : هي المصيبة بمحمد صلى اللّه عليه وسلم.

وقال ابن عباس وغيره : هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ . وقال مقاتل : سابقة خير عند اللّه قدموها . وإلى هذا المعنى أشار وضاح اليمن في قوله : ما لك وضاح دائم الغزل

ألست تخشى تقارب الأجل

صل لذي العرش واتخذ قدما

ينجيك يوم العثار والزلل

وقال قتادة أيضاً : سلف صدق . وقال عطاء : مقام صدق . وقال يمان : إيمان صدق . وقال الحسن أيضاً : ولد صالح قدموه .

وقيل : تقديم اللّه في البعث لهذه الأمة وفي إدخالهم الجنة ، كما قال :  { نحن الآخرون السابقون يوم القيامة }

وقيل : تقدم شرف ، ومنه قول العجاج : ذل بني العوام من آل الحكم

وتركوا الملك لملك ذي قدم

وقال الزجاج : درجة عالية وعنه منزلة رفيعة . ومنه قول ذي الرمة : لكم قدم لا ينكر الناس أنها

مع الحسب العادي طمت على البحر

وقال الزمخشري : قدم صدق عند ربهم سابقة وفضلاً ومنزلة رفيعة ، ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً ، كما سميت النعمة يداً ، لأنها تعطى باليد وباعاً لأن صاحبها يبوع بها فقيل لفلان : قدم في الخير ، وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة . و

قال ابن عطية : والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول : رجل صدق . وعن الأوزاعي : قِدم بكسر القاف تسمية بالمدر ، قال : الكافرون . ذهب الطبري إلى أنّ في الكلام حذفاً يدل الظاهر عليه تقديره : فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا .

قال ابن عطية : قال الكافرون : يحتمل أن يكون تفسيراً لقوله : أكان للناس وحينا إلى بشر عجباً قال الكافرون عنه كذا وكذا .

وقرأ الجمهور والعربيان ونافع : لسحر إشارة إلى الوحي ، وباقي السبعة ، وابن مسعود ، وأبو رزين ، ومسروق ، وابن جبير ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وابن محيصن ، وابن كثير ، وعيسى بن عمرو بخلاف عنهما لساحر إشارة إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وفي مصحف أبي ما هذا إلا سحر .

وقرأ الأعمش أيضاً : ما هذا إلا ساحر .

قال ابن عطية : وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق كلمتهم ، وحال بين القريب وقريبه ، فأشبه ذلك ما يفعله الساحر ، وظنوه من ذلك الباب .

وقال الزمخشري : وهذا دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً . ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحراً ظاهر الفساد ، لم يحتج قولهم إلى جواب ، لأنهم يعلمون نشأته معهم بمكة وخلطتهم له وما كانت قلة علم ، ثم أتى به من الوحي المتضمن ما لم يتضمنه كتاب إلهي من قصص الأولين والأخبار بالغيوب والاشتمال على مصالح الدنيا والآخرة ، مع الفصاحة والبراعة التي أعجزتهم إلى غير ذلك من المعاني التي تشمنها يقضي بفساد مقالتهم ، وقولهم ذلك هو

ديدن الكفرة مع أنبيائهم إذ أتوهم بالمعجزات كما قال : فرعون وقومه في موسى عليه السلام : { إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ }{ قَالُواْ } وقوم عيسى عليه السلام :{ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ودعوى السحر إنما هي على سبيل العناد والجحد .

﴿ ٢