١٦

{وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } : لما ذكر تعالى الاستدلال بما ذرأ في الأرض ، ذكر ما امتن به من ستخير البحر . ومعنى تسخيره : كونه يتمكن الناس من الانتفاع به للركوب في المصالح ، وللغوص في استخراج ما فيه ، وللاصطياد لما فيه . والبحر جنس يشمل الملح والعذب ، وبدأ أولاً من منافعه بما هو الأهم وهو الأكل ، ومنه على حذف مضاف أي : لتأكلوا من حيوانه طرياً ، ثم ثنى بما يتزين به وهو الحلية من اللؤلؤ والمرجان ، ونبه على غاية الحلية وهو اللبس . وفيه منافع غير اللبس ، فاللحم الطري من الملح والعذب ، والحلية من الملح .

وقيل : إنّ العذب يخرج منه لؤلؤ لا يلبس إلا قليلاً وإنما يتداوى به ،

ويقال : إنّ في الزمرد بحرياً ، فأما لتأكلوا فعام في النساء والرجال ،

وأما تلبسونها فخاص بالنساء . والمعنى : يلبسها نساؤكم . وأسند اللبس إلى الذكور ، لأنّ النساء إنما يتزين بالحلية من أجل رجالهن ، فكأنها زينتهم ولباسهم . ولما ذكر تعالى نعمة الأكل منه والاستخراج للحلية ، ذكر نعمة تصرف الفلك فيه ماخرة أي : شاقة فيه ، أو ذات صوت لشق الماء لحمل الأمتعة

والأقوات للتجارة وغيرها ، وأسند الرؤية إلى المخاطب المفرد فقال : وترى ، وجعلها جملة معترضة بين التعليلين : تعليل الاستخراج ، وتعليل الابتغاء ، لذلك عدل عن جمع المخاطب ، والظاهر عطف ، ولتبتغوا على التعليل قبله كما أشرنا إليه . وأجاز ابن الأنباري أن يكون معطوفاً على علة محذوفة أي : لتبتغوا بذلك . ولتبتغوا ، وأن يكون على إضمار فعل أي : وفعل ذلك لتبتغوا . والفضل هنا حصول الأرباح بالتجارة ، والوصول إلى البلاد الشاسعة ، وفي هذا دليل على جواز ركوب البحر . ولعلكم تشكرون ، على ما منحكم من هذه النعم . قيل : خلق اللّه اورض فجعلت تمور فقالت الملائكة : ما هي بمقر أحد على ظهرها ، فأصبحت وقد أرسيت بالجيال ، لم تدر الملائكة مم خلقت . وعطف وأنهاراً على رواسي . ومعنى ألقى : جعل ، ألا ترى إلى قوله : { أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً } وقوله : وجعل فيها رواسي ، من فوقها . وقال { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى } أي : جعلت . و

قال ابن عطية : قال المتأولون : ألقى بمعنى خلق وجعل ، وهي عندي أخص من خلق وجعل ، وذلك أن ألقى يقتضي أن اللّه أوجد الجبال ليس من الأرض لكن من قدرته واختراعه ، ويؤيد هذا النظر ما روي في القصص عن الحسن ، عن قيس بن عباد : أنّ اللّه تعالى لما خلق الأرض جعلت تمور إلى آخر الكلام السابق ، وهو أيضاً مروي عن وهب بن منبه . وقال ابن عطية أيضاً : وقوله : وأنهاراً ، منصوب بفعل مضمر تقديره : وجعل ، أو خلق أنهار أو إجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على خصوص ألقى ، ولو كانت ألقى بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإضمار انتهى . وأي إجماع في هذا ، وقد حكى عن المتأولين أنّ ألقى بمعنى خلق وجعل ،

وقال الزمخشري : وأنهاراً ، وجعل فيها أنهاراً لأنّ ألقى فيه معنى جعل . ألا ترى إلى قوله :{ أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} وقال أبو البقاء : أي وشق أنهاراً وعلامات أي : وضع علامات ، ويجوز أن يعطف على رواسي . وقال أبو عبد اللّه الرازي : ثبت في العلوم العقلية أن أكثر الأنهار إنما تتفجر منابعها في الجبال ، فلهذا السبب أتبع ذكرها بتفجير الأنهار ، وسبلاً طرقاً إلى مقاصدكم لعلكم تهتدون بالسبل إلى مقاصدكم ، هذا هو الظاهر ، ويدل عليه ما بعده .

وقال تعالى : وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون .

وقيل : تهتدون أي : بالنظر في دلالة هذه المصنوعات على صانعها ، فهو من الهداية إلى الحق ، ودين اللّه . وعلامات هي معالم الطرق ، وكل ما يستدل به السابلة من جبل وسهل وغير ذلك قاله الزمخشري ، وهو معنى قول ابن عباس . وقال أبو عبد اللّه الرازي : ورأيت جماعة يتعرفون الطرقات بشم التراب . وقال ابن عيسى : العلامة صورة يعلم بها ما يراد من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة . و

قال ابن عطية : وعلامات نصب كالمصدر أي : فعل هذه الأشياء لعلكم تعتبرون بها ، وعلامات أي : عبرة وإعلاماً في كل سلوك ، فقد يهتدي بالجبال وبالأنهار وبالسبل انتهى . وقال ابن الكلبي : العلامات الجبال . وقال النخعي ومجاهد : النجوم . وأغرب ما فسرت به العلامات أنها حيتان طوال رقاق كالحيات في ألوانها وحركاتها تسمى بالعلامات ، وذلك في بحر الهند الذي يسار إليه من اليمن ، فإذا ظهرت كانت علامة للوصول لبلاد الهند وأمارة للنجاة .

وقرأ الجمهور : وبالنجم ، على أنه اسم جنس ، ويؤيد ذلك قراءة ابن وثاب : وبالنجم بضم النون والجيم ، وقراءة الحسن : بضم النون . وفي اللوامح الحسن : النجم بضمتين ، وابن وثاب : بضمة واحدة ، وجاء كذلك عن ابن هشام الرفاعي ، ولا شك في أنه يذكره عن أصحاب عاصم انتهى . وذلك جمع كسقف وسقف ، ورهن وترهن ، وجعله مما جمع على فعل أولى من حمله على أنه أراد النجوم ، فحذف الواو . إلا أن ابن عصفور ذكر أن قولهم : النجم من ضرورة الشعر ، وأنشد :

إن الذي قضى بذا قاض حكم

أن يرد الماء إذا غاب النجم

قال : يريد النجوم . مثل قوله :

حتى إذا ابتلت حلاقيم الحلق

يريد : الحلوق . والتسكين : قيل تخفيف ،

وقيل : لغة . وعن السدي : هو الثريا ، والفرقدان ، وبنات نعش ، والجدي . وقال الفراء : المراد الجدي والفرقدان انتهى . قيل : والجدي هو السابع من بنات نعش الصغرى ، والفرقدان الأولان منها ، وليس بالجدي الذي هو المنزلة ، وبعضهم يصغره فيقول : جدي . وفي الحديث عن ابن عباس أنه سأل الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن قوله : وبالنجم ، فقال :  { هو الجدي } ولو صح هذا لم يعدل أحد عنه .

وقال ابن عباس : عليه قبلتكم ، وبه تهتدون في بركم وبحركم .

وقيل : هو القطب الذي لا يجري .

وقيل : هو الثريا . وقال الشاعر : إذا طلب الجوزاء والنجم طالع

فكل مخاضات الفرات معابر

وقال آخر : حتى إذا ما استقل النجم في غلس

وغودر البقل ملوى ومحصود أي ومنه ملوى ، ومنه محصود ، وذلك إنما يكون عند طلوع الثريا . وهم : ضمير غيبة خرج من الخطاب إلى الغيبة ، كان الضمير النعت به إلى قريش إذ كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم ، وكان لهم بذلك علم لم يكن لغيرهم ، فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم . وقدم المجرور على ما يتعلق به اعتناء ولأجل الفاصلة . والزمخشري على عادته كأنه قيل : وبالنجم خصوصاً هم يهتدون .

﴿ ١٦