١٤

ولقد خلقنا الإنسان . . . . .

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ } الآية لما ذكر تعالى أن المتصفين بتلك الأوصاف الجليلة هم يرثون الفردوس فتضمن ذلك المعاد الأخروي ، ذكر النشأة الأولى ليستدل بها على صحة النشأة الآخرة . و

قال ابن عطية : هذا ابتداء كلام والواو في أوله عاطفة جملة كلام على جملة ، وإن تباينت في المعاني انتهى . وقد بيّنا المناسبة بينهما ولم تتباين في المعاني من جميع الجهات .{ الإِنسَانَ } هنا . قال قتادة وغيره ورواه عن سلمان وابن عباس آدم لأنه انسل من الطين { ثُمَّ جَعَلْنَا } عائد على ابن آدم وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر وأن المعنى لا يصلح إلاّ له ونظيره { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } أو على حذف مضاف أي ثم جعلنا نسله .

وعن ابن عباس أيضاً أن { الإِنسَانَ } ابن آدم و { سُلَالَةٍ مّن طِينٍ } صفوة الماء يعني المني وهو اسم جنس ، والطين يراد به آدم إذ كانت نشأة من الطين كما سمى عرق الثرى أو جعل من الطين لكونه سلالة من أبويه وهما متغذيان بما يكون من الطين .

وقال الزمخشري : خلق جوهر الإنسان أولاً طيناً ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة انتهى . فجعل الإنسان جنساً باعتبار حالتيه لا باعتبار كل مردود منه و { مِنْ } الأولى لابتداء الغاية و { مِنْ } الثانية

قال الزمخشري للبيان كقوله { مِنَ الاْوْثَانِ } انتهى . ولا تكون للبيان إلاّ على تقدير أن تكون السلالة هي الطين ، أما إذا قلنا أنه ما انسل من الطين فتكون لابتداء الغاية . والقرار مكان الاستقرار والمراد هنا الرحم . والمكين المتمكن وصف القرار به لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال ، أو لتمكن من يحل فيه فوصف بذلك على سبيل المجاز كقوله طريق سائر لكونه يسار فيه ، وتقدم تفسير النطفة والعلقة والمضغة .

وقرأ الجمهور عظاماً و { العِظَامِ } الجمع فيهما .

وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبان والفضل والحسن وقتادة أيضا والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن بإفراد الأول وجمع الثاني .

وقرأ أبو رجاء وإبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضاً بجمع الأول وإفراد الثاني فالإفراد يراد به الجنس .

وقال الزمخشري : وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس لأن الإنسان ذو عظام كثيرة انتهى . وهذا لا يجوز عند سيبويه وأصحابنا إلاّ في الضرورة وأنشدوا :

كلوا في بعض بطنكم تعفوا

ومعلوم أن هذا لا يلبس لأنهم كلهم ليس لهم بطن واحد ومع هذا خصوا مجيئه بالضرورة { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً } قال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد ، هو نفخ الروح فيه .

وقال ابن عباس أيضاً : خروجه إلى الدنيا . وقالت فرقة : نبات شعره . وقال مجاهد : كمال شبابه .

وقال ابن عباس أيضاً تصرفه في أمور الدنيا . قال ابن

عطية : وهذا التخصيص لا وجه له وإنما هو عام في هذا وغيره من وجود النطق والإدراك ، وأول رتبة من كونه آخرنفخ الروح وآخره تحصيله المعقولات إلى أن يموت انتهى . ملخصاً وهو قريب مما رواه العوفي عن ابن عباس ، ويدل عليه قوله بعد ذلك { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيّتُونَ}

وقال الزمخشري ما ملخصه :{ خَلْقاً ءاخَرَ } مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً ناطقاً سميعاً بصيراً ، وأودع كل عضو وكل جزء منه عجائب وغرائب لا تدرك بوصف ولا تبلغ بشرح ، وقد احتج أبو حنيفة بقوله { خَلْقاً ءاخَرَ } على أن غاصب بيضة أفرخت عنده يضمن البيضة ولا يرد الفرخ . وقال { أَنشَأْنَا } جعل إنشاء الروح فيه وإتمام خلقه إنشاءً له . قيل : وفي هذا رد على النظام في زعمه أن الإنسان هو الروح فقط ، وقد بيّن تعالى أنه مركب من هذه الأشياء ورد على الفلاسفة في زعمهم أن الإنسان شيء لا ينقسم ، وتبارك فعل ماض لا يتصرف . ومعناه تعالى وتقدس و { أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } أفعل التفضيل والخلاف فيها إذا أضيفت إلى معرفة هل إضافتها محضة أم غير محضة ؟ فمن قال محضة أعرب { أَحْسَنُ } صفة ، ومن قال غير محضة أعربه بدلاً .

وقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أحسن الخالقين ، ومعنى { الْخَالِقِينَ } المقدرين وهو وصف يطلق على غيراللّه تعالى كما قال زهير :

ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري قال الأعلم : هذا مثل ضربه يعني زهيراً ، والخالق الذي لا يقدر الأديم ويهيئه لأن يقطعه ويخرزه والفري القطع . والمعنى أنك إذا تهيأت لأمر مضيت له وأنفذته ولم تعجز عنه . و

قال ابن عطية : معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئاً خلقه وأنشد بيت زهير . قال : ولا تُنفي هذه اللفظة عن البشر في معنى الصنع إنما هي منفية بمعنى الاختراع . وقال ابن جريج : قال { الْخَالِقِينَ } لأنه أذن لعيسى في أن يخلق وتمييز أفعل التفضيل محذوف لدلالة الخالقين عليه ، أي { أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } خلقاً أي المقدرين تقديراً . وروي أن عمر لما سمع { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ } إلى آخره قال { فَتَبَارَكَ اللّه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } فنزلت . وروي أن قائل ذلك معاذ .

وقيل : عبد اللّه بن أبي سرح ، وكانت سبب ارتداده ثم أسلم وحَسُنَ إسلامه .

﴿ ١٤