٦٢

{وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ... } : أي جاؤوا من القريات من أرض فلسطين بأرش الشام .

وقيل : من الأولاج من ناحية الشعب إلى مصر ليمتاروا منها ، فتوصلوا إلى يوسف للميرة ، فعرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ، ورأى زيهم قريباً من زيهم إذ ذاك ، ولأنّ همته كانت معمورة بهم وبمعرفتهم ، فكان يتأمل ويتفطن . وروي أنهم انتسبوا في الاستئذان عليه فعرفهم ، وأمر بإنزالهم . ولذلك قال الحسن : ما عرفهم حتى تعرفوا له ، وإنكارهم إياه كان .

قال الزمخشري : لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة ، ولاعتقادهم أنه قد هلك ، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه ، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حالته التي فارقوه عليها طريحاً في البئر مشريّاً بدراهم معدودة ، حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم . ولأن الملك مما يبدل الزي ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر منه المعروف .

وقيل : رأوه على زي فرعون عليه ثياب الحرير جالساً على سرير في عنقه طوق من ذهب ، وعلى رأسه تاج ، فما خطر لهم أنه هو .

وقيل : ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب ، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج .

ولما جهزهم بجهازهم ، وكان الجهاز الذي لهم هو الطعام الذي امتاروه . وفي الكلام حذف تقديره : وقد كان استوضح منهم أنهم لهم أخ قعد عند أبيهم . روي أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه بجميع أمرهم ، فباحثهم بأن قال لهم ترجمانه : أظنكم جواسيس ، فاحتاجوا إلى التعريف بأنفسهم فقالوا : نحن أبناء رجل صديق ، وكنا اثنى عشر ، ذهب منا واحد في البرية ، وبقي أصغرنا عند أبينا ، وجئنا نحن للميرة ، وسقنا بعير الباقي منا وكانوا عشرة ولهم أحد عشر بعيراً . فقال لهم يوسف : ولم تخلف أحدكم ؟ قالوا : المحبة أبينا فيه قال : فأتوني بهذا الأخ حتى أعلم حقيقة قولكم ، وأرى لم أحبه أبوكم أكثر منكم إن كنتم صادقين ؟ وأورد الزمخشري هذا القصص بألفاظ أخر تقارب هذه في المعنى ، وفي آخره قال : فمن يشهد لكم ؟ إنكم لستم بعيون ، وإن الذي تقولون حق . قالوا : إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد يشهد لنا . قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو حمل سالة من أبيكم حتى أصدقكم ، فاقترعوا فأصاب القرعة شمعون ، وكان أحسنهم رأياً في يوسف ، فخلفوه عنده ، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم .

وقيل : لم يرتهن أحداً ، وروي غير هذا في طلب الأخ من أبيهم . قيل : كان يوسف ملثماً أبداً ستراً لجماله ، وكان ينقر في الصواع فيفهم من طنينه صدق الحديث أو كذبه ، فسئلوا عن أخبارهم ، فكلما صدقوا قال لهم : صدقتم ، فلما قالوا : وكان لنا أخ أكله الذئب أطن يوسف الصواع وقال : كذبتم ، ثم تغير لهم وقال : أراكم جواسيس ، وكلفهم سوق الأخ الباقي ليظهر صدقهم . وقرىء : بجهازهم بكسر الجيم ، وتنكر أخ ، ولم يقل بأخيكم وإن كان قد عرفه وعرفهم مبالغة في كونه لا يريد أن يتعرف لهم ، ولا أنه يدري من هو . ألا ترى فرقاً بين مررت بغلامك ، ومررت بغلام لك ؟ إنك في التعريف تكون عارفاً بالغلام ، وفي التنكير أنت جال به . فالتعريف يفيد فرع عهد في الغلام بينك وبين المخاطب ، والتنكير لا عهد فيه البتة . وجائز أن نخبر عمن تعرفه أخبار النكرة فتقول : قال رجل لنا وأنت تعرفه لصدق إطلاق النكرة على المعرفة ، ثم ذكر ما يحرضهم به على الإتيان بأخيهم بقوله : ألا ترون إني أوف الكيل وأنا خير المنزلين أي المضيفين ؟ يعني في قطره وفي زمانه يؤنسهم بذلك ويستميلهم ، ثم توعدهم إن لم يأتوا به إليه بحرمانهم من الميرة في المستقبل . واحتمل قوله : ولا تقربون ، أن يكون نهياً ، وأن يكون نفياً مستقلاً ومعناه النهي . وحذفت النون وهو مرفوع ، كما حذفت في فبم تبشرون أن يكون نفياً داخلاً في الجزاء معطوفاً على محل فلا كيل لكم عندي ، فيكون مجزوماً والمعنى : أنهم لا يقربون له بكذا ولا طاعة . وظاهر كل ما فعله يوسف عليه السلام معهم أنه بوحي ، وإلا فإنه كان مقتضى البر أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه ، لكن اللّه تعالى أراد تكميل أجر يعقوب ومحنته : ولتتفسر الرؤيا الأولى قالوا : سنراود عنه أباه أي :

سنخادعه ونستميله في رفق إلى أن يتركه يأتي معنا إليك ، ثم أكدوا ذلك الوعد بأنهم فاعلو ذلك لا محالة ، لا نفرط فيه ولا نتوانى .

وقرأ الأخوان وحفص : لفتيانه ، وباقي السبعة لفتيته ، فالكثرة على مراعاة المأمورين ، والقلة على مراعاة المتأوّلين . فهم الخدمة الكائلون أمرهم بجعل المال الذي اشتروا به الطعام في رحالهم مبالغة في استمالتهم لعلهم يعرفونها أي : يعرفون حق ردها ، وحق التكرم بإعطاء البدلين فيرغبون فينا إذا انقلبوا إلى أهلهم ، وفرغوا ظروفهم . ولعلهم يعرفونها تعليق بالجعل ، ولعلهم يرجعون تعليق بترجي معرفة البضاعة للرجوع إلى يوسف . قيل : وكانت بضاعتهم النعال والأدم .

وقيل : يرجعون متعد ، فالمعنى لعلهم يردون البضاعة .

وقيل : تخوف أن لا يكون عند أبيه من المتاع ما يرجعون به .

وقيل : علم أن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة ، لا يستحلون إمساكها فيرجعون لأجلها .

وقيل : جعلها توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك ، ليتبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة .

قال ابن عطية : ويظهر أن ما فعله يوسف من صلتهم وجبرهم في تلك الشدة كان واجباً عليه ، هذ هو ملك عادل وهم أهل إيمان ونبوة .

﴿ ٦٢