٥٧

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى...} : روي أن الرسول جاءه فقال : أجب الملك ، فخرج من السجن ودعا لأهله اللّهم عطف عليهم قلوب الأخيار ، ولا تعم عليهم الأخبار ، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات . وكتب على باب السجن : هذه منازل البلوى ، وقبور الأحياء ، وشماتة الأعداء ، وتجربة الأصدقاء ، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ، ولبس ثياباً جدداً ، فلما دخل على الملك قال : اللّهم إني أسألك يخيرك من خيره ، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال : ما هذا اللسان ؟ فقال : لسان آبائي ، وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها ، فأجابه بجميعها ، فتعجب منه وقال : أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك قال : رأيت بقرات سمان فوصف لونهن وأحوالهن ، وما كان خروجهن ، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفاً ، وقال له : من حفظك أن تجعل الطعام في الاهراء فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك ، ويجتمع لك من المكنون ما لم يجتمع لأحد قبلك . وكان يوسف قصد أولاً بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل ، فكان استدعاء الملك إياه أولاً بسبب علم الرؤيا ، فلذلك قال : ائتوني به فقط ، فلما فعل يوسف ما فعل فظهرت أمانته وصبره وهمته وجوده نظره وتأنيه في عدم التسرع إليه بأول طلب عظمت منزلته عنده ، فطلبه ثانياً ومقصوده : استخلاصه لنفسه . ومعنى أستخلصه : أجعله خالصاً لنفسي وحاصاً بي ، وسمى اللّه فرعون مصر ملكاً إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه ، فلو كان حياً لكان حكماً له إذا قيل لكافر ملك أو أمير ، ولهذا كتب النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم ولم يقل ملكاً ولا أميراً ، لأن ذلك حكم . والجواب مسلم وتسلموا .

وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيف ما

تقلب . وفي الكلام حذف التقدير : فسمع الملك كلام النسوة وبراءة يوسف مما رمى به ، فأراد رؤيته وقال : ائتنوني به ، فلما كلمه . والظاهر أن الفاعل بكلمه هو ضمير الملك أي : فلما كلمه الملك ورأى حسن جوابه ومحاورته . ويحتمل أن يكون الفاعل ضمير يوسف أي : فلما كلم يوسف الملك ، ورأى الملك حسن منطقه بما صدق به الخبر الخبر ، والمرء مخبوء تحت لسانه ، قال : إنك اليوم لدينا مكين أي : ذو مكانة ومنزلة ، أمين مؤتمن على كل شيء .

وقيل : أمين آمين ، والوصف بالأمانة هو الأبلغ في الإكرام ، وبالأمن يحط من إكرام يوسف . ولما وصفه الملك بالتمكن عنده ، والأمانة ، طلب من الأعمال ما يناسب هذين الوصفين فقال : اجعلني على خزائن الأرض أي : ولني خزائن أرضك إني حفيظ أحفظ ما تستحفظه ، عليم بوجوه التصرف . وصف نفسه بالأمانة والكفاءة وهما مقصود الملوك ممن يولونه ، إذ هما يعمان وجوه التثقيف والحياطة ، ولا خلل معهما لقائل .

وقيل : حفيظ للحساب ، عليم بالألسن .

وقيل : حفيظ لما استودعتني ، عليم بسني الجوع . وهذا التخصيص لا وجه له ، ودلّ إثناء يوسف على نفسه أنه يجوز للإنسان أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره ، ولا يكون ذلك التزكية المنهي عنها . وعلى جواز عمل الرجل الصالح للرجل التاجر بما يقتضيه الشرع والعدل ، لا بما يختاره ويشتهيه مما لا يسيغه الشرع ، وإنما طلب يوسف هذه الولاية ليتوصل إلى إمضاء حكم اللّه ، وإقامة الحق ، وبسط العدل ، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد ، ولعلمه أن غيره لا يقوم مقامه في ذلك . فإنْ كان الملك قد أسلم كما روى مجاهد فلا كلام ، وإن كان كافراً ولا سبيل إلى الحكم بأمر اللّه ودفع الظلم إلا بتمكينه ، فللمتولي أن يستظهر به .

وقيل : كان الملك يصدر عن رأي يوسف ولا يعترض عليه في كل ما رأى ، فكان في حكم التابع . وما زال قضاة الإسلام يتولون القضاء من جهة من ليس بصالح ، ولولا ذلك لبطلت أحكام الشرع ، فهم مثابون على ذلك إذا عدلوا . وكذلك أي : مثل ذلك التمكين في نفس الملك مكناً ليوسف في أرض مصر ، يتبوأ منها حيث يشاء أي : يتخذ منها مباءة ومنزلاً كل مكان أراد ، فاستولى على جميعها ، ودخلت تحت سلطانه . روي أن الملك توجه بتاجه ، وختمه بخاتمه ، ورداه بسيفه ، ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت ، فجلس على السرير ، ودانت له الملوك ، وفوض الملك إليه أمره وعزل قطفير ، ثم مات بعد ، فزوجه الملك امرأته ، فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيراً مما طلبت ؟ فوجدها عذراء ، لأنّ العزيز كان لا يطأ ، فولدت له ولدين : افراثيم ، ومنشا . وأقام العدل بمصر ، وأحبه الرجال والنساء ، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس ، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها ، ثم بالحلي والجواهر ، ثم بالدواب ، ثم بالضياع والعقار ، ثم برقابهم ، ثم استرقهم جميعاً فقالوا : واللّه ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم منه فقال للملك : كيف رأيت صنع اللّه بي فيما خولني ، فما ترى ؟ قال : الرأي رأيك قال : فإني أشهد اللّه وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ، ورددت عليهم أملاكهم . وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطاً بين الناس ، وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر ، فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا ، واحتبس بنيامين .

وقرأ الحسن وابن كثير : بخلاف عنهم أبو جعفر وشيبه ونافع : حيث نشاء بالنون ، والجمهور بالياء . والظاهر أنّ قراءة الياء يكون فاعل نشاء ضميراً يعود على يوسف ، ومشيئته معذوقة بمشيئة اللّه ، إذ هو نبيه ورسوله .

وإما أن يكون الضمير عائداً على اللّه أي : حيث يشاء اللّه ، فيكون التفاتاً . نصيب برحمتنا أي : بنعمتنا من الملك والغني وغيرهما ، ولا نضيع في الدنيا أجر من أسن . ثم ذكر أن أجر الآخرة خير ، لأنه الدائم الذي لا يفنى . وقال سفيان بن عيينة : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة ، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا ، وما له في الآخرة من خلاق ، وتلا هذه الآية . وفي الحديث ما يوافق ما قال سفيان ، وفي الآية إشارة إلى أن حال يوسف في الآخرة خير من حالته العظيمة في الدنيا .

﴿ ٥٧