٦{وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءذَا كُنَّا تُرَابًا أَءنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ ...} : ولما أقام الدلائل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه ، عجب الرسول عليه الصلاة والسلام من إنكار المشركين وجدانيته ، وتوهينهم قدرته لضعف عقولهم فنزل . وإن تعجب قال ابن عباس : وإن تعجبْ من تكذيبهم إياك بعدما كانوا حكموا عليك أنك من الصادقين ، فهذا أعجب . وقيل : وإن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً بعدما عرفوا الدلائل الدالة على التوحيد ، فهذا أعجب . قال الزمخشري : وإن تعجب من قولهم يا محمد في إنكار البعث ، فقولهم عجيب حقيق بأنْ يتعجب منه ، لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ، ولم يعي بخلقهن ، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره ، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب انتهى . وليس مدلول اللفظ ما ذكر ، لأنه جعل متعلق عجبه صلى اللّه عليه وسلم هو قولهم في إنكار البعث ، فاتحذ الجزاء والشرط ، إذ صار التقدير : وإن تعجب من قولهم في إنكار البعث فاعجب من قولهم في إنكار البعث ، وإنما مدلول اللفظ أن يقع منك عجب ، فليكن من قولهم : أئذا كنا الآية . وكان المعنى الذي ينبغي أن يتعجب منه : هو إنكار البعث ، لأنه تعالى هو المخترع للأشياء . ومن كان قادراً على إبرازها من العدم الصرف كان قادراً على الإعادة ، كما قال تعالى :{ وَهُوَ الَّذِى اللّه الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } وهو أهون عليه أي : هين عليه . و قال ابن عطية : هذه الآية توبيخ للكفرة ، أي : إن تعجب يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق ، فهم أهل لذلك ، وعجيب وغريب أن تنكر قلوبهم العود بعد كوننا خلقاً جديداً . ويحتمل اللفظ منزعاً آخر : إن كنت تريد عجباً فهلم ، فإنّ من أعجب العجب قولهم انتهى . واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعاً ، هنا موضع ، وكذا في المؤمنين ، وفي العنكبوت ، وفي النمل ، وفي السجدة ، وفي الواقعة ، وفي والنازعات ، وفي بني إسرائيل موضعان ، وكذا في والصافات . وقرأ نافع والكسائي بجعل الأول استفهاماً ، والثاني خبراً ، إلا في العنكبوت والنمل بعكس نافع . وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت ، وأما في النمل فعلى أصله إلا أنه زاد نوناً فقرأ :{ إِنَّنَا لَمُخْرَجُونَ } وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبراً ، والثاني استفهاماً ، إلا في النمل والنازعات فعكس ، وزاد في النمل نوناً كالكسائي . وإلا في الواقعة فقرأهما باستفهامين ، وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب ، إلا ابن كثير وحفصاً قرأ في العنكبوت بالخبر في الأول وبالاستفهام في الثاني ، وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين وتركه . وقولهم : فعجب ، هو خبر مقدم ولا بد فيه من تقدير صفة ، لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فلا بد من قيده وتقديره واللّه أعلم : فعجب أي عجب ، أو فعجب غريب . وإذا قدرناه موصوفاً جاز أن يعرب مبتدأ لأنه نكرة فيها مسوغ الابتداء وهو الوصف ، وقد وقعت موقع الابتداء ، ولا يضر كون الخبر معرفة ذلك . كما أجاز سيبويه ذلك في كم مالك ؟ لمسوغ الابتداء فيه وهو الاستفهام ، وفي نحو : اقصد رجلاً خير منه أبوه ، لمسوغ الابتداء أيضاً ، وهو كونه عاملاً فيما بعده . وقال أبو البقاء : وقيل عجب بمعنى معجب ، قال : فعلى هذا يجوز أن يرتفع قولهم به انتهى . وهذا الذي أجازه لا يجوز ، لأنه لا يلزم من كون الشيء بمعنى الشيء أن يكون حكمه في العمل كحكمه ، فمعجب يعمل ، وعجب لا يعمل ، ألا ترى أن فعلاً كذبح ، وفعلاً كقبض ، وفعلة كغرفة ، هي بمعنى مفعول ، ولا يعمل عمله ، فلا تقول : مررت برجل ذبح كبشه ، ولا برجل قبض ماله ، ولا برجل غرف ماءه ، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومعروف ماؤه . وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا في العمل عن المفعول . وقد حصر النحويون ما يرفع الفاعل ، والظاهر أن أئذا معمول لقولهم محكى به . وقال الزمخشري : أئذا كنا إلى آخر قولهم يجوز أن يكون في محل الرفع بدلاً من قولهم انتهى . هذا إعراب متكلف ، وعدول عن الظاهر . وإذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى الشرط ، فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية وتقريره : أنبعث ، أو أنحشر . أولئك إشارة إلى قائل تلك المقالة ، وهو تقرير مصمم على إنكار البعث ، فلذلك حكم عليهم بالكفر إذ عجزوا قدرته من إعادة ما أنشأ واخترع ابتداء . ولما حكم عليهم بالكفر في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة على سبيل الوعيد ، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم . والظاهر أنّ الأغلال تكون حقيقة في أعناقهم كالأغلال ، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة ، كما قال : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل . وقيل : يحتمل أن يكون مجازاً أي : هم مغلولون عن الإيمان ، فتجري إذاً مجرى الطبع والختم على القلوب كما قال تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً } وكما قال الشاعر : لهم عن الرشد أغلال وأقياد وقيل : الأغلال هنا عبارة عن أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال ، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة ، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم رادة عليهم ما أنكروه من البعث ، إذ لا يكون أصحاب النار إلا بعد الحشر . ولما كانوا متوعدين بالعذاب إن أصروا على الكفر ، وكانوا مكذبين بما أنذروا به من العذاب ، سألوا واستعجلوا في الطلب أن يأتيهم العذاب وذلك على سبيل الاستهزاء كما قالوا :{ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً } وقالوا :{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} قال ابن عباس : السيئة العذاب ، والحسنة العافية . وقال قتادة : بالشر قبل الخير . وقيل : بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية ، وهذه الأقوال متقاربة . وقد خلت من قبلهم المثلات أي : يستعجلونك بالسيئة مع علمهم بما حل بغيرهم من مكذبي الرسل في الأمم السالفة ، وهذا يدل على سخف عقولهم ، هذ يستعجلون بالعذاب . والحالة هذه فلو أنه لم يسبق تعذيب أمثالهم لكانوا ربما يكون لهم عذر ، ولكنهم لا يعتبرون فيستهزؤون . قال ابن عباس : المثلات العقوبات المستأصلات ، كمثلات قطع الأنف والأذن ونحوهما . وقال السدي : النقمات . وقال قتادة : وقائع اللّه الفاضحة ، كمسخ القردة والخنازير . وقال مجاهد : الأمثال المضروبة . وقرأ الجمهور : بفتح الميم ، وضم التاء ، ومجاهد والأعمش بفتحهما . وقرأ عيسى بن عمير وفي رواية الأعمش وأبو بكر : بضمهما ، وابن وثاب : بضم الميم وسكون الثاء ، وابن مصرف بفتح الميم وسكون الثاء . ولذو مغفرة للناس على ظلمهم ترجية للغفران ، وعلى ظلمهم في موضع الحال والمعنى : أنه يغفر لهم مع ظلمهم أنفسهم . باكتساب الذنوب أي : ظالمين أنفسهم . قال ابن عباس : ليس في القرآن آية أرجى من هذه . وقال الطبري : ليغفر لهم في الآخرة . وقال القاسم بن يحيى وقوم : ليغفر لهم الظلم السالف بتوبتهم في الآنف . وقيل : ليغفر السيئات الصغيرة لمجتنب الكبائر . وقيل : ليغفر لهم بسترة وإمهاله ، فلا يعجل لهم العذاب مع تعجيلهم بالمعصية . قال ابن عطية : والظاهر من معنى المغفرة هنا هو ستره في الدنيا ، وإمهاله للكفرة . ألا ترى التيسير في لفظ مغفرة ، وأنها منكرة مقلدة وليس فيها مبالغة كما في قوله تعالى :{ وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ } ومحط الآية يعطي هذا حكمه عليهم بالنار . ثم قال : ويستعجلونك ، فلما ظهر سوء فعلهم وجب في نفس السامع تعذيبهم ، فأخبر بسيرته في الأمم ، وأنه يمهل مع ظلم الكفرة انتهى . ولشديد العقاب : تخويف وارتقاب بعد ترجية . وقال سعيد بن المسيب : لما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { لولا عفو اللّه ومغفرته لما هنأ لأحد عيش ، ولولا عقابه لا تكل كل أحد } وفي حديث آخر : { إن العبد لو علم قدر عفو اللّه لما أمسك عن ذنب ، ولو علم قدر عقوبته لقمع نفسه في عبادة اللّه عز وجل} . |
﴿ ٦ ﴾