٦٦

لما فرغ من قصص هذه السورة ، أمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم بحمده تعالى والسلام على المصطفين ، وأخذ في مباينة واجب الوجود ، اللّه تعالى ، ومباينة الأصنام والأديان التي أشركوها مع اللّه وعبدوها . وابتدأ في هذا التقرير لقريش وغيرهم بالحمدلة ، وكأنها صدر خطبة لما يلقى من البراهين الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة . وقد اقتدى بذلك المسلمون في تصانيف كتبهم وخطبهم ووعظهم ، فافتتحوا بتحميد اللّه ، والصلاة على محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وتبعهم المترسلون في أوائل كتب الفتوح والتهاني والحوادث التي لها شأن .

وقيل : هو متصل بما قبله ، وأمر الرسول عليه السلام بتحميد اللّه على هلاك الهالكين من

كفار الأمم ، والسلام على الأنبياء وأتباعهم الناجين .

وقيل : { قُلْ } ، خطاب للوط عليه السلام أن يحمد اللّه على هلاك كفار قومه ، { وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} وعزا هذا القول ابن عطية للفراء ، وقال : هذه عجمة من الفراء .

وقرأ أبو السمال :{ قُلِ الْحَمْدُ للّه } ، وكذا : قل الحمد للّه سيريكم ، بفتح اللام ، وعباده المصطفون ، يعم الأنبياء وأتباعهم .

وقال ابن عباس : العباد المسلم عليهم هم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، اصطفاهم لنبيه ، وفي اختصاصهم بذلك توبيخ للمعاصرين من الكفار . وقال أبو عبد اللّه الرازي : لما ذكر تعالى أحوال الأنبياء ، وأن من كذبهم استؤصل بالعذاب ، وأن ذلك مرتفع عن أمة الرسول ، أمره تعالى بحمده على ما خصه من هذه النعمة ، وتسليمه على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة . انتهى ، وفيه تلخيص .

وقوله :{ اللّه خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } : استفهام فيه تبكيت وتوبيخ وتهكم بحالهم ، وتنبيه على موضع التباين بين اللّه تعالى وبين الأوثان ، إذ معلوم عند من له عقل أنه لا شركة في الخيرية بين اللّه تعالى وبينهم ، وكثيراً ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أنه لا شركه فيها وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على خطا مرتكبه . والظاهر أن هذا الاستفهام هو عن خبرية الذوات ، فقيل : جاء على اعتقاد المشركين حيث اعتقدوا في آلهتهم خيراً بوجه مّا ،

وقيل : في الكلام حذف في موضعين ، التقدير : أتوحيد اللّه خير أم عبادة ما يشركون ؟ فيما في أم ما بمعنى الذي .

وقيل : ما مصدرية ، والحذف من الأول ، أي أتوحيد اللّه خير أم شرككم ؟

وقيل : خير ليست للتفضيل ، فهي كما تقول : الصلاة خير ، يعني خيراً من الخيور .

وقيل : التقدير ذو خير . والظاهر أن خيراً أفعل التفضيل ، وأن الاستفهام في نحو هذا يجيء لبيان فساد ما عليه الخصم ، وتنبيهه على خطئه ، وإلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد ، وانتفائه عن الآخر ،

وقرأ الجمهور : تشركون ، بتاء الخطاب ؛ والحسن ، وقتادة ، وعاصم ، وأبو عمرو : بياء الغيبة . وأم في أم ما متصلة ، لأن المعنى : أيهما خير ؟ وفي { أَم مَّنْ خَلَقْنَا } وما بعده منفصلة . ولما ذكر اللّه خيراً ، عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله ، كما عدّدها في غير موضع من كتابه ، توقيفاً لهم على ما أبدع من المخلوقات ، وأنهم لا يجدون بداً من الإقرار بذلك للّه تعالى .

وقرأ الجمهور :{ أَمَّنْ خَلَقَ } ، وفي الأربعة بعدها بشد الميم ، وهي ميم أم أدغمت في ميم من .

وقرأ الأعمش : بتخفيفها جعلها همزة الاستفهام ، أدخلت على من ، ومن في القراءتين مبتدأ وخبره .

قال ابن عطية : تقديره : يكفر بنعمته ويشك به ، ونحو هذا من المعنى . وقدره الزمخشري : خير أما يشركون ، فقدّر ما أثبت في الاستفهام الأول ؛ بدأ أولاً في الاستفهام باسم الذات ، ثم انتقل فيه إلى الصفات . وقال أبو الفضل الرازي في { كتاب اللوامح} له : ولا بد من إضمار جملة معادلة ، وصار ذلك المضمر كالمنطوق به لدلالة الفحوى عليه . وتقدير تلك الجملة : أمن خلق السموات كمن لم يخلق ، وكذلك أخواتها ، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر فيها لقوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} انتهى . وتسمية هذا المقدّر جملة ، إن أراد بها جملة من الألفاظ فهو صحيح ، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو فليس كذلك ، بل هو مضمر من قبيل المفرد . وبدأ تعالى بذكر إنشاء مقر العالم العلوي والسفلي ، وإنزال ما به قوام العالم السفلي وقال :{ لَكُمْ } ،أي لأجلكم ، على سبيل الامتنان ، وأن ذلك من أجلكم . ثم قال :{ فَأَنبَتْنَا } ، وهذا التفات من الغيبة إلى التكلم بنون العظمة دالاً على اختصاصه بذلك ، وأنه لم ينبت تلك الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح بماء واحد إلا هو تعالى . وقد رشح هذا الاختصاص بقوله :{ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا}

ولما كان خلق السموات والأرض ، وإنزال الماء من السماء ، لا شبهة للعاقل في أن ذلك لا يكون إلا للّه ، وكان الإنبات مما قد يتسبب فيه الإنسان بالبذر والسقي والتهيئة ، ويسوغ لفاعل

السبب نسبة فعل المسبب إليه ، بين تعالى اختصاصه بذلك بطريق الالتفات وتأكيد ذلك بقوله : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} ألا ترى أن المتسبب لذلك قد لا يأتي على وفق مراده ؟ ولو أتى فهو جاهل بطبعه ومقداره وكيفيته ، فكيف يكون فاعلاً لها ؟ والبهجة : الجمال والنضرة والحسن ، لأن الناظر فيها يبتهج ، أي يسر ويفرح .

وقرأ الجمهور :{ ذَاتُ } ، بالإفراد ، { بَهْجَةٍ } ، بسكون الهاء ، وجمع التكسير يجري في الوصف مجرى الواحدة ، كقوله :{ أَزْواجٌ مُّطَهَّرَةٌ } ، وهو على معنى جماعة .

وقرأ ابن أبي عبلة ، ذوات ، بالجمع ، بهجة بتحريك الهاء بالفتح .

{مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } : قد تقدم أن نفي مثل هذه الكينونة قد يكون ذلك لاستحالة وقوعه كهذا ، أو لامتناع وقوعه شرعاً ، أو لنفي الأولوية . والمعنى هنا : أن إنبات منكم محال ، لأنه إبراز شيء من العدم إلى الوجود ، وهذا ليس بمقدور إلا للّه تعالى . ولما ذكر منته عليهم ، خاطبهم بذلك ؛ ثم لما ذكر ذمّهم ، عدل من الخطاب إلى الغيبة فقال :{ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } ، إما التفاتاً ،

وإما إخباراً للرسول صلى اللّه عليه وسلم بحالهم ، أي يعدلون عن الحق ، أو يعدلون به غيره ، أي يجعلون له عديلاً ومثيلاً . وقرىء : إلهاً ، بالنصب ، بمعنى : أتدعون أو أتشركون ؟ وقرىء : أإله ، بتخفيف الهمزتين وتليين الثانية ، والفصل بينهما بألف . ولما ذكر تعالى أنه منشىء السموات والأرض ، ذكر شيئاً مشتركاً بين السماء والأرض ، وهو إنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق بالأرض ، ذكر شيئاً مختصاً بالأرض ، وهو جعلها قراراً ، أي مستقراً لكم ، بحيث يمكنكم الإقامة بها والاستقرار عليها ، ولا يديرها الفلك ، قيل : لأنها مضمحلة في جنب الفلك ، كالنقطة في الرحى .

{وَجَعَلَ خِلاَلَهَا } : أي بين أماكنها ، في شعابها وأوديتها ، { أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ } : أي جبالا ثوابت حتى لا تتكفأ بكم وتميد . والبحران : العذب والملح ، والحاجز : الفاصل ، من قدرته تعالى ، قاله الضحاك . وقال مجاهد : بحر السماء والأرض ، والحاجز من الهواء . وقال الحسن : بحر فارس والروم ، وقال السدّي : بحر العراق والشام ، والحاجز من الأرض .

قال ابن عطية : مختاراً لهذا القول في الحاجز : هو ما جعل اللّه بينهما من حواجز الأرض وموانعها ، على رقتها في بعض المواضع ، ولطافتها التي لولا قدرته لبلع الملح العذب . وكان ابن عطية قد قدم أن البحرين : العذب بجملته ، والماء الأجاج بجملته ؛ ولما كانت كل واحدة منه عظيمة مستقلة ، تكرر فيها العامل في قوله :{ وَجَعَلَ } ، فكانت من عطف الجمل المستقل كل واحدة منها بالامتنان ، ولم يشرك في عامل واحد فيكون من عطف المفردات . ولأبي عبد اللّه الرازي في ذكر هذه الامتنانات الأربع كلام من علم الطبيعة ، والحكماء على زعمه ، خارج عن مذاهب العرب ، يوقف عليه في كتابه . والمضطر : اسم مفعول ، وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو حادث من حوادث الدهر إلى الالتجاء إلى اللّه والتضرع إليه ، فيدعوه لكشف ما اعتراه من ذلك وإزالته عنه .

وقال ابن عباس : هو المجهود . وقال السدّي : هو الذي لا حول ولا قوة له .

وقيل : هو المذنب إذا استغفر ، وإجابته إياه مقرونة بمشيئته تعالى ، فليس كل مضطر دعا يجيبه اللّه في كشف ما به .

وقال الزمخشري : الإجابة موقوفة على أن يكون المدعو به مصلحة ، ولهذا لا يحسن الدعاء إلا شارطاً فيه المصلحة . انتهى ، وهو على طريق الاعتزال في مراعاة المصلحة من اللّه تعالى .

{وَيَكْشِفُ السُّوء } : هو كل ما يسوء ، وهو عام في كل ضر انتقل من حالة المضطر ، وهو خاص إليّ أعم ، وهو ما يسوء ، سواء كان المكشوف عنه في حالة الاضطرار أو فيما دونها . وخلفاء : أي الأمم السالفة ، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو خلفاء النبي صلى اللّه عليه وسلم من بعده ، أو خلفاء الكفار في أرضهم ، أو الملك والتسلط ، أقوال .

وقرأ الحسن في رواية : ونجعلكم بنون المتكلم ، كأنه استئناف إخبار ووعد ، كما قال تعالى : { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ}

وقوله :{ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الاْرْضِ } : انتقال من حالة المضطر إلى رتبة مغايرة لحالة الاضطرار ، وهي حالة الخلافة ، فهما ظرفان . وكم رأينا في الدنيا ممن بلغ حالة الاضطرار ثم صار ملكاً متسلطاً .

وقرأ الجمهور : تذكرون ، بتاء الخطاب ؛ والحسن ، والأعمش ، وأبو عمرو : بياء الغيبة ، والذال في القراءتين مشددة لإدغام التاء فيها .

وقرأ أبو حيوة : تتذكرون ، بتاءين . وظلمة البر هي ظلمة الليل ، وهي الحقيقة ، وتنطلق مجازاً على الجهل وعلى انبهام الأمر فيقال : أظلم عليّ الأمر . وقال الشاعر :

تجلت عمايات الرجال عن الصبا

أي جهالات الصبا وهداية البر تكون بالعلامات ، وهداية البحر بالنجوم .

{وَمَن يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } : تقدم تفسير نظير هذه الجملة . وقرىء : عما تشركون ، بتاء الخطاب .{ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ } : الظاهر أن الخلق هو المخلوق ، وبدؤه : اختراعه وإنشاؤه . ويظهر أن المقصود هو من يعيده اللّه في الآخرة من الإنس والجن والملك ، لا عموم المخلوق . و

قال ابن عطية : والمقصود بنو آدم من حيث ذكر الإعادة ، والإعادة البعث من القبور ، ويحتمل أن يريد بالخلق مصدر خلق ، ويكون يبدأ ويعيد استعارة للإتقان والإحسان ، كما تقول : فلان يبدىء ويعيد في أمركذا إذا كان يتقنه .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : كيف قال لهم أمن يبدأ الخلق ثم يعيده وهم منكرون الإعادة ؟

قلت : قد أنعم عليهم بالتمكين من المعرفة والإقرار ، فلم يبق لهم عذر في الإنكار . انتهى .

ولما كان إيجاد بني آدم إنعاماً إليهم وإحساناً ، ولا تتم النعمة إلا بالرزق قال :{ وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاء } بالمطر ، { والاْرْضِ } بالنبات ؟{ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } : أي أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تدعون من إنكار شيء مما تقدم تقريره { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في أن مع اللّه إلهاً آخر . فأين دليلكم عليه ؟ وهذا راجع إلى ما تقدم من جميع الاستفهام الذي جيء به على سبيل التقرير ، وناسب ختم كل استفهام بما تقدمه .

لما ذكر إيجاد العالم العلوي والسفلي ، وما امتن به من إنزال المطر وإنبات الحدائق ، اقتضى ذلك أن لا يعبد إلا موجد العالم والممتن بما به قوام الحياة ، فختم بقوله :{ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } ،أي عن عبادته ، أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق مخترع . ولما ذكر جعل الأرض مستقراً ، وتفجير الأنهار ، وإرساء الجبال ، وكان ذلك تنبيهاً على تعقل ذلك والفكر فيه ، ختم بقوله :{ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، إذ كان فيهم من يعلم ويفكر في ذلك . ولما ذكر إجابة دعاء المضطر ، وكشف السوء ، واستخلافهم في الأرض ، ناسب أن يستحضر الإنسان دائماً هذه المنة ، فختم بقوله : قليلاً ما تذكرون ، إشارة إلى توالي النسيان إذا صار في خير وزال اضطراره وكشف السوء عنه ، كما قال :{ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ} ولما ذكر الهداية في الظلمات ، وإرسال الرياح نشراً ، ومعبوداتهم لا تهدي ولا ترسل ، وهم يشركون بها اللّه ،

قال تعالى :{ عَمَّا يُشْرِكُونَ} واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله :{ مَّعَ اللّه بَلْ } ، على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى .

قيل : سأل الكفار عن وقت القيامة التي وعدهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وألحوا عليه ، فنزل :{ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } ، الآية . والمتبادر إلى الذهن أن من فاعل يعلم ، والغيب مفعول ، وإلا اللّه استثناء منقطع لعدم اندراجه في مدلول لفظ من ، وجاء مرفوعاً على لغة تميم ، ودلت الآية على أنه تعالى هو المنفرد بعلم الغيب . وعن عائشة ، رضي اللّه عنها : من زعم أن محمداً يعلم ما في غد ، فقد أعظم الفرية على اللّه ، واللّه تعالى يقول :{ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّه } ، ولا يقال : إنه مندرج في مدلول من ، فيكون في السموات والأرض ظرفاً حقيقياً للمخلوقين فيهما ، ومجازياً بالنسبة إليه تعالى ، أي هو فيها بعلمه ، لأن في ذلك جمعاً بين الحقيقة والمجاز ، وأكثر العلماء ينكر ذلك ، وإنكاره هو الصحيح . ومن أجاز ذلك فيصح

عنده أن يكون استثناء متصلاً ، وارتفع على البدل أو الصفة ، والرفع أفصح من النصب على الاستثناء ، لأنه استثناء من نفي متقدم ، والظاهر عموم الغيب .

وقيل : المراد غيب الساعة .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي ؟ يعني في كونه استثناء منقطعاً ، إذ ليس مندرجاً تحت من ، ولم أختر الرفع على لغة تميم ، ولم نختر النصب على لغة الحجاز ، قال :

قلت : دعت إلى ذلك نكتة سرية ، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله : إلا اليعافير ، بعد قوله : ليس بها أنيس ، ليؤول المعنى إلى قولك : إن كان اللّه ممن في السموات والأرض ، فهم يعلمون الغيب ، يعني أن علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون اللّه منهم . كما أن معنى : ما في البيت إن كانت اليعافير أنيساً ، ففيها أنيس بناء للقول بخلوها عن الأنيس . انتهى . وكان الزمخشري قد قدم قوله :

فإن قلت : لم أرفع اسم اللّه ، واللّه سبحانه أن يكون ممن في السموات والأرض ؟

قلت : جاء على لغة بني تميم ، حيث يقولون : ما في الدار أحد إلا حمار ، كان أحداً لم يذكر ، ومنه قوله : عشية ما تغني الرماح مكانها

ولا النبل إلا المشرفي المصمم

وقوله : ما أتاني زيد إلا عمرو ، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه . انتهى . وملخصه أنه يقول : لو نصب لكان مندرجاً تحت المستثنى منه ، وإذا رفع كان بدلاً ، والمبدل منه في نية الطرح ، فصار العامل كأنه مفرغ له ، لأن البدل على نية تكرار العامل ، فكأنه قيل : قل لا يعلم الغيب إلا اللّه . ولو أعرب من مفعولاً ، والغيب يدل منه ، وإلا اللّه هو الفاعل ، أي لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا اللّه ، أي الأشياء الغائبة التي تحدث في العالم ، وهم لا يعلمون بحدوثها ، أي لا يسبق علمهم بذلك ، لكان وجهاً حسناً ، وكان اللّه تعالى هو المخصوص بسابق علمه فيما يحدث في العالم . وأيان : تقدم الكلام فيها في أواخر الأعراف ، وهي هنا اسم استفهام بمعنى متى ، وهي معمولة ليبعثون ويشعرون معلق ، والجملة التي فيها استفهام في موضع نصب به .

وقرأ السلمي : إيان ، بكسر الهمزة ، وهي لغة قبيلته بني سليم . ولما نفى علم الغيب عنهم على العموم ، نفى عنهم هذا الغيب المخصوص ، وهو وقت الساعة والبعث ، فصار منتفياً مرتين ، إذ هو مندرج في عموم الغيب ومنصوص عليه بخصوصه .

وقرأ الجمهور : { بَلِ ادرَكَ } ، أصله ادارك ، فأدغمت التاء في الدال فسكنت ، فاجتلبت همزة الوصل .

وقرأ أبي : أم تدارك ، على الأصل ، وجعل أم بدل .

وقرأ سليمان بن يسار أخوه : بل ادّرك ، بنقل حركة الهمزة إلى اللام ، وشدّ الدال بناء على أن وزنه افتعل ، فأدغم الدال ، وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالاً ، فصار قلب الثاني للأول لقولهم : اثرد ، وأصله اثترد من الثرد ، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام ، أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل ، ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل .

وقرأ أبو رجاء والأعرج ، وشيبة ، وطلحة ، وتوبة العنبري : كذلك ، إلا أنهم كسروا لام بل ؛ وروي ذلك عن ابن عباس ، وعاصم ، والأعمش .

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، وأهل مكة : بل ادرك ، على وزن أفعل ، بمعنى تفاعل ، ورويت عن أبي بكر ، عن عاصم .

وقرأ عبد اللّه في رواية ، وابن عباس في رواية ، وابن أبي جمرة ، وغيره عنه ، والحسن ، وقتادة ، وابن محيصن : بل آدرك ، بمدة بعد همزة الاستفهام ، وأصله أأدرك ، فقلب الثانية ألفاً تخفيفاً ، كراهة الجمع بين همزتين ، وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه الرواية ووجهها . وقال أبو حاتم : لا يجوز الاستفهام بعد بل ، لأن بل إيجاب ، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى : لم يكن كقوله تعالى :{ أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } ،أي لم يشهدوا ، فلا يصح وقوعهما معاً للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار . انتهى . وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد بل ، وشبهه بقول القائل : أخيراً أكلت بل أماء شربت ؟ على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني .

وقرأ مجاهد : أم ادرك ، جعل أم بدل بل ، وادرك على وزن أفعل .

وقرأ ابن عباس أيضاً : بل إدّارك ،

بهمزة داخلة على ادارك ، فيسقط همزة الوصل المجتلبة ، لأجل الإدغام والنطق بالساكن .

وقرأ ابن مسعود أيضاً : بل أأدرك ، بهمزتين ، همزة الاستفهام وهمزة أفعل .

وقرأ الحسن أيضاً ، والأعرج : بل ادرج ، بهمزة وإدغام فاء الكلمة ، وهي الدال في تاء افتعل ، بعد صيرورة التاء دالاً .

وقرأ ورش في رواية : بل ادّرك ، بحذف همزة ادرك ونقل حركتها إلى اللام .

وقرأ ابن عباس أيضاً : بلى ادرك ، بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي . وقرىء : بل آأدرك ، بألف بين الهمزتين . فأما قراءة من قرأ بالاستفهام ، فقال ابن عباس : هو للتقريع بمعنى لم يدرك علمهم على الإنكار عليهم .

وقال الزمخشري : هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم ، وكذلك قراءة من قرأ : أم ادّرك ، وأم تدارك ، لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة . انتهى . و

قال ابن عطية : هو على معنى الهزء بالكفرة والتقرير لهم على ما هو في غاية البعد عنهم ، أي اعلموا أمر الآخرة وادّركها علمهم .

وأما قراءة من قرأ على الخبر ، فقال ابن عباس : المعنى : بل تدارك علمهم ما جهلوه في الدنيا ، أي علموه في الآخرة ، بمعنى : تكامل علمهم في الآخرة بأن كل ما وعدوا به حق ، وهذا حقيقة إثبات العلم لهم ، لمشاهدتهم عياناً في الآخرة ما وعدوا به غيباً في الدنيا ، وكونه بمعنى المضي ، ومعناه الاستقبال ، لأن الإخبار به صدق ، فكأنه قد وقع . و

قال ابن عطية : يحتمل معنيين :

أحدهما : أنه تناهي علمهم ، كما تقول : أدرك النبات وغيره ، أي تناهى وتتابع علمهم بالآخرة إلى أن يعرفوا لها مقداراً فيؤمنوا ، وإنما لهم ظنون كاذبة ؛ أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتاً ، وتكون في بمعنى الباء متعلقة بعلمهم ، وقد تعدّى العلم بالباء ، كما تقول : علمي بزيد كذا ، ويسوغ حمل هذه القراءة على معنى التوقيف الاستفهام ، وجاء إنكاراً لأنهم لم يدركوا شيئاً نافعاً .

والثاني : أن أدرك : بمعنى يدرك ، أي علمهم في الآخرة يدرك وقت القيامة ، ويرون العذاب والحقائق التي كذبوا بها ،

وأما في الدنيا فلا . وهذا تأويل ابن عباس ، ونحا إليه الزجاج ، وفي على بابها من الظرفية متعلقة بتدارك . انتهى ، وفيه بعض تلخيص وزيادة .

وقال الزمخشري : هو على وجهين :

أحدهما : أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته وهم شاكون جاهلون ، وذلك قوله : { بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ } ، يريد المشركين ممن في السموات والأرض ، لأنهم لما كانوا في جملتهم نسل فعلهم إلى الجميع ، كما يقال : بنو فلان فعلوا كذا ، وإنما فعله ناس منهم . والوجه

الثاني : أن وصفهم باستحكامه وتكامله تهكم بهم ، كما تقول لأجهل الناس : ما أعلمك ، على سبيل الهزء به ، وذلك حيث شكوا وعموا عن إتيانه الذي هو طريق إلى علم مشكوك ، فضلاً عن أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته . وفي ادرك علمهم وادارك وجه آخر ، وهو أن يكون ادرك بمعنى انتهى وفني ، من قولهم : أدركت الثمرة ، لأن تلك غايتها التي عندها تعدم . وقد فسر الحسن باضمحل علمهم وتدارك ، من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك . انتهى .

وقال الكرماني : العلم هنا بمعنى الحكم والقول ، أي تتابع منهم القول والحكم في الآخرة ، وكثرة منهم الخوض فيها ، فنفاها بعضهم ، وشك فيها بعضهم ، واستبعدها بعضهم . وقال الفراء : بل ادرك ، فيصير بمعنى الجحد ، ولذلك نظائر ؛ أي لم يعلموا حدوثها وكونها ، ودل على ذلك { بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا } ، فصارت في في الكلام بمعنى الباء ، أي لم يدرك علمهم بالآخرة . قال الفراء : ويقوي هذا الوجه قراءة من قرأ : أدرك ، بالاستفهام . انتهى .

وأما قراءة من قرأ بلى بحرف الجواب بدل بل ، فقال أبو حاتم : إن كان بلى جواباً لكلام تقدم ، جاز أن يستفهم به ، كأن قوماً أنكروا ما تقدم من القدرة ، فقيل لهم : بلى إيجاباً لما نفوا ، د ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى :{ بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا } ، بمعنى : أم هم في شك منها ، لأن حروف العطف قد تتناوب ، وكف عن الجملتين بقوله تعالى :{ بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ} انتهى . يعني أن المعنى : ادّرك علمهم بالآخرة أم شكو ؟ ف { بل} بمعنى أم ، عودل بها الهمزة ، وهذا ضعيف جداً ، وهو أن تكون بل بمعنى أم وتعادل همزة الاستفهام .

قال الزمخشري :

فإن قلت : فمن قرأ بلى ادرك ؟

قلت : لما جاء ببلى بعد قوله : { وَمَا يَشْعُرُونَ } ، كان معناه : بلى يشعرون ، ثم فسر الشعور بقوله : ادرك علمهم في الآخرة ، على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم ، فكأنه قال : شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون ، كونها ، فيرجع إلى المبالغة في نفي الشعور على أبلغ ما يكون .

وأما من قرأ : بلى أدّرك ، على الاستفهام فمعناه : يشعرون متى يبعثون ، ثم أنكر علمهم بكونها ، وإذا أنكر علمهم بكونها ، لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها ، لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن .

فإن قلت : هذه الإضرابات الثلاث ما معناه ؟

قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم ، وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه ، والإزالة مستطاعة ، وقد جعل الآخر مبدأ عما هم ومنشأه ، فلذلك عداه بمن دون عن ، لأن العاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يبصرون . انتهى .

﴿ ٦٦