١٦

وإذا أردنا أن . . . . .

لما ذكر تعالى أنه لا يعذب أحداً حتى يبعث إليه رسولاً بين بعد ذلك علة إهلاكهم وهي مخالفة أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم والتمادي على الفساد .

وقال الزمخشري :{ وَإِذَا أَرَدْنَا } وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إهلاكهم إلاّ قليل انتهى . فتؤول { أَرَدْنَا } على معنى دنا وقت إهلاكهم وذلك على مذهب الاعتزال .

وقرأ الجمهور أمرنا ، وفي هذه القراءة قولان :

أحدهما : وهو الظاهر أنه من الأمر الذي هو ضد النهي ، واختلف في متعلقة فذهب الأكثرون منهم ابن عباس وابن جبير إلى أن التقدير أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا . وذهب الزمخشري إلى أن التقدير أمرناهم بالفسق ففسقوا ورد على من قال أمرناهم بالطاعة فقال : أي أمرناهم بالفسق ففعلوا ، والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا وهذا لا يكون ، فبقي أن يكون مجازاً ، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صباً فجعلوها ذريعة إلى المعاصي

واتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه ، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر ، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية ، وآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول ، وهي كلمة العذاب فدمرهم .

فإن قلت : هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا ؟

قلت : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نفيضه . وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه وهو كلام مستفيض . يقال : أمرته فقام وأمرته فقرأ ، لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة ، ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأن ذلك مناف للأمر مناقض له ، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به ، فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتى يجعل دالاً على المأمور به ، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي ، لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به وكأنه يقول : كان مني أمر فلم يكن منه طاعة كما أن من يقول : فلان يعطي ويمنع ويأمر وينهي غير قاصد إلى مفعول

فإن قلت : هلا كان ثبوت العلم بأن اللّه لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقسط والخير دليلاً على أن المراد أمرناهم بالخير { فَفَسَقُواْ } ؟

قلت : لا يصح ذلك لأن قوله { فَفَسَقُواْ } يدافعه فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدّعي إضمار خلافه ، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه . ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه تقول : لو شاء لأحسن إليك ، ولو شاء لأساء إليك ، تريد لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت وقلت : قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الإساءة فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة لم يكن على سداد انتهى .

أما ما ارتكبه من المجاز وهو أن { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } صببنا عليهم النعمة صباً فيبعد جداً .

وأما قوله وأقدرهم على الخير والشر إلى آخره فمذهب الاعتزال ، وقوله لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز تعليل لا يصح فيما نحن بسبيله ، بل ثم ما يدلر على حذفه . وقوله فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه إلى قوله علم الغيب ، فنقول : حذف الشيء تارة يكون لدلالة موافقه عليه ، ومنه ما مثل به في قوله أمرته فقام وأمرته فقرأ ، وتارة يكون لدلالة خلافه أو ضده أو نقيضه فمن ذلك قوله تعالى :{ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } قالوا : تقديره ما سكن وما تحرك . وقوله تعالى { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } قالوا : الحر والبرد . وقول الشاعر : وما أدري إذا يممت أرضا

أريد الخير أيهما يليني

أالخير الذي أنا أبتغيه

أم الشر الذي هو يبتغيني

تقديره : أريد الخير وأجتنب الشر ، وتقول : أمرته فلم يحسن فليس المعنى أمرته بعدم الإحسان فلم يحسن ، بل المعنى أمرته بالإحسان فلم يحسن ، وهذه الآية من هذا القبيل يستدل على حذف النقيض بإثبات نقيضه ، ودلالة النقيض على النقيض كدلالة النظير على النظير ، وكذلك أمرته فأساء إليّ ليس المعنى أمرته بالإساءة فأساء إليّ ، إنما يفهم منه أمرته بالإحسان فأساء إليّ . وقوله ولا يلزم هذا قولهم أمرته فعصاني . نقول : بل يلزم ، وقوله لأن ذلك مناف أي لأن

العصيان مناف وهو كلام صحيح . وقوله : فكان المأمور به غير مدلول عليه ولا منوي هذا لا يسلم بل هو مدلول عليه ومنوي لا دلالة الموافق بل دلالة المناقض كما بينا .

وأما قوله : لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به هذا أيضاً لا يسلم . وقوله في جواب السؤال لأن قوله { فَفَسَقُواْ } يدافعه ، فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدّعي إضمار خلافه . قلنا : نعم يدعي إضمار خلافه ودل على ذلك نقيضه . وقوله : ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف .

قلت : ليس نظيره لأن مفعول أمر لم يستفض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه ، بل لا يكاد يستعمل مثل شاء محذوفاً مفعوله لدلالة ما بعده عليه ، وأكثر استعماله مثبت المفعول لانتفاء الدلالة على حذفه .

قال تعالى :{ قُلْ إِنَّ اللّه لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء }{ أَمْرٍ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ }{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَاذَا }{ قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ }{ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } أي به ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة . وقال الشاعر :

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

وقال أبو عبد اللّه الرازي : ولقائل أن يقول كما أن قوله أمرته فعصاني يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به ، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به ، أن كونه معصية ينافي كونها مأموهاً بها ، فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق . هذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصرّ صاحب الكشاف على قوله مع ظهور فساده فثبت أن الحق ما ذكروه ، وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك عناداً وأقدموا على الفسق انتهى .

القول

الثاني : أن معنى { أَمْرُنَا } كثرنا أي كثرنا { مُتْرَفِيهَا } يقال : أمر اللّه القوم أي كثرهم حكاه أبو حاتم عن أبي زيد . وقال الواحدي : العرب تقول : أمر القوم إذا كثروا وأمرهم اللّه إذا كثرهم انتهى . وقال أبو علي الفارسي : الجيد في أمرنا أن يكون بمعنى كثرنا ، واستدل أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بما جاء في الحديث : { خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة } أي كثيرة النسل ، يقال : أمر اللّه المهرة أي كثر ولدها ، ومن أنكر أمر اللّه القوم بمعنى كثرهم لم يلتفت إليه لثبوت ذلك لغة ويكون من باب ما لزم وعدّي بالحركة المختلفة ، إذ يقال : أمر القوم كثروا وأمرهم اللّه كثرهم ، وهو من باب المطاوعة أمرهم اللّه فأمروا كقولك شتر اللّه عينه فشترت ، وجدع أنفه وثلم سنه فثلمت .

وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمة . { أَمْرُنَا } بكسر الميم ، وحكاها النحاس وصاحب اللوامح عن ابن عباس ، وردّ الفراء هذه القراءة لا يلتفت إليه إذ نقل أنها لغة كفتح الميم ومعناها كثرنا . حكى أبو حاتم عن أبي زيد يقال : أمر اللّه ماله وأمره أي كثره بكسر الميم وفتحها .

وقرأ عليّ ابن أبي طالب ، وابن أبي إسحاق ، وأبو رجاء ، وعيسى بن عمر ، وسلام ، وعبد اللّه بن أبي يزيد ، والكلبي : آمرنا بالمد وجاء كذلك عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وأبي العالية ، وابن هرمر ، وعاصم ، وابن كثير ، وأبي عمرو ، ونافع ، وهو اختيار يعقوب ومعناه كثرنا . يقال أمر اللّه القوم وآمرهم فتعدى بالهمزة .

وقرأ ابن عباس وأبو عثمان النهدي والسدّي وزيد بن عليّ وأبو العالية :{ أَمْرُنَا } بتشديد الميم وروي ذلك عن عليّ والحسن والباقر وعاصم وأبي عمر وعدي أمر بالتضعيف ، والمعنى أيضاً كثرنا وقد يكون { أَمْرُنَا } بالتشديد بمعنى وليناهم وصيرناهم أمراء ، واللازم من ذلك أمر فلان إذا صار أميراً أي ولي الأمر . وقال أبو عليّ الفارسي : لا وجه لكون { أَمْرُنَا } من الإمارة لأن رياستهم لا تكون إلاّ لواحد بعد واحد والإهلاك إنما يكون في مدة واحد منهم ، وما قاله أبو عليّ لا يلزم لأنا لا نسلم أن الأمير هو الملك بل كونه ممن يأمر ويؤتمر به ، والعرب تسمي أميراً من يؤتمر به وإن لم يكن ملكاً . ولئن سلمنا أنه أريد به

الملك فلا يلزم ما قاله لأن القرية إذا ملك عليها مترف ثم فسق ثم آخر ففسق ثم كذلك كثر الفساد وتوالي الكفر ونزل بهم على الآخر من ملوكهم ، ورأيت في النوم أني قرأت وقرىء بحضرتي { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } الآية بتشديد الميم . فأقول في النوم : ما أفصح هذه القراءة ، والقول الذي حق عليهم هو وعيد اللّه الذي قاله رسولهم .

وقيل :{ الْقَوْلِ } لأملان وهؤلاء في النار ولا أبالي .

والتدمير الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء .

﴿ ١٦