٩

أتى أمر اللّه . . . . .

النطفة : القطرة من الماء ، نظف رأسه ماء أي قطر . الدفء اسم لما يدَّفأ به أي يسخن . وتقول العرب : دفىء يومنا فهو دفيء إذا حصلت فيه سخونة تزيل البرد ، ودفىء الرجل فداء ودفأ ، وجمع الدفء أدفاء . ورجل دفآن وامرأة دفأى ، والدفئة الإبل الكثيرة الأوبار ، لا دفاء بعضها بعضاً بأنفاسها . وقد تشدَّد ، وعن الأصمعي الدفئة الكثيرة الأوبار والشحوم . وقال الجوهري : الدفء نتاج الإبل وألبانها ، وما ينتفع به منها . البغل : معروف ، ولعمرو بن بحر الجاحظ كتاب البغال . الحمار : معيروف ، يجمع في القلة على أحمر وفي الكثرة على حمر ، وهو القياس وعلى حمير . الطرى : فعيل من طر ويطر ، وطراوة مثل سر ويسر سراوة . وقال الفراء : طري يطري طراء وطراوة مثل : شقى ، يشقى ، شقاء ، وشقاوة . المخر : شق الماء من يمين وشمال ، يقال : مخر الماء الأرض . وقال الفراء : صوت جرى الفلك بالرياح ،

وقيل : الصوت الذي يكون من هبوب الريح إذا اشتدت ، وقد يكون من السفينة ونحوها . ماد : تحرك ودار . السقف : معروف ويجمع على سقوف وهو القياس ، وعلى سقف وسقف ، وفعل وفعل محفوظان في فعل ، وليسا مقيسين فيه .

{أَتَى أَمْرُ اللّه فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُشْرِكُونَ يُنَزّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ خَلَقَ } : قال الحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، وجابر : هي كلها مكية .

وقال ابن عباس : إلا ثلاث آثات منها نزلت بالمدينة بعد حمزة وهي قوله :{ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّه ثَمَناً قَلِيلاً } إلى قوله :{ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

وقيل : إلا ثلاث آيات { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ } الآية نزلت في المدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد ، وقوله :{ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّه } وقوله :{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ }

وقيل : من أولها إلى قوله :{ يُشْرِكُونَ } مدني وما سواه مكي . وعن قتادة عكس هذا .

ووجه ارتباطها بما قبلها أنه تعالى لما قال :{ فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } كان ذلك تنبيهاً على حشرهم يوم القيامة ، وسؤالهم عما أجرموه في دار الدنيا ، فقيل : أتى أمر اللّه وهو يوم القيامة على قول الجمهور .

وعن ابن عباس المراد بالأمر : نصر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وظهوره على الكفار .

وقال الزمخشري : كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة ، أو نزول العذاب بهم يوم بدر استهزاء وتكذيباً بالوعد انتهى . وهذا الثاني قاله ابن جريج قال : الأمر هنا ما وعد اللّه نبيه من النصر وظفره بإعدائه ، وانتقامه منهم بالقتل والسبي ونهب الأموال ، والاستيلاء على منازلهم وديارهم . وقال الضحاك : الأمر هنا مصدر أمر ، والمراد به : فرائضه وأحكامه . قيل : وهذا فيه بعد ، لأنه لم ينقل أنّ أحداً من الصحابة استعجل فرائض من قبل أن تفرض عليهم . وقال الحسن وابن جريج أيضاً : الأمر عقاب اللّه لمن أقام على الشرك ، وتكذيب الرسول ، واستعجال العذاب منقول عن

كثير من كفار قريش وغيرهم . وقريب من هذا القول قول الزجاج : هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم .

وقيل : الأمر بعض أشراط الساعة . وأتى قيل : باق على معناه من المضي ، والمعنى : أقي أمر اللّه وعداً فلا تستعجلوه وقوعاً .

وقيل : أتى أمر اللّه ، أتت مبادئه وأماراته .

وقيل : عبر بالماضي عن المضارع لقرب وقوعه وتحققه ، وفي ذلك وعيد للكفار .

وقرأ الجمهور : تستعجلوه بالتاء على الخطاب ، وهو خطاب للمؤمنين أو خطاب للكفار على معنى : قل لهم فلا تستعجلوه .

وقال تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا }

وقرأ ابن جبير : بالياء نهياً للكفار ، والظاهر عود الضمير في فلا تستعجلوه على الأمر لأنه هو المحدث عنه .

وقيل : يعود على اللّه أي : فلا تستعجلوا اللّه بالعذاب ، أو بإتيان يوم القيامة كقوله :{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ }

وقرأ حمزة والكسائي : تشركون بتاء الخطاب ، وباقي السبعة والأعرج وأبوه جعفر ، وابن وضاح ، وأبو رجاء ، والحسن .

وقرأ عيسى : الأولى بالتاء من فوق ، والثانية بالياء والتاء من فوق معاً ؛ الأعمش ، وأبو العالية ، وطلحة ، وأبو عبد الرحمن ، وابن وثاب ، والجحدري ، وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي ومصدرية . وأفضل قراءته عما يشركون باستعجالهم ، لأن استعجالهم استهزاء وتكذيب ، وذلك من الشرك .

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : ينزل مخففاً ، وباقي السبعة مشدداً ، وزيد بن علي والأعمش وأبو بكر : تنزل مشدداً مبنياً للمفعول ، الملائكة بالرفع . والجحدري كذلك ، إلا أنه خفف . والحسن ، وأبو العالية ، والأعرج ، والمفضل ، عن عاصم ويعقوب : بفتح التاء مشدداً مبنياً للفاعل .

وقرأ ابن أبي عبلة : ما ننزل بنون العظمة والتشديد ، وقتادة بالنون والتخفيف .

قال ابن عطية : وفيهما شذوذ كثير انتهى . وشذوذهما أنّ ما قبله وما بعده ضمير غيبة ، ووجهه أنه التفات ، والملائكة هنا جبريل وحده قاله الجمهور ، أو الملائكة المشار إليهم بقوله :{ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً }

وقال ابن عباس : الروح الوحي تنزل به الملائكة على الأنبياء ، ونظيره :{ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } وقال الربيع بن أنس : هو القرآن ، ومنه { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } وقال مجاهد : المراد بالروح أرواح الخلق ، لا ينزل ملك إلا ومعه روح . وقال الحسن وقتادة : الروح الرحمة . وقال الزجاج : ما معناه الروح الهداية لأنها تحيا بها القلوب ، كما تحيا الأبدان بالأرواح .

وقيل : الروح جبريل ، ويدل عليه :{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ } وتكون الباء للحال أي : ملتبسة بالروح .

وقيل : بمعنى مع ،

وقيل : الروح حفظة على الملائكة لا تراهم الملائكة ، كما الملائكة حفظة علينا لا تراهم . وقال مجاهد أيضاً : الروح اسم ملك ، ومنه :{ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً }

وعن ابن عباس : أنّ الروح خلق من خلق اللّه كصور ابن آدم ، لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم ، وقال نحوه ابن جريج .

قال ابن عطية : وهذا قول ضعيف لم يأت به سند .

وقال الزمخشري : بالروح من أمره ، بما تحيا به القلوب الميتة بالجهل ، من وحيه أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد انتهى . ومِنْ للتبعيض ، أو لبيان الجنس . ومن يشاء : هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأنْ مصدرية ، وهي التي من شأنها أن تنصب المضارع ، وصلت بالأمر كما وصلت في قولهم : كتبت إليه بأنْ قم ، وهو بدل من الروح . أو على إسقاط الخافض : بأن أنذروا ، فيجري الخلاف فيه : أهو في موضع نصب ؟ أو في موضع خفض ؟

وقال الزمخشري : وأن أنذروا بدلاً من الروح أي : ننزلهم بأن أنذروا ، وتقديره : أنذروا أي : بأن الشأن أقول لكم أنذروا . أنه لا إله إلا أنا انتهى . فجعلها المخفف من الثقيلة ، وأضمر اسمها وهو ضمير الشأن ، وقدر إضمار القول : حتى يكون الخبر جملة خبرية وهي أقول ، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع سهولة كونها الشانية التي من شأنها نصب المضارع . وجوّز ابن عطية ، وأبو البقاء ، وصاحب الغنيان : أن تكون مفسرة فلا موضع لها من الإعراب ، وذلك لما في التنزل بالوحي من معنى القول أي : أعلموا الناس من نذرت بكذا إذا أعلمته .

قال الزمخشري : والمعنى يقول لهم : أعلموا الناس قولي لا إله إلا أنا فاتقون انتهى . لما جعل أنْ هي التي حذف منها ضمير الشأن قدر هذا التقدير وهو يقول لهم : أعلموا . وقرىء : لينذروا أنه ، وحسنت النذارة هنا وإن لم يكن في اللفظ ما فيه خوف من حيث كان

المنذرون كافرين بألوهيته ، ففي ضمن أمرهم مكان خوف ، وفي ضمن الإخبار بالوحدانية نهي عما كانوا عليه ، ووعيد وتحذير من عبادة الأوثان . ومعنى : فاتقون أي اتقوا عقابي باتخاذكم إلهاً غيري . وجاءت الحكاية على المعنى في قوله : إلا أنا ، ولو جاءت على اللفظ لكان لا إله إلا اللّه ، وكلاهما سائغ . وحكاية المعنى هنا أبلغ إذ فيها نسبة الحكم إلى ضمير المتكلم المنزل الملائكة ، ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر مما لا يقدر عليه غيره من خلق السموات والأرض ، وهم مقرون بأنه تعالى هو خالقها . وبالحق أي : بالواجب اللائق ، وذلك أنها تدل على صفات تحق لمن كانت له أن يخلق ويخترع وهي : الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والإرادة ، بخلاف شركائهم التي لا يحق لها شيء من ذلك .

وقرأ الأعمش : فتعالى بزيادة فاء ، وجاءت هذه الجملة منبهة على تنزيه اللّه تعالى موجد هذا العالم العلوي والعالم السفلي عن أن يتخذ معه شريك في العبادة . ولما ذكر ما دل على وحدانيته من خلق العالم العلوي والأرض ، وهو استدلال بالخارج ، ذكر الاستدلال من نفس الإنسان ، فذكر إنشاءه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ، وكان حقه والواجب عليه أن يطيع وينقاد لأمر اللّه . والخصيم من صفات المبالغة من خصم بمعنى اختصم ، أو بمعنى مخاصم ، كالخليط والجليس ، والمبين الظاهر الخصومة أو المظهرها . والظاهر أنّ سياق هذين الوصفين سياق ذم لما تقدم من قوله : سبحانه وتعالى عما يشركون ، وقوله : أن أنذروا الآية . ولتكرير تعالى عما يشركون ، ولقوله في يس : {أَوَ لَمْ يَرَ الإِنسَانُ } الآية وقال :{ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } وعنى به مخاصمتهم لأنبياء اللّه وأوليائه بالحجج الداحضة ، وأكثر ما ذكر الإنسان في القرآن في معرض الذم ، أو مردفاً بالذم .

وقيل : المراد بالإنسان هنا أبي بن خلف الجمحي . وقال قوم : سياق الوصفين سياق المدح ، لأنه تعالى قواه على منازعة الخصوم ، وجعله مبين الحق من الباطل ، ونقله من تلك الحالة الجمادية وهو كونه نطفة إلى الحالة العالية الشريفة وهي : حالة النطق والإبانة . وإذ هنا للمفاجأة ، وبعد خلقه من النطفة لم تقع المفاجأة بالمخاطبة إلا بعد أحوال تطور فيها ، فتلك الأحوال محذوفة ، وتقع المفاجأة بعدها . وقال أبو عبد اللّه الرازي : إعلم أنّ أشرف الأجسام بعد الأفلاك والكواكب هو الإنسان ، ثم ذكر الإنسان وأنه مركب من بدن ونفس في كلام كثير يوقف عليه في تفسيره ، ولا نسلم ما ذكره من أنّ الأفلاك والكواكب أشرف من الإنسان . ولما ذكر خلق الإنسان ذكر ما امتن به عليه في قوام معيشته ، فذكر أولاً أكثرها منافع ، وألزم لمن أنزل القرآن بلغتهم وذلك الأنعام ، وتقدم شرح الأنعام في الأنعام . والأظهر أن يكون لكم فيها دفء استئناف لذكر ما ينتفع بها من جهتها ، ودفء مبتدأ وخبره لكم ، ويتعلق فيها بما في لكم من معنى الاستقرار . وجوز أبو البقاء أن يكون فيها حالاً من دفء ، إذ لو تأخر لكان صفة . وجوز أيضاً أن يكون لكم حالاً من دفء وفيها الخبر ، وهذا لا يجوز لأنّ الحال إذا كان العامل فيها معنى فلا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها ، لا يجوز : فائماً في الدار زيد ، فإنْ تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف ، أو توسطت فأجاز ذلك الأخفش ، ومنعه الجمهور . وأجاز أيضاً أن يرتفع دفء بلكم أو نعتها بال ، والجملة كلها حال من الضمير المنصوب انتهى . ولا تسمى جملة ، لأنّ التقدير : خلقها لكم فيها دفء ، أو خلقها لكم كائناً فيها دفء ، وهذا من قبيل المفرد ، لا من قبيل الجملة . وجوزوا أن يكون لكم متعلقاً بخلقها ، وفيها دفء استئناف لذكر منافع الأنعام . ويؤيد كون لكم فيها دفء يظهر فيه الاستئناف مقابلته بقوله : ولكم فيها جمال ، فقابل المنفعة الضرورية بالمنفعة غير الضرورية .

وقال ابن عباس : الدفء نسل كل شيء ، وذكره الأموي عن لغة بعض العرب . والظاهر أن نصب والأنعام على الاشتغال ، وحسن النصب كون جملة فعلية تقدمت ، ويؤيد ذلك قراءته في الشاذ برفع الأنعام .

وقال الزمخشري ، وابن عطية : يجوز أن يكون قد عطف على البيان ، وعلى هذا كون لكم استئناف ، أو متعلق بخلقها .

وقرأ الزهري وأبو جعفر : دفء بضم الفاء وشدها وتنوينها ، ووجهه أنه نقل الحركة من الهمزة إلى الفاء بعد حذفها ، ثم شدد الفاء إجراء للوصل مجرى الوقف ، إذ يجوز تشديدها في الوف .

وقرأ زيد بن علي : دف بنقل الحركة ، وحذف الهمزة دون تشديد الفاء . وقال صاحب اللوامح :

الزهري دف بضم الفاء من غير همز ، والفاء محركة بحركة الهمزة المحذوفة . ومنهم من يعوض من هذه الهمزة فيشدد الفاء ، وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفاً . وقال مجاهد : ومنافع الركوب ، والحمل ، والألبان ، والسمن ، والنضج عليها ، وغير ذلك . وأفرد منفعة الأكل بالذكر ، كما أفرد منفعة الدفء ، لأنهما من أعظم المنافع .

وقال الزمخشري{ فإن قلت } : تقدم الظرف في قوله : ومنها تأكلون مؤذن ، بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها { قلت} : الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معائشهم ،

وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به ، وكالجاري مجرى التفكه . وما قاله منه على أن تقديم الظرف أو المفعول دال على الاختصاص . وقد رددنا عليه ذلك في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } والظاهر أنّ مِن للتبعيض كقولك : إذا أكلت من الرغيف .

وقال الزمخشري : ويحتمل أنّ طعمتكم منها لأنكم تحرثون بالبقر ، والحب والثمار التي تأكلونها منها ، وتكتسبون بإكراء الإبل ، وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها انتهى . فعلى هذا يكون التبعيض مجازاً ، أو تكون من للسبب . الجمال مصدر جمل بضم الميم ، والرجل جميل ، والمرأة جميلة وجملاء عن الكسائي وأنشد : فهي جملاء كبدر طالع

بزت الخلق جميعاً بالجمال

ويطلق الجمال ويراد به التجمل ، كأنه مصدر على إسقاط الزوائد . والجمال يكون في الصورة بحسن التركيب يدركه البصر ، ويلقيه في ألقاب ، فتتعلق به النفس من غير معرفة . وفي الأخلاق باشتمالها على الصفات المحمودة : كالعلم ، والعفة ، والحلم ، وفي الأفعال : بوجودها ملائمة لمصالح الخلق ، وجلب المنفعة إليهم ، وصرف الشر عنهم . والجمال الذي لنا في الأنعام هو خارج عن هذه الأنواع الثلاثة ، والمعنى : أنه لنا فيها جمال وعظمة عند الناس باقتنائها ودلالتها على سعادة الإنسان في الدنيا ، وكونه فيها من أهل السعة ، فمنّ اللّه تعال بالتجمل بها ، كما منّ بالانتفاع الضروري ، لأن التجمل بها من أغراض أصحاب المواشي ومفاخر أهلها ، والعرب تفتخر بذلك . ألا ترى إلى قول الشاعر : لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم

مرابط للإمهاز والعكر الدثر أحب إلينا من أناس بقنة يروح على آثار شائهم النمر والعكرة من الإبل ما بين الستين إلى السبعين ، والجمع عكر . والدثر الكثير ،

ويقال : أراح الماشية ردها بالعشيّ من المرعى ، وسرحها يسرحها سرحاً وسروحاً أخرجها غدوة إلى المرعى ، وسرحت هي يكون متعدياً ولازماً ، وأكثر ما يكون ذلك أيام الربيع إذا سقط الغيث وكبر الكلأ وخرجوا للنجعة . وقدم الإراحة على السرح لأنّ الجمال فيها أظهر إذا أقبلت ملأى البطون ، حافلة الضروع ، ثم أوت إلى الحظائر ، بخلاف وقت سرحها ، وإن كانت في الوقتين تزين الأفنية ، وتجاوب فيها الرغاء والثغاء ، فيأتنس أهلها ، وتفرح أربابها وتجلهم في أعين الناظرين إليها ، وتكسبهم الجاه والحرمة لقوله تعالى :{ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا }

وقوله تعالى :{ زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ } ثم

قال تعالى :{ وَالانْعَامِ وَالْحَرْثِ }

وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري : حيناً فيهما بالتنوين ، وفك الإضافة . وجعلوا الجملتين صفتين حذف منهما العائد كقوله :{ وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى } ويكون العامل في حيناً على هذا ، إمّا المبتدأ لأنه في معنى التجمل ،

وإما خبره بما فيه من معنى الاستقرار والأثقال . الأمتعة : واحدها

ثقل .

وقيل : الأجسام لقوله تعالى : { وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا } أي أجساد بني آدم . وقوله : إلى بلد ، لا يراد به معين أي : إلى بلد بعيد توجهتم إليه لأغراضكم .

وقيل : المراد به معين وهو مكة ، قاله : ابن عباس ، وعكرمة ، والربيع بن أنس .

وقيل : مدينة الرسول .

وقيل : مصر . وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على المراد ، إذ المنة لا تختص بالحمل إليها . ولم تكونوا بالغيه صفة للبلد ، ويحتمل أن يكون التقدير بها ، وذلك تنبيه على بعد البلد ، وأنه مع الاستعانة بها بحمل الأثقال لا يصلون إليه إلا بالمشقة . أو يكون التقدير : لم تكونوا بالغيه بأنفسكم دونها إلا بالمشقة عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم .

وقرأ الجمهور : بشق بكسر الشين .

وقرأ مجاهد ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وعمر بن ميمون ، وابن أرقم : بفتحها . ورويت عن نافع وأبي عمرو ، وهما مصدران معناهما المشقة .

وقيل : الشق بالفتح المصدر ، وبالكسر الاسم ، ويعني به : المشقة . وقال الشاعر في الكسر : وذي إبل يسعى ويحسبها له

أخي نصب من شقها ودؤوب

أي مشقتها . وشق الشيء نصفه ، وعلى هذا حمله الفراء هنا أي : يذهبان صف الأنفس ، كأنها قد ذابت تعباً ونصباً كما تقول : لا تقدر على كذا إلا بذهاب جل نفسك ، وبفطعة من كبدك . ونحو هذا من المجاز .

ويقال : أخذت شق الشاة أي نصفها والشق : الجانب ، والأخ الشقيق ، وشق اسم كاهن . وناسب الامتنان بهذه النعمة من حملها الأثقال الخثم بصفة الرأفة والرحمة ، لأن من رأفته تيسير هذه المصالح وتسخير الأنعام لكم . ولما ذكر تعالى مننه بالأنعام ومنافعها الضرورية ، ذكر الامتنان بمنافع الحيوان التي ليست بضرورية .

وقرأ الجمهور : والخيل وما عطف عليه بالنصب عطفاً على والأنعام .

وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع . ولما كان الركوب أعظم منافعها اقتصر عليه ، ولا يدل ذلك على أنه لا يجوز لكل الخيل ، خلافاً لمن استدل بذلك . وانتصب وزينة ، ولم يكن باللام ، ووصل الفعل إلى الركوب بوساطة الحرف ، وكلاهما مفعول من أجله ، لأن التقدير : خلقها ، والركوب من صفات المخلوق لهم ذلك فانتفى شرط النصب ، وهو : اتحاد الفاعل ، فعدى باللام . والزينة من وصف الخالق ، فاتحد الفاعل ، فوصل الفعل إليه بنفسه . و

قال ابن عطية : وزينة نصب بإضمارفعل تقديره : وجعلناها زينة . وروى قتادة عن ابن عباس : لتركبوها زينة بغير واو . قال صاحب اللوامح : والزينة مصدر أقيم مقام الاسم ، وانتصابه على الحال من الضمير في خلقها ، أو من لتركبوها .

وقال الزمخشري : أي وخلقها زينة لتركبوها ، أو يجعل زينة حالاً من هاء ، وخلقها لتركبوها وهي زينة وجمال . و

قال ابن عطية : والنصب حينئذ على الحال من الهاء في تركبوها . والظاهر نفي العلم عن ذوات ما يخلق تعالى ، فقال الجمهور : المعنى ما لا تعلمون من الآدميين والحيوانات والجمادات التي خلقها كلها لمنافعكم ، فأخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به ، لنزداد دلالة على قدرته بالإخبار ، وإنْ طوى عنا علمه حكمة له في طيه ، وما خلق تعالى من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمه بشر . وقال قتادة : ما لا تعلمون ، أصل حدوثه كالسوس في النبات والدود في الفواكه . وقال ابن بحر : لا تعلمون كيف يخلقه . وقال مقاتل : هو ما أعد اللّه لأوليائه في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . قال الطبري : وزاد بعد في الجنة وفي النار لأهلها ، والباقي بالمعنى .

ورويت تفاسير في : ما لا تعلمون في الحديث عن ابن عباس ، ووهب بن منبه ، والشعبي ، اللّه أعلم بصحتها .

ويقال : لما ذكر الحيوان الذي ينتفع به انتفاعاً ضرورياً وغير ضروري ، أعقب بذكر الحيوان الذي لا ينتفع به غالباً على سبيل الإجمال ، إذ تفاصيله خارجة عن الإحصاء والعد ، والقصد مصدر يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه ، والسبيل هنا مفرد

اللفظ . فقيل : مفرد المدلول ، وأل فيه للعهد ، وهي سبيل الشرع ، وليست للجنس ، إذ لو كانت له لم يكن منها جائز . والمعنى : وعلى اللّه تبين طريق الهدى ، وذلك بنصب الأدلة وبعثة الرسل . و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى : إنّ من سلك الطريق القاصد فعلى اللّه رحمته ونعيمه وطريقه ، وإلى ذلك مصيره . وعلى أنّ للعهد يكون الضمير في قوله : ومنها جائز ، عائد على السبيل التي يتضمنها معنى الآية ، كأنه قيل : ومن السبيل جائر ، فأعاد عليها وإن لم يجر لها ذكر ، لأنّ مقابلها يدل عليها .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يعود منها على سبيل الشرع ، وتكون مِن للتبعيض ، والمراد : فرق الضلالة من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم. كأنه قال : ومن بنيات الطرق في هذه السبيل ، ومن شعبها .

وقيل : أل في السبيل للجنس ، وانقسمت إلى مصدر وهو طريق الحق ، وإلى جائر وهو طريق الباطل ، والجائر العادل عن الاستقامة والهداية كما قال :

يجور بها الملاح طوراً ويهتدي

وكما قال الآخر : ومن الطريقة جائر وهدى

قصد السبيل ومنه ذو دخل

قسم الطريقة : إلى جائر ، وإلى هدى ، وإلى ذي دخل وهو الفساد .

وقال الزمخشري : ومعنى قوله : وعلى اللّه قصد السبيل إنّ هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه لقوله : { إِنَّ عَلَيْنَا للّهدَى  فإن قلت} : لم غير أسلوب الكلام في قوله : ومنها جائر ؟ { قلت} : ليعلم بما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز ، ولو كان كما تزعم المجبرة لقيل : وعلى اللّه قصد السبيل ، وعليه جائرها ، أو وعليه الجائر .

وقرأ عبد اللّه : ومنكم جائر يعني ومنكم جائر عن القصد بسواء اختياره ، واللّه بريء منه . ولو شاء لهداكم أجمعين قسراً والجاء انتهى . وهو تفسير على طريقة الاعتزال .

وقيل : الضمير في ومنها يعود على الخلائق أي : ومن الخلائق جائر عن الحق . ويؤيده قراءة عيسى : ومنكم جائر ، وكذا هي في مصحف عبد اللّه ، وقراءة علي : فمنكم جائر بالفاء . قال ابن عباس : هم أهل الملل المختلفة .

وقيل : اليهود والنصارى والمجوس . ولهداكم : لخلق فيكم الهداية ، فلم يضل أحد منكم ، وهي مشيئة الاختيار . وقال الزجاج : لفرض عليكم آية تضطركم إلى الاهتداء والإيمان .

قال ابن عطية : وهذا قول سوء لأهل البدع الذين يرون أن اللّه لا يخلق أفعال العباد ، لم يحصله الزجاج ، ووقع فيه رحمة اللّه من غير قصد انتهى . ولم يعرف ابن عطية أنّ الزجاج معتزلي ، فلذلك تأول أنه لم يحصله ، وأنه وقع فيه من غير قصد . وقال أبو علي : لو شاء لهداكم إلى الثواب ، أو إلى الجنة بغير استحقاق . وقال ابن زيد : لو شاء لمحض قصد السبيل دون الجائر . ومفعول شاء محذوف لدلالة لهداكم أي : ولو شاء هدايتكم .

﴿ ٩