١١{اللّه يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاْرْحَامُ ...} : مناسبة هذه الآية لما قبلها هو ما نبه عليه الزمخشري من أنه تعالى لما طلب الكفار أن ينزل على الرسول صلى اللّه عليه وسلم آية وكم آية نزلت ، أردف ذلك بذكر آيات علمه الباهر ، وقدرته النافذة ، وحكمته البليغة ، وأن ما نزل عليه من الآيات كافية لمن تبصر ، فلا يقترحون غيرها ، وأنّ نزول الآيات إنما هو على ما يقدره اللّه تعالى . وقيل : مناسبة ذلك أنه لما تقدم إنكارهم البعث لتفرق الأجزاء واختلاط بعضها ببعض ، بحيث لا يتهيأ الامتياز بينها ، نبه على إحاط علمه ، وأن من كان عالماً بجميع المعلومات هو قادر على إعادة ما أنشأ . وقيل : مناسبة ذلك أنهم لما استعجلوا بالسيئة نبه على علمه بجميع المعلومات ، وأنه إنما نزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة . قال ابن عطية : قص في هذا المثل المنبه عل قدرة اللّه القاضية بتجويز البعث ، فمن ذلك الواحدة من الجنس التي هي مفاتيح الغيب يعني : التي لا يعلمها إلا هو ، وما تحمله الإناث من النطفة من كل نوع من الحيوان . وهذا البدء يبين أنه لا يتعذر على القادر عليها الإعادة . واللّه يعلم : كلام مستأنف مبتدأ وخبر ، ومن فسر الهادي باللّه جاز أن يكون اللّه خبر مبتدأ محذوف أي : هو اللّه تعالى ، ثم ابتدأ إخباراً عنه فقال : يعلم . ويعلم هنا متعدية إلى واحد ، لأنه لا يراد هنا النسبة ، إنما المراد تعلق بالمفردات . وما جوزوا أن تكون بمعنى الذي ، والعائد عليها في صلاتها محذوف ، ويكون تغيض متعدياً . وأن تكون مصدرية ، فيكون تغيض وتزداد لا زمان . وسماع تعديتهما ولزومهما ثابت من كلام العرب . وأن تكون استفهاماً مبتدأ ، وتحمل خبره ويعلم متعلقه ، والجملة في موضع المفعول . وتحمل هنا من حمل البطن ، لا من الحمل على الظهر . وفي مصحف أبي : ما تحمل كل أنثى ، وما تضع وتحمل على التفسير ، لأنها زيادة لم تثبت في سواد المصحف . قال ابن عباس : تغيض تنقص من الخلقة ، وتزداد تتم . وقال مجاهد : غيض الرحم أن ينهرق دماً على الحمل ، فيضعف الولد في البطن ويسحب ، فإذا بقي الولد في بطنها بعد تسعة أشهر مدة كمل فيها من خمسة وصحبه ما نقص من هراقة الدم ، انتهى كلام ابن عباس . وقال عكرمة : تغيض بطهور الحيض في الحبل ، وتزداد بدم النفاس بعد الوضع . وقال قتادة : الغيض السقط ، والزيادة البقاء فوق تسعة أشهر . وقال الضحاك : غيض الرحم أن تسقط المرأة الولد ، والزيادة إن تضعه لمدة كاملة تامة . وعن الضحاك أيضاً : الغيض النقص من تسعة أشهر ، والزيادة إلى سنتين . وقيل : من عدد الأولاد ، فقد تحمل واحداً ، وقد تحمل أكثر . وقال الجمهور : غيض الرحم الدم على الحمل . قال الزمخشري : إن كانت ما موصولة فالمعنى : أن يعلم ما تحمل من الولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة ، وتمام وخدج ، وحسن وقبح ، وطول وقصر ، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة المترقية . ويعلم ما تغيضه الأرحام تنقصه ، وما تزداد أي تأخذه زائداً تقول : أخذت منه حقي وازددت منه كذا ، ومنه :{ وَازْدَادُواْ تِسْعًا } ويقال : زدته فزاد بنفسه وازداد . وما تنقصه الرحم وتزداد عدد الولد ، فإنها تشتمل على واحد ، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة . ويروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه . ومنه جسد الولد ، فإنه يكون تاماً ومخدجاً ، ومنه مدة ولادته فإنها تكون أقل من تسعة أشهر ، فما زاد عليها إلى سنة عند أبي حنيفة ، وإلى أربع عند الشافعي ، وإلى خمس عند مالك . وقيل : إن الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حبان بقي في بطن أمه أربع سنين ولذلك سمي هرماً ومنه الدم فإنه يقل ويكثر . وإن كانت مصدرية فالمعنى : أنه يعلم حمل كل أنثى ، ويعلم غيض الأرحام وازديادها ، فلا يخفى عليه شيء من ذلك من أوقاته وأحواله . ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته ، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها ، على أنّ الفعل غير متعد ويعضده قول الحسن : الغيضوضة أن يقع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك ، والازدياد أن يزيد على تسعة أشهر . وعنه : الغيض الذي يكون سقطاً لغير تمام ، والازدياد ولد التمام انتهى . وهو جمع ما قاله المفسرون مفرقاً . وبمقدار يقدر ، ويطلق المقدار على القدر ، وعلى ما يقدر به الشيء . والظاهر عموم قوله : وكل شيء عنده بمقدار ، أي : بحد لا يتجاوزه ولا يقتصر عنه . وقال ابن عباس : وكل شيء من الثواب والعقاب عنده بمقدار أي : بقدر الطاعة والمعصية . وقال الضحاك : من الغيض والازدياد . وقال قتادة : من الرزق والأجل . وقيل : صحة الجنين ومرضه ، وموته ، وحياته ، ورزقه ، وأجله . والأحسن حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على التخصيص ، لأنه لا دليل عليه . والمراد من العندية العلم أي : هو تعالى عالم بكمية كل شيء ، وكيفيته على الوجه المفصل المبين ، فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات . وقيل المراد بالعندية أنه تعالى خصص كل حادث بوقته بعينه ، وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية . ولما ذكر أنه عالم بأشياء خفية لا يعلمها إلا هو ، وكانت أشياء جزئية من خفايا علمه ، ذكر أن علمه محيط بجميع الأشياء ، فعلمه تعالى متعلق بما يشاهده العالم تعلقه بما يغيب عنهم . وقيل : الغائب المعدوم ، والشاهد الموجود . وقيل : الغائب ما غاب عن الحس ، والشاهد ما حضر للحس . وقرأ زيد بن علي : عالم الغيب بالنصب ، الكبير العظيم الشأن الذي كل شيء دونه ، المتعال المستعلي على كل شيء بقدرته ، أو الذي كبر عن صفات المحدثين وتعالى عنها . وأثبت ابن كثير وأبو عمر وفي رواية : ياء المتعال وقفاً ووصلاً ، وهو الكثير في لسان العرب ، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً ، لأنها كذلك رسمت في الخط . واستشهد سيبويه بحذفها في الفواصل ومن القوافي ، وأجاز غيره حذفها مطلقاً . ووجه حذفها مع أنها تحذف مع التنوين ، وإن تعاقب التنوين ، فحذفت مع المعاقب إجراء له مجرى المعاقب . ولما ذكر أنه تعالى عالم الغيب والشهادة على العموم ، ذكر تعالى تعلق علمه بشيء خاص من أحوال المكلفين ، فقال : سواء منكم الآية . والمعنى : سواء في علمه المسر القول ، والجاهر به لا يخفى عليه شيء من أقواله . وسواء تقدم الكلام فيه ، وفي معانيه ، وهو هنا بمعنى مستو ، وهو لا يثني في أشهر اللغات . وحكى أبو زيد تثنيته فتقول : هما سواآن . وقيل : هو على حذف أي : سواء منكم سرّ من أسرّ القول ، وجهر من جهر به ، وأعربوا سواء خبر مبتدأ أو من أسر ، والمعطوف عليه مبتدأ . ويجوز أن يكون سواء مبتدأ لأنه موصوف بقوله : منكم ، ومن المعطوف الخبر . وكذا أعرب سيبويه قول العرب : سواء عليه الخير والشر . وقول ابن عطية : إن سيبويه ضعف ذلك بأنه ابتداء بنكرة ، وهو لا يصح . وقال ابن عباس : مستخف مستتر وسارب ظاهر . وقال مجاهد : مستخف بالمعاصي . وتفسير الأخفش وقطرب : المستخفي هنا بالظاهر . وإن كان موجوداً في اللغة ينبو عنه اقترانه بالليل ، واقتران السارب بالنهار . وتقابل الوصفان في قوله : ومن هو مستخف ، إذ قابل من أسر القول . وفي قوله : سارب بالنهار إذ قابل ومن جهر به . والمعنى واللّه أعلم إنه تعالى محيط علمه بأقوال المكلفين وأفعالهم ، لا يعزب عنه شيء من ذلك . وظاهر التقسيم يقتضي تكرار من ، لكنه حذف للعلم به ، إذ تقدم قوله : من أسرّ القول ومن جهر به ، لكن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين ، وأجازه الكوفيون . ويجوز أن يكون : وسارب ، معطوفاً على من ، لا على مستخف ، فيصح التقسيم . كأنه قيل : سواء شخص هو مستخف بالليل ، وشخص هو سارب بالنهار . ويجوز أن يكون معطوفاً على مستخف . وأريد بمن اثنان ، وحمل على المعنى في تقسيم خبر المبتدأ الذي هو هو ، وعلى لفظ من في إفراد هو . والمعنى : سواء اللذان هما مستخف بالليل والسارب بالنهار ، هو رجل واحد يستخفي بالليل ويسرب بالنهار ، وليرى نصرفه في الناس . قال ابن عطية : فهذا قسم واحد ، جعل اللّه نهار راحته . والمعنى : هذا والذي أمره كله واحد بريء من الريب ، سواء في اطلاع اللّه تعالى على الكل . ويؤيد هذا التأويل عطف السارب دون تكرار من ، ولا يأتي حذفها إلا في الشعر . وتحتمل الآية أن تتضمن ثلاثة أصناف . فالذي يسر طرف ، والذي يجهر طرف مضاد للأول ، والثالث متوسط متلون يعصي بالليل مستخفياً ويظهر البراءة بالنهار انتهى . وقيل : ومن هو مستخف بالليل بظلمته ، يريد إخفاء عمله فيه كما قال : أزورهم وسواد الليل يشفع لي . وقال : وكم لظلام الليل عندي من يد والظاهر عود الضمير في له على من ، كأنه قيل لمن أسرّ ، ومن جهر ، ومن استخفى ، ومن سرب : معقبات . وقال ابن عباس : هو عائد على من قوله : ومن هو مستخف ، وكذلك في باقي الضمائر التي في الآية . قال ابن عطية : والمعقبات على هذا حرس الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه ، قال : والآية على هذا في الرؤساء الكافرين . واختار هذا القول الطبري ، وهو قول عكرمة وجماعة . وقال الضحاك : هو السلطان المحرس من أمر اللّه انتهى . وحذف لا ، لا في الجواب قسم بعيد . قال المهدوي : ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى : يحفظونه من اللّه على ظنه وزعمه . وقيل : الضمير في له عائد على اللّه تعالى أي : للّه معقبات ملائكة من بين يدي العبد ومن خلفه ، والمعقبات على هذا الملائكة الحفظة على العباد وأعمالهم ، والحفظة لهم أيضاً . وروي فيه حديث عن عثمان عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وهو قول مجاهد والنخعي . وقيل : الضمير في له عائد على الرسول صلى اللّه عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر قريب ، وقد جرى ذكره في قوله : { وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } والمعنى : أنّ اللّه تعالى جعل لنبيه صلى اللّه عليه وسلم حفظة من متمردي الجن والإنس . قال أبو زيد : الآية في النبي صلى اللّه عليه وسلم نزلت في حفظ اللّه له من أربد بن قيس ، وعامر بن الطفيل ، من القصة التي سنشير إليها بعد في ذكر الصواعق . والقول الأول في عود الضمير هو الأولى الذي ينبغي أن يحمل عليه وعليه يفسر . ويقول : لما تقدم أنّ من أسر القول ومن جهر به ، ومن استخفى بالليل وسرب بالنهار ، مستوفي علم اللّه تعالى لا يخفى عليه من أحوالهم شيء ، ذكر أيضاً أن لذلك المذكور معقبات : جماعات من الملائكة تعقب في حفظه وكلاءته . ومعقب : وزنه مفعل ، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر ، لأن بعضهم يعقب بعضاً ، أو لأنهم يعقبون ما يتكلمون به فيكتبونه . وقال الزمخشري : والأصل معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف كقوله :{ وَجَاء الْمُعَذّرُونَ } يعني المعتذرون . ويجوز معقبات بكسر العين ، ولم يقرأ به انتهى . وهذا وهم فاحش ، لا تدغم التاء في القاف ، ولا القاف في التاء ، لا من كلمة ولا من كلمتين . وقد نص التصريفيون على أنْ القاف والكاف يدغم كل منهما في الآخر ، ولا يدغمان في غيرهما ، ولا يدغم غيرهما فيهما . وأما تشبيهه بقوله : وجاء المعذرون ، فلا يتعين أن يكون أصله المعتذرون ، وقد تقدم في براءة توجيهه ، وأنه لا يتعين ذلك فيه . وأما قوله : ويجوز معقبات بكسر العين ، فهذا لا يجوز لأنه بناه على أن أصله معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف . وقد ذكرنا أن ذلك وهم فاحش ، والمعقبات جمع معقبة . وقيل : الهاء في معقبة للمبالغة ، فيكون كرجل نسابة . وقيل : جمع معقبة ، وهي الجماعة التي تأتي بعد الأخرى ، جمعت باعتبار كثرة الجماعات ، ومعقبة ليست جمع معقب كما ذكر الطبري . وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات ، وليس الأمر كما ذكر ، لأنّ ذلك كجمل وجمال وجمالات ، ومعقبة ومعقبات إنما هي كضارب وضاربات قاله : ابن عطية . وينبغي أن يتأول كلام الطبري على أنه أراد بقوله : جمع معقب ، أنه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث معقب ، وصار مثل الواردة للجماعة الذين يردون ، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث وارد ، من حيث أنْ يجمع جموع التكسير للعامل يجوز أن يعامل معاملة المفردة المؤنثة في الأخبار . وفي عود الضمير لقوله : العلماء قائلة كذا ، وقولهم الرجال وأعضادها ، وتشبيه الطبري ذلك برجل ورجالات من حيث المعنى ، لا من حيث صناعة النحويين ، فبين أنّ معقبة من حيث أريد به الجمع كرجال من حيث وضع للجمع ، وأن معقبات من حيث استعمل جمعاً لمعقبة المستعمل للجمع كرجالات الذي هو جمع رجال . وقرأ عبيد بن زياد على المنبر له المعاقب ، وهي قراءة أبي وإبراهيم . وقال الزمخشري : وقرىء له معاقيب . قال أبو الفتح : هو تكسير معقب بسكون العين وكسر القاف ، كمطعم ومطاعم ، ومقدم ومقاديم ، وكان معقباً جمع على معاقبة ، ثم جعلت الياء في معاقيب عوضاً من الهاء المحذوفة في ممعاقبة . وقال الزمخشري : جمع معقب أو معقبة ، والياء عوض من حذف أحد القافين في التكسير . وقرىء له معتقبات من اعتقب . وقرأ أبي من بين يديه ، ورقيب من خلفه . وقرأ ابن عباس : ورقباء من خلفه ، وذكر عنه أبو حاتم أنه قرأ معقبات من خلفه ، ورقيب من بين يديه . وينبغي حمل هذه القراآت على التفسير ، لا أنها قرآن لمخالفتها سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون . والظاهر أن قوله تعالى : من أمر اللّه متعلق بقوله : يحفظونه . قيل : مِن للسبب كقولك : كسرته من عرى ، ويكون معناها ومعنى الباء سواء ، كأنه قيل : يحفظونه بأمر اللّه وبإذنه ، فحفظهم إياه متسبب عن أمر اللّه لهم بذلك . قال ابن جريج : يحفظون عليه عمله ، فحذف المضاف . وقال قتادة : يكتبون أقواله وأفعاله . وقراءة علي ، وابن عباس ، وعكرمة ، وزيد بن علي ، وجعفر بن محمد : يحفظونه بأمر اللّه ، يؤيد تأويل السببية في من وفي هذا التأويل . قال الزمخشري : يحفظونه من أجل أمر اللّه تعالى أي : من أجل أن اللّه تعالى أمرهم بحفظه . وقال ابن عطية ، وقتادة : معنى من أمر اللّه ، بأمر اللّه أي : يحفظونه بما أمر اللّه ، وهذا تحكم في التأويل انتهى . وليس بتحكم وورود من للسبب ثابت من لسان العرب . وقيل : يحفظونه من بأس اللّه ونقمته كقولك : حرست زيداً من الأسد ، ومعنى ذلك : إذا أذن اللّه لهم في دعائهم أن يمهله رجاء أن يتوب عليه وينيب كقوله تعالى : { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ } يصير معنى الكلام إلى التضمين أي : يدعون له بالحفظ من نقمات اللّه رجاء توبته . ومن جعل المعقبات الحرس ، وجعلها في رؤساء الكفار فيحفظونه معناه : في زعمه وتوهمه من هلاك اللّه ، ويدعون قضاءه في ظنه ، وذلك لجهالته باللّه تعالى ، أو يكون ذلك على معنى التهلك به ، وحقيقة التهكم هو أن يخبر بشيء ظاهره مثلاً الثبوت في ذلك الوصف ، وفي الحقيقة هو منتصف ، ولذلك حمل بعضهم يحفظونه على أنه مراد به : لا يحفظونه ، فحذف لا . وعلى هذا التأويل في من تكون متعلقة كما ذكرنا بيحفظونه ، وهي في موضع نصب . وقال الفراء وجماعة : في الكلام تقديم وتأخير أي : له معقبات من أمر اللّه يحفظونه من بين يديه ومن خلفه . وروي هذا عن مجاهد ، والنخعي ، وابن جريج ، فيكون من أمر اللّه في موضع رفع لأنه صفة لمرفوع ، ويتعلق إذ ذاك بمحذوف أي : كائنة من أمر اللّه تعالى ، ولا يحتاج في هذا المعنى إلى تقدير تقديم وتأخير ، بل وصفت المعقبات بثلاث صفات في الظاهر : أحدها : من بين يديه ومن خلفه أي : كائنة من بين يديه . والثانية : يحفظونه أي : حافظات له . والثالثة : كونها من أمر اللّه ، وإن جعلنا من بين يديه ومن خلفه يتعلق بقوله : يحفظونه ، فيكون إذ ذاك معقبات وصفت بصفتين : إحداهما : يحفظونه من بين يديه ومن خلفه . والثانية : قوله : من أمر اللّه أي : كائنة من أمر اللّه . غاية ما في ذلك أنه بدىء بالوصف بالجملة قبل الوصف بالجار والمجرور ، وذلك شائع فصيح ، وكان الوصف بالجملة الدالة على الديمومة ، في الحفظ آكد ، فلذلك قدم الوصف بها . وذكر أبو عبد اللّه الرازي في الملائكة الموكلين علينا ، وفي الكتبة منهم أقوالاً عن المنجمين وأصحاب الطلمسات ، وناس سماهم حكماء الإسلام يوقف على ذلك من تفسيره . ولما ذكر تعالى إحاطة علمه بخفايا الأشياء وجلاياها ، وأن الملائكة تعقب على المكلفين لضبط ما يصدر منهم ، وإن كان الصادر منهم خيراً وشراً ، ذكر تعالى أن ما خولهم فيه من النعم وأسبغ عليهم من الإحسان لا يزيله عنهم إلى الانتقام منهم إلا بكفر تلك النعم ، وإهمال أمره بالطاعة ، واستبدالها بالمعصية . فكان في ذكر ذلك تنبيه على لزوم الطاعة ، وتحذير لو بال المعصية . والظاهر أنْ لا يقع تغير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي . قال ابن عطية : وهذا الموضع مؤول ، لأنه صح الخبر بما قدرت الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة وبالعكس ، ومنه قوله تعالى : { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ } الآية . وسؤالهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : { نعم إذا كثر الخبث في أشياء كثيرة } فمعنى الآية : حتى يقع تغيير إما منهم ، وإما من الناظر لهم ، أو ممن هو منهم تسبب ، كما غير اللّه تعالى المنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم ، إلى غير هذا في أمثله الشريعة . فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب ، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير . وثم أيضاً مصائب يزيد اللّه بها أجر المصاب ، فتلك ليست تغييراً انتهى . وفي الحديث : { إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم اللّه بعقاب } وقيل : هذا يرجع إلى قوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } فبين تعالى أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر والمعاصي ، إلا إن علم اللّه تعالى أنّ فيهم ، أو في عقبهم من يؤمن ، فإنه تعالى لا ينزل بهم عذاب الاستئصال . وما موصولة صلتها بقوم ، وكذا ما بأنفسهم . وفي ما إبهام لا يتغير المراد منها : إلا بسياق الكلام ، واعتقاد محذوف يتبين به المعنى ، والتقدير : لا يغير ما بقوم من نعمة وخير إلى ضد ذلك حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعته إلى توالي معصيته . والسوء يجمع على كل ما يسوء من مرض وخير وعذاب ، وغير ذلك من البلاء . ولما كان سياق الكلام في الانتقام من العصاة اقتصر على قوله : سوء ، وإلا فالسوء والخير إذا أراد اللّه تعالى شيئاً منها فلا مرد له ، فذكر السواء مبالغة في التخويف . وقال السدي : من وال من ملجأ . وقال الزمخشري : ممن يلي أمرهم ، ويدفع عنهم . وقيل : من ناصر يمنع من عذابه . |
﴿ ١١ ﴾